كتبتُ سابقاً عن أعمال نورا ناجي بصفتها كاتبتي المفضلة، لكن اليوم أكتب عنها كواحدة من أهم كاتبات جيلها على الساحة الثقافية. في روايتها الأحدث "سنوات الجري في المكان" تتفوق على نفسها، فتضفر عبر خمس حكايات حكايةً كبيرة، تشبه جدارية عظمى لجيل كامل، تحمل داخلها لوحات ممتلئة بكولاج استثنائي من العناصر الفنية المدهشة.
لن أقول إن الرواية مكتوبة بحرفية عالية فحسب، لأنها تجاوزت تلك المرحلة بكثير، وهي أكبر من شهادتي فيها، بل يمكن القول إن أبسط تفصيلة في أصغر فصل، مكتوبة بالقلب والدم والأعصاب، لدرجة توجع القلب. الأبطال مجسدون أمامنا من لحم ودم، فنبكي أثناء القراءة ولن نعرف أهذا البكاء عليهم أم علينا؟!
أجمل ما فعلته نورا في سنوات الجري في المكان اختيارها للتجريب، جربت داخل الرواية، كتابةَ الشعر، المسرحية، اليوميات، ورواية داخل رواية، كما جمعت بين الراوي الأنا، والعليم، والمخاطب
الرواية أشبه برسالة رثاء أو تعزية لهذا الجيل لأنها تروي حكايته؛ نرى أنفسنا في سعد ومصطفى ويحيى ونانا وياسمين. من منا لم يحلم يوماً بإحداث فارق بسيط للأمام -ولو بقدر أنملة- عبر لوحة أو منشور على الفيسبوك أو قصة أو قصيدة في كتاب أو احتجاج أو صرخة وسط ميدان بشارع مكتظ بالناس، عن "وضع مقلوب" في بلد، كما سمى أحمد البسيوني مشروعه الفني أو سعد البيومي في الرواية.
صرخة في وجه الحياة قبل التلاشي
في بلد أبناؤه مقهورون، والقرارات المصيرية -مثل الزواج، الغربة، التحويل من كلية إلى كلية، الغوص في عمق بحر، النزول الى ثورة، مع احتمالية الموت، تؤخذ بناءً على أحداثٍ ربما تبدو عادية وتحدث في كل مكان بالعالم، لكن ما إن تجمعتْ جوارَ بعضها في بلد ما حتى شكلت صخرة في قلب صاحبها أو ربما على ظهره كسيزيف، لن يتخلص منها سوى بالصراخ. ليس للغضب، بل للتعبير عن النفس، الصوت، الكيان؛ أنا هنا أيها العالم! أنا هنا أيها الموت! أنا هنا أيتها الحياة! تحركي بدلاً من الثبات، أو بدلاً من الجري في المكان، قبل التلاشي.
تفاصيل تدفع إلى مصائر مأساوية
سعد لم ينزل إلى الميدان فجأة، بل بسبب نظرة موظف البنك الخجلى من أمّه، عندما أخبرها بسجلها المشين في عدم سداد ما عليها، والنقيب محمد الذي احتجزه بسبب معرض فني يعبر فيه عن أفكاره ومشاعره، عن هويته وكيانه، عن دموع أمه عندما قرر دخول تربية فنية بدلاً من فنون جميلة، لكثرة مصروفاتها، وعن العبارة التي تسببت في غرق أبيه، وحذائه البالي الذي رآه أسفل البحر واندفع نحوه بشكل كاد يهدد حياته، عن شكل الحقائب المتآكلة، وصدأ الدراجة والأجهزة الكهربائية. كل الأشياء التي رآها عندما غاص تحت الماء، وتلاشي الحياة قبل الموت، هي ما حرضته على النزول إلى الميدان، إذ شعر بحضور الموت قبل الحياة. التلاشي قبل رسمِ حاضرٍ أفضل لابنته ليلى مثلما تلاشى أبوه قبل رسم مستقبلٍ أفضل لابنه.
كذلك لم يشارك مصطفى في الثورة إلا عندما رأى الضابط يصفع سيدةً على وجهها. ذلك المشهد جعله يستدعي كل المواقف العنيفة التي ضربه فيها والده بقسوة هو وشقيقه وأمه.
العلاقات المعقدة بالآباء
كل بطل من الأبطال لديه علاقة معقدة مع أبيه؛ سعد مات والده غارقاً في البحر، ورفض والد ياسمين تمردها على عائلتها، أما والد مصطفى فاختار القسوة عليه وعلى شقيقه وأمه، ووالد يحيى هجره مبكراً.
الرواية أشبه برسالة رثاء أو تعزية لهذا الجيل، لأنها تروي حكايته، نرى أنفسنا في سعد ومصطفى ويحيى ونانا وياسمين.
الأب هنا رمز للوطن، للسلطة، لسيطرة الحكام الدائمة على الشعوب وإخضاعهم للأوامر بالغصب، العنف، السجن، الموت، مثلما حبس الضابط سعد، وصفع العسكري السيدة في الشارع أمام مصطفى، ومثلما قبضوا على يحيى وعرضوا نانا لكشف العذرية، واستشهاد سعد في النهاية. تعددت الأساليب العنفية والنهاية واحدة: كتم الصوت، انسحاق الهوية، تلاشي الأبناء بالإخضاع، الإجبار، الانحناء للأوامر أو للموت.
"رقد أبي قبلي على نفس الطاولة الباردة، وانتظر مثلي الخروج من هنا إلى المقبرة دون أن يحظى بلمسة أخيرة من أحبائه. كُتب اسمه في قائمة موتى السفينة وسيُكتب اسمي في قائمة موتى الميدان. كلنا في النهاية، مجرد أسماء تنتظر قوائمها".
شخصيات لا تغادر الذهن
رسمت نورا هنا شخصيات غير اعتيادية لا تغادر الذهن بسهولة، بداية من سعد، الفنان السمعي البصري الذي يعبر بمعارضِه الفنية عن نفسه، وصوته، وكيانه، محاولاً إيصال أفكاره إلى العالم، ومصطفى الذي يعاني من الميسوفونيا أو متلازمة حساسية الصوت الانتقائية التي تجعله لا يسمع سوى الأصوات الخافتة. خاصة بعدما رأى لحظة سقوط سعد:
"منذ أن رفعوه ككيس فارغ يرتدي ملابس بشرية صار لا شيء. لا ينساه، لكنه لا يتذكره ثمة ضباب ما تكون حول رأسه وتركز على أذنيه لم يسمع شيئاً من يومها وهو لا يسمع إلا أصواتاً بعينها طبقات خافتة من الصوت يسمعها بوضوح الأصوات العالية لا تسترعى انتباهه يمكنه أن يتجاهلها لأنها تبدو وكأنها قادمة من خلف طبقات كثيرة أو كأنه يسمعها ورأسه غاطس داخل إناء ماء. لذلك بعد انتهاء المعركة وعلى الرغم من الضجيج، دوائر البشر، فإنه لا يسمع شيئاً".
وياسمين المريضة بمتلازمة كوتار أو متلازمة الجثة المتحركة، وشعورها الدائم بأنها ميتة منذ رأته في المشرحة، وتخشّب جسد نانا كالتمثال. "كل القطط الميتة ماتت دون تشريح، لا نقف أمام قط ونقول مات من الجوع... مات من البرد... مات دهساً بعجلات سيارة في الظلام... مات دون أن يتوقف الكون... مات دون أن يشعر أحد بالذنب. كلّ الجثث التي كتبت تقاريرها ماتت دون أن أشعر بالذنب".
الرمزية في مسرحية الحلاق والملك
"أنا وأنت ونانا وسعد ومصطفى وياسمين الحلاق، والملك لا يزال ملكاً، لكن الجميع يعلم الآن أن أذنيه طويلتان، لأن الشجرة لا تتوقف عن الصياح، كلما قطعوها نبتت من جديد، وصاحت بالسرّ". الحوار في هذه المسرحية ممتع وانسيابي، نلتقط فيه أنفاسنا عند القراءة، خاصة النصوص النثرية عن رائحة الدماء، العرق، الجلد، القلب، الدموع.
انحياز دائم للفن حتى النهاية
أجمل ما فعلته نورا ناجي في "سنوات الجري في المكان" اختيارها للتجريب؛ جربت داخل الرواية، كتابةَ الشعر، المسرحيةَ، اليوميات، ورواية داخل رواية، كما جمعت بين الراوي الأنا، والعليم، والمخاطب. يحتاج التحول من شكل إلى آخر بسلاسة تامة إلى مجهود شاق للمحافظة على إيقاع السرد. فكتابة ناجي سهلة ممتنعة، انسيابية، وعميقة في ذات الوقت.
نجد أنفسنا متورطين في هذا النص، لن نستطيع أن نمسك دموعنا، ستزداد ضربات قلوبنا، ربما نصاب بنوبة هلع، نرى الشخصيات في الصحو والمنام، نستعيد معهم الحدث كأنه الأمس، وتنهال علينا الذكريات والأحلام
قدمت الكاتبة وجبة دسمة، لم يكن أساسها الفن فقط، بل قوامها مشاعر، أفكار، انكسارات، انتصارات، صعود، وهبوط هذا الجيل؛ جيل يناير الذي عاش أجمل حلم انتهى بأبشع كابوس. نجد أنفسنا متورطين في هذا النص، لن نستطيع أن نمسك دموعنا، ستزداد ضربات قلوبنا، ربما نصاب بنوبة هلع، نرى الشخصيات في الصحو والمنام، نستعيد معهم الحدث كأنه الأمس، تنهال علينا الذكريات والأحلام والطموحات التي وصلت إلى السماء ثم هوت بغتة على الأرض، فتحطمت وتحطم معها جيل كامل. هنا الأشخاص نعرفهم جيداً؛ إنهم إخوتنا، أصدقائنا، أقاربنا، زملاؤنا في العمل، إنهم نحن.
كل الأشخاص هنا جروا في المكان، عدا سعد، لأنه تقدم بخطوة تعادل الجري سنواتٍ ضوئيةً، سافر إلى عالم آخر، كُشفت له البصيرة، فُتحت عينه الثالثة، فرأى، وعرف، وفهم. وحده سعد الذي سبق جيله، بينما نحن جميعاً لا زلنا مع يحيى ومصطفى ونانا نجري في نفس المكان. هنا انحازت نورا للفن وحده فجاءت النهاية -ككل العمل- متسقة مع اختيارها الدائم له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه