عندما علم بعض ضباط البحرية الشباب باقتراب سفينة "جان بار" الفرنسية العملاقة من شواطئ مصر للإغارة على مدينة بور سعيد أثناء العدوان الثلاثي سنة 1956، قرروا التصدي لها بأنفسهم. صاحب المبادرة كان ضابطاً سورياً شاباً برتبة ملازم يُدعى جول جمّال. كان في الرابعة والعشرين من عمره، ومعه زميله السوري نخلة سكاف من مدينة اللاذقية. كانت الخطة العسكرية تنص على تقدمهم بثلاثة زوارق بحرية نحو السفينة الفرنسية، وعلى متنها 88 ضابطاً فرنسياً وقرابة الألفي جندي، وضربها بالطوربيدات بهدف الإغراق والتدمير.
قرروا أن يتوجه جول جمّال نحو السفينة أولاً، وإذا لم ينجح، يأتي ضابط مصري لمساندته، وفي حال فشلهما أيضاً، يأتي دور الضابط السوري. استطاع جول جمّال أن يصل إلى نقطة قريبة من السفينة الهدف وضربها، ولكنّها لم تغرق كما كان يتنظر، بل توقفت وشلّت حرجتها، ولكنّ الطائرات الحربية الفرنسية أغارت عليه وقتلته.
جول جمّال لم يكن مسلماً بل مسيحياً أرثوذكسياً، أي أنه لم يضحّ بنفسه لأجل الدين، بل للقومية العربية، وليس لأجل سوريا، بل لمصر التي كان يعتبرها جزءاً من الوطن العربي الواحد
استشهد جول جمّال يوم 4 تشرين الثاني/أكتوبر 1956 ونعاه الرئيس السوري شكري القوتلي، الذي منحه الوسام العسكري الأكبر، وأمر بإطلاق اسمه على شارع رئيسي ومدرسة في كل من دمشق واللاذقية، وسمّى دورة عسكريه باسمه. وقد تبعه فوراً ومن دون تردد الرئيس المصري جمال عبد الناصر - الذي كان جول جمّال من أشد المعجبين به - ومنحه وسام النجمة العسكرية المصرية وأطلق اسمه على شارع في الإسكندرية، وآخر في حيّ الدقّي بالقاهرة، بالقرب من السفارة السورية.
وكرّمه بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق ألكساندروس الثالث طحّان بوِسام القديسين بطرس وبولس من درجة الوشاح الأكبر، وأطلق اسمه على شارع في مدينة رام الله الفلسطينية. وبعد وفاته بسنوات منحه الزعيم الليبي معمر القذافي وسام الفاتح سنة 1989. وفي سنة 1960 ظهرت شخصية جول جمّال في الفيلم المصري "عمالقة البحار" من بطولة أحمد مظهر وناديا لطفي، ولكنه كان مليئاً بالأخطاء التاريخية.
في سنة 2007، فكّر المخرج السوري غسان عبد الله بإنجاز مسلسل تلفزيوني عن حياة جول جمّال، ولكنه لم ير النور لأسباب تتعلق بظروف الإنتاج. وقد تحدث الشاعر السوري عمر الفرّا عن بطولة جول جمّال في قصيدة، جاء فيها:
"عبد الناصر…
يا جمال
هاي سلاح…
وهاي رجال
ولمن تعبت مصر الحُرّه
من حرب التنين الغادر
دزينا... فارس مغوار
فارس…
مثل الليل… العابس
نزل السّاحه... صال وجال
وقف حيا… العلم العربي
طالب ضابط بالبحريّه
الاسم الكامل: جول جمّال".
وأشاد نزار قباني بمعركة بور سعيد التي قُتل بها جول جمّال، قائلاً:
"إني أراها يا أبي، من خندقي، سفنَ اللّصوص
محشودةً عند المضيق
هل عاد قطاع الطريق؟
يتسلقون جدارَنا...
ويهددون بقاءنا...
فبلاد آبائي حريق".
كانت حياة جول جمّال قصيرة، فهو من مواليد قرية المشتاية في قضاء تلكلخ، وكان والده يوسف طبيباً بيطرياً ومديراً للصحة الحيوانية في مدينة اللاذقية، عُرف بمناهضته للانتداب الفرنسي. عاشت الأسرة في اللاذقية وفيها درس جول جمّال قبل انتقاله إلى دمشق للدراسة في الجامعة السورية، ولكنه سرعان ما غير من مسيرته والتحق بالكلية الحربية بحمص يوم أيلول/سبتمبر 1953، وتخرج منها ضابطاً بحرياً في أيار/مايو 1956، بعد إرساله إلى الكلية البحرية في الإسكندرية لتلقي التدريب.
لم يحظ جول جمّال بالتكريم الذي حظي به المجاهد الليبي عمر المختار، عندما أُنتج فيلم كامل عنه من قبل المخرج السوري العالمي مصطفى العقّاد، بل على العكس تماماً، جاء بعض الناس وحاولوا تشويه سمعته، فبعضهم من قال إنه "انتحر"، وقال آخرون إنه لم يمت في بور سعيد وظلّ على قيد الحياة، وهي الرواية التي تبنتها إسرائيل وقامت بالترويج لها. وفي نهاية الستينيات سادت مقوله إنهم على استعداد لتبادل "الأسير" جول جمّال برفات الجاسوس إيلي كوهين الذي أعدم في ساحة المرجة بدمشق سنة 1965.
هذا الكلام لا يمت إلى الحقيقة التاريخية بشيء. للأسف الشديد، معظم مذكرات الشخصيات السورية النافذة في خمسينيات القرن الماضي لا تأتي على ذكر جول جمّال، وليس لدينا إلا صورتان له فقط لا غير، وبعض المرويات الشفهية المتناقلة عبر الأجيال. أمّا عن الحقيقة، فهي أنه كان رجلاً استثنائياً بشجاعته، رجلاً وطنياً من سوريا ضحى بحياته لأجل مصر والعروبة.
جول جمّال تحوّل إلى أسطورة في العالم العربي، لا يضاهيه في الشهرة والبطولة إلا وزير الحربية السوري يوسف العظمة، الذي استشهد وهو يقاوم الجيش الفرنسي الزاحف نحو مدينة دمشق سنة 1920
في عصره وزمانه كانوا يسمونها "عملية فدائية" قبل أن تأخذ صبغة دينية في ثمانينيات القرن العشرين ليصبح اسمها "عملية استشهادية" وصار الغرب يسميها "عملية انتحارية".
جول جمّال لم يكن مسلماً، بل مسيحياً أرثوذكسياً، أي أنه لم يضحّ بنفسه لأجل الدين، بل للقومية العربية، وليس لأجل سوريا، بل لمصر التي كان يعتبرها جزءاً من الوطن العربي الواحد الذي كان ينادي به ويطمح إليه مع سائر أبناء جيله من القوميين العرب.
أما عن السفينة "التنين" بحسب قول عمر الفرّا، والتي أراد جول جمّال شطرها، فقد أطلقت أربع مدافع يتيمة على بور سعيد، ثم عادت إلى فرنسا بعد انتهاء العدوان الثلاثي. تحوّلت بعدها إلى سفينة للثكنات، دون المشاركة في أي عمليات قتالية، وفي سنة 1961 خرجت عن الخدمة بشكل نهائي ليتم شطبها من السجل البحري الفرنسي عام 1970 وبيعها في سوق الخردة الفرنسي.
لا أحد يذكر عنها شيء اليوم، أما جول جمّال، فقد تحوّل إلى أسطورة في العالم العربي، لا يضاهيه في الشهرة والبطولة إلا وزير الحربية السوري يوسف العظمة، الذي استشهد وهو يقاوم الجيش الفرنسي الزاحف نحو مدينة دمشق سنة 1920.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...