"بين غربتك في ديار أهلك/ وغربتك في بلاد الله/ لو ضي قنديل زهزهلك /مش ترمي كله وتجري وراه... يا هل ترى يا نور يا بعيد /أنت بصحيح ولا أنت سراب/ وهعيش معاك في الضي سعيد/ ولا غريب ما بين أغراب؟".
في أثناء قراءتي رواية "سراب دجلة"، الصادرة عن دار العين للنشر والتوزيع للكاتب خالد عبد الجابر، لم تفارقني هذه الكلمات للشاعر الراحل سيد حجاب.
أزمة وجودية بدءاً من العنوان: "سراب دجلة"
أسأل نفسي والكاتب وبطل روايته صادق: عن أي كنز نبحث في الغربة، إن كنا نعلم أن السراب يعانقنا في النهاية؟ ولكن أعود لأجيب نفسي، وما الحياة كلها سوى سراب كبير، وأتذكر رواية "الشحاذ" للعظيم نجيب محفوظ، تحديداً مشهداً بين المحامي عمر حمزاوي وعامل بسيط، أراد رفع قضية لاسترداد قطعة أرض، يعلم تمام العلم أن الدولة ستسطو عليها ثانيةً.
في رواية "سراب دجلة"، يأخذنا الكاتب في رحلة ليكشف لنا ما مضى في ستينيات القرن الماضي، بدءاً من النكسة مروراً بحرب تشرين الأول/أكتوبر إلى حرب الخليج الأولى والثانية، ونشم رائحة التاريخ التي تغمر أراضي البلدين عبر نهري النيل ودجلة
عندما استنكر عمر الموقف لما يحمله من عبث وعدمية، صدمه العامل بالرد الثاقب: "وما المشكلة، ألسنا نعيش الحياة، ونعلم أن الله سيأخذها منا في النهاية؟!". كانت تلك الجملة سبباً عميقاً في مواجهة البطل لأزمته الوجودية -وأزمتي أنا الأخرى- مع الحياة والموت.
الرسائل إطار أساسي يضمّ الحكاية الأصلية
بالعودة إلى رواية "سراب دجلة"، يحيلنا الإهداء إلى الخال الأبنودي والأسطى حراجي العامل في السد العالي وإلى البناء الأساسي الذي تقوم عليه الرواية، والرسائل التي يتبادلها كل من صادق وأبيه محمد محفوظ المصري، من العراق إلى مصر والعكس. يأخذنا الكاتب في رحلة ليكشف لنا ما مضى في ستينيات القرن الماضي، بدءاً من النكسة مروراً بحرب تشرين الأول/أكتوبر إلى حرب الخليج الأولى والثانية، ونشمّ رائحة التاريخ التي تغمر أراضي البلدين عبر نهري النيل ودجلة.
دمج تقنيات سردية في بناء روائي واحد
لم تكتفِ الرواية بأدب الرسائل فقط، بل دمجت الراوي العليم مع تقنية الأصوات، وامتزجت ثلاثة تقنيات سردية في بناء روائي واحد، ذابت معاً، مما جعل الحكي مشوقاً، وسريع الإيقاع في الحكاية الأصلية في بيت ريفي مصري بسيط، يشبه بيوتنا جميعاً؛ يعبّر عن طبقة أقل من المتوسطة، تسعى إلى تحسين أوضاعها والترقي في الهرم المجتمعي لتمتلك أرضاً صغيرةً لزرعها والعيش منها.
حضور التاريخ في خلفية الرواية
سلّط الكاتب الضوء على نكسة 67، ونصر 73، وحربي الخليج الأولى والثانية، ورمى بظلاله على عصر الملكية وانتهائه وبدء الجمهورية بحلول ثورة 52، ولم ينسَ الرجوع إلى حرب العراق والكويت، وحروب السنّة والشيعة في العراق، والحرب بين العراق وإيران. الأحداث التاريخية التي عاصرتها الأجيال الفائتة تحضر بقوة في خلفية الرواية، ونشاهد جميعاً التمزق الذي يحدث للشعوب جراء الحروب وما تخلفه من خراب ودمار وفقد.
"الحرب يا ولدي لا تفرّق بين سنّي وشيعي ولا تعرف اختلاف الأحزاب. الرصاص لا يعرف المذاهب. هل تعتقد أنهم في إيران لم يقتلوا الجنود الشيعة؟ سمعت عن ضابط من أصل عراقي اقتاد المئات وأطلق عليهم الرصاص. هل تعتقد أنه سألهم قبل قتلهم؟".
الجميع خاسر في الحرب
في الرسائل نعرف أحوال العراق والدفاع المقدّس عن قرارات صدام حسين وتحول الشوارع في بغداد للحديث اليومي عن السياسة والحرب وما آلت إليه والخوف من المستقبل وما ينتظر الشعوب. وأيضاً في مصر ما بين النكسة والنصر وما بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر، نعرف معاناة الناس من الفقد والأوضاع الاقتصادية المنهارة التي خلّفتها الحرب حتى لو انتصرنا. في الحرب الجميع خاسر حتى المنتصر.
"أنا أعرف الحرب، وأعرف مأساتها حتى المنتصر يخسر. رفعت رأسي بالنصر منذ سنوات، ثم نكستها حتى لا يرى دموعي أحد على فراق أخي وأعز أصدقائي... ذهبنا معاً وعدت وحيداً منتصراً أمام الجميع، خاسراً أمام قلبي".
تمزق داخل الوطن
يروي الكاتب الحكاية بالتقطير، بلغة شاعرية عذبة، تشبه الجو العام للريف المصري. نتعرف على خيوط الرواية من بدايتها إلى نهايتها؛ منذ سطو الأخ على إرث أخيه بعد وفاة والدهما الشيخ محفوظ وعلى القطيعة التي حدثت بينهما وبسببها تفرّق الأحفاد الثلاثة، وواجه كلّ منهم حياةً صعبةً بين غربة صادق مجبراً في العراق، وتمزق الحب بين عزيزة وخضر في مصر بين عائلتيهما المتنازعتين.
الجميع خاسر في الغربة
في الغربة، لا أحد يكسب، فلها ضريبة باهظة تدفعها من عمرك مقابل بعض الأموال التي تفاجأ بعد جمعها بأنها لم تعد لها قيمة مقابل فقدك أباً أو أماً أو أسرةً دافئةً كانت تجتمع ذات يوم على طبلية طعام. الفقد حتمي، ستدفعه مجبراً، ولن تستطع الأموال تعويضك عنه، والزمن يجري، يسبقنا جميعاً، وينتظرنا في النهاية ضاحكاً على حسبتنا الخاسرة. "عندما تركت الطائرة الأرض، وارتفعنا إلى السماء، انتظرت حتى استقرت لأقرب نقطة إلى الله، فنظرت لأعلى لأسأله لماذا دفعني إلى ترك أرضي والذهاب بعيداً؟".
التسلّط الأبوي مرآة لتسلّط الوطن على أبنائه
لم أرَ في تسلّط الأب إلا مرآةً تعكس تسلط الوطن على أبنائه، الذين عاشوا فيه مكبّلين بالحرب، الفقر، القهر، الاغتراب، العادات المجتمعية البالية، التمسك بحلم لن يصلوا إليه مهما فعلوا؛ لذلك عندما تلاشى التسلّط، تغيرت مصائر الشخصيات، لكن بقيت الجراح في قلب كل منهم لم تندمل، تحتاج إلى عمر فوق العمر لتُشفى. أما مصير البطل "صادق" فظل غريباً، وحيداً، ضائعاً، وحتى بعد عودته إلى وطنه، لم يشعر بانتماء، فكل شيء تغير، حتى حلم امتلاك الأرض لم يعد موجوداً.
"أنا أعرف الحرب، وأعرف مأساتها حتى المنتصر يخسر. رفعت رأسي بالنصر منذ سنوات، ثم نكستها حتى لا يرى دموعي أحد على فراق أخي وأعز أصدقائي... ذهبنا معاً وعدت وحيداً منتصراً أمام الجميع، خاسراً أمام قلبي"
تحول إلى سراب هو الآخر، وحل محله امتلاك بيت ومحل. وحده الزمن ما يدهس أحلامنا أمام عيوننا، فنتحول إلى مسوخ بشر بمسوخ أحلام. "شعرت أني لم أعد أنتمي إلى ذلك المكان، غريباً أو ضيفاً أو عابر سبيل ربما سيقضى وقتاً بينهم ثم يرحل لغربته، تاركاً لهم حياتهم التي عاشوها وقرروها دونه".
الاغتراب في الوطن أشد من الغربة
من وجهة نظري، عانى الجميع من الغربة في الوطن، منذ بداية الحكاية حتى نهايتها، فالفقر في الوطن غربة، والعمل في أرض الغير غربة، واستيلاء الأخ على إرث أخيه غربة، وانقطاع الرحم بين الإخوة غربة، وفراق قلبين متحابّين "عزيزة وخضر" غربة، والزواج بآخر غربة، وعيش زينب مع محمد غربة، وتفرّق صادق عن ابن عمه غربة، وفقد محمد لصديق عمره في الحرب غربة. الكل ذاق الغربة على أرض الوطن، وكانت غصتهم الرافضة للبلع، فلم تزد الحلق إلا مرارةً وحسرةً على السنوات الضائعة هباءً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه