شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"ضحكة خالد" وعينان مليئتان بالشرّ والرغبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والنساء

السبت 12 أغسطس 202302:01 م

نقول دائماً إن الموت يأخذ ولا يمنح، يسرق منا الحياة بكل ما فيها من شبق وإثارة وروح. فهل تتغير الثوابت وتتكسر مرارتها ويأتيك الموت نفسه ليمنحك قُبلة الحياة بطمأنينة لم تعرفها يوماً؟

طوال الطريق وأنا أقرأ رواية "ضحكة خالد"، للكاتبة شيرين فتحي التي حصلت مؤخراً على جائزة الدولة التشجيعية عن رواية "خيوط ليلى". أتساءل لماذا قررت الكاتبة أن تجعل من بطلها صورةً حيةً للموت بكل معانيه الحزينة والبائسة؟ لماذا أرادت أن تلقي ببطلة عملها في قبر الموت، وتجعلها في لحظات ترى النور وتنبهر به فتقرر دون تردد أن تُقبّل الموت وتعانقه بكل ما فيها من قوة.

تحب شيرين المرأة وتشفق عليها في كل الأحيان، تشعر بانكساراتها المستمرة كونها امرأةً أيضاً، وتمدّ يدها باستمرار لها لتمنحها أملاً وسط سيل الخذلان الذي تراه، وهذه من أهم قضاياها التي عبّرت عنها من خلال كتاباتها السابقة.

وفي روايتها "ضحكة خالد"، قررت الكاتبة أن توظف الرجل هذه المرة لخدمة قضية لطالما شغلتها. ربما قررت أن تصنع منه مركباً قد يأخذ ببطلتها أو حتى بجيل كامل إلى برّ الأمل.

هل يكون الموت صديقاً؟

هل تفتحون للموت بيوتكم بسهولة ورشاقة مغامر لا يهتم بالنتائج؟ ربما علينا جميعاً أحياناً أن نفعل، أن نتواءم معه وننظر إلى عينيه بجرأة، وألا نرتعش أمامه بخوف مثلما اعتدنا أن نفعل فيشعر بضعفنا ويزجّ بنا في الظلام اللا نهائي، وهو يعرف أنه الأكبر والأعلى وصاحب الكلمة.

وأنا أقرأ رواية "ضحكة خالد" أتساءل لماذا قررت الكاتبة أن تجعل من بطلها صورةً حيةً للموت بكل معانيه الحزينة والبائسة؟ 

لم تأخذ "ضحى" وقتاً طويلاً للتفكير حتى تقبل به، فأدخلته حياتها من أول وهلة. "خالد" رجل يفتقد كل علامات الحياة. تراه أمامك ميتاً دون أدنى شك، بينما في الحقيقة تشعر به يمرر يده الناعسة على قلبك فيهدّئ روحك الثائرة والغاضبة ويجعلك تصالح واقعك دون تردد.

لم يكن الموت غريباً عنها، فهو رفيقها منذ الطفولة. صادقته حينما كانت أمها تلقي عليها بهمومها وتراقب الموت فانتظرته ضحى بدلاً منها. كرهته عندما ماتت خوفاً من صفعات والدها وصراخه. جالسته عندما طاردتها الأحلام فخافت النوم وكرهت واقعها. ألِفته حينما طاردتها جزرة منير لتحولها إلى حمار، حتى تملصت منها. الموت صديقها والخوف رفيقها الدائم، لذا لم تخَف من ظل رجل كانت تضعه في أي مكان فيأخذ وضعه دون حركة، وتحوّل مع الوقت إلى جليس يبعث السكينة والطمأنينة في قلب امرأة لم تعرف الحب إلا بمعناه الشقيّ، ونفرت منها كل صوره السعيدة.

هنا جعلت الكاتبة من بطلتها قطعة قماش بيضاء ملطخةً ببقع الواقع المريرة التي تشتاق إلى أي تغيير يحرك ماء قلبها الراكد، ويزيد من سخونة يومها البارد بتفاصيل ربما تشعر بأنها مملة، ولكنها أصبحت بالنسبة لها الحياة بمرور الأيام، فكانت في أمسّ الحاجة إليه بقدر ما كان هو وأكثر.

نور لم نبصره

رسمت الكاتبة تفاصيل حياة "ضحى" بصورة لافتة تجعلك لا تتعجب وأنت تقرأ، فهي من لحم ودم مثلنا، طفولتها ستجد أنك عشت جزءاً منها ولو بتفاصيل مختلفة، وحياتها في الجامعة وقصة حبها مع "طارق" استطاعتا أن تصوّر لنا حياة الحب الصامت بكل هنّاته، بينما كان الخذلان هو الخذلان العام والدائم والمستمر ربما لجيلين سابق ولاحق.

لم تعِش ضحى حياةً سهلةً ومرنةً، بل كانت مصيدةً لكل ما هو معقّد وغبي، ربما لوالدتها التي حملت عبئاً أكبر منها فألقت به على كتفيها دون قصد، ولوالدها الذي عاش معها عقد الماضي وجعلها تعيش مشهد موته واختصها بتلك اللحظة القاتلة، بينما اختار أن يستلقي بصمت على السرير ويهدم كل خططها التي وضعتها لتعاقبه حينما تموت الأم، ولمنير زوجها المثقل بمشاهد الماضي المخزية لوالديه، والذي وُضع رغماً عنه في صندوق الحياة الجنسية الخبيثة فأدخلها معه وجعلها حبيسته، فكانت صرخاتها غذاءً لمرضه وتعويضاً عن حياة لم ترتمِ تحت قدميه.

حرمت الكاتبة "ضحى" من نور الحب، ولكنها منحتها بصيرةً في معرفة الآخر وفهمه واستنطاقه أحياناً لتحوّل خالد القعيد البائس إلى بطل ليومها المظلم. ربما كافأتها بالنور وإن ظل في النهاية نوراً خافتاً.

في روايتها "ضحكة خالد"، أخرجت الكاتبة مشاعر اليأس التي يعيشها الإنسان كونه يظهر بصورة لا تعكس حقيقته وطبيعته الداخلية. 

السرّ يكمن دائماً في هذه الطفولة التي عشناها ورسّبت في داخلنا الآلام والشعور بالرفض. في روايتها تمكّنت الكاتبة من خلال لغتها القوية والحساسة من تشريح هذه الرواسب، ليس بالكتابة العادية فقط، بل أيضاً بالشعر الذي كان بطل الرواية كذلك:

"أراهما من ثقب الباب

أمي واقفة في منتصف الغرفة

بعينين مليئتين بالشر

والرغبة،

وأبي منكمش في ركن الحجرة

يخفي شيئه الصغير بورقة توت

تشبه كفه.

أمي تنقسم عدة مرات وتتوحد ببعضها من جديد

وتملأ الحجرة،

وأبي آخذ في الانكماش

أمي تصبح في حجم الغرفة،

بينما يخرج أبي صغيراً

يخرج أبي صغيراً

صغيراً جداً من ثقب الباب".

في روايتها "ضحكة خالد"، أخرجت الكاتبة مشاعر اليأس التي يعيشها الإنسان كونه يظهر بصورة لا تعكس حقيقته وطبيعته الداخلية. عشنا مع كبت "ضحى" ومع "طارق" وعكست مرآته كبتنا الداخلي، تمنينا لو أزاحت هذا الحجر الثقيل عن قلبها وباحت بما يجول في صدرها. تعاطفنا مع منير أحياناً، وأخذتنا الشفقة على "عظيمة" و"ممدوح". عرفنا أن من لا يبصر النور من الصعب أن يكون شفاءً لك، وأن من يكسر ويجرح مليء بالانكسارات.

صنعت "ضحى" لنفسها ضوءاً من خلال أحلامها التي تباغتها من وقت إلى آخر؛ مرةً تضيّق عليها الخناق ومرةً تمنحها المتسع الذي تشتاق إليه في حلمها. الموت لم يكن هذا البعبع الذي نخشاه، بل جاءتها "عواطف" بعد الموت بهدية وحضن مبشّر، وأخبرها والدها عن حياته الجديدة التي يستمتع بها. في عالمها الفضائي الواسع، كانت ضحى لا تستسلم للموت بل تواجهه.

ميلاد الجسد

قد تأتي لحظة الميلاد حينما تتصور أنك أضعت كل فرصك. وقد تأتيك من موضع لم تتوقعه أبداً. حينها عليك فقط أن تستسلم ولا تبرر لذاتك وتحلل وتدقق وتفوت لحظات الاستمتاع بالتمحيص والتساؤلات اللا نهائية التي لن تكسبك إلا الخسارة فقط.

ظنت "ضحى" أن كل فرص جسدها قد انتهت مع "منير". لم تحظَ أبداً بتلك الحياة التي حلمت بها. غاصت في رجولته الزائفة وتباهيه الواهي وقررت بمرور الوقت أن تتناسى احتياجات جسد ظمآن إلى كل معاني الحب الطبيعية ومتعطش إلى كل اللمسات الحرة غير التقليدية. لذا، عندما واتتها اللحظة المناسبة، فكّت رباط قلبها ومعه تخلصت من أي تقليد قد يمنعها، ومنحت جسدها لخالد وروت جسده الزائل بحب أبدي.

"تتساءل: كيف لم يتمكن منير من اكتشاف جسدها كما حدث مع خالد، أم تراها هي من اكتشفت هذا الجسد الذي أعلنت ميلاده الآن فقط؟ كيف أنكرها الحي، ولم يثبت وجودها إلا هذا الراقد على الفراش بلا حراك كالجثة؟".

أمل أم سراب؟

ألم الحرمان والتوهان، جزء صغير من حرمان أكبر وألم يمد جذوره في كل شبر من بلد نعيشه، هكذا تقول الكاتبة وتحكي عن انطفاء ثورة عاش على أمل رؤية نورها جيل كامل، ولكن انفرط العقد وتاه الجميع عن الطريق وأصبح الكل مذنباً.

تحب شيرين المرأة وتشفق عليها في كل الأحيان، تشعر بانكساراتها المستمرة كونها امرأةً أيضاً، وتمدّ يدها باستمرار لها لتمنحها أملاً وسط سيل الخذلان الذي تراه

لم تكن "ضحى" من المشاركات في الهتاف هنا وهناك، ولكن كان لها نصيب من مرارة حزن ارتد على بلد كامل وتجرعته أجيال لاحقة. عرفت أن حبيبها الأوحد "طارق" كان قد فلت منها هناك، وضاع وسط هذا العالم المظلم الذي بان لنا منيراً فصدقناه وسرنا وراءه كالعميان، فحرمها من الأمل وجعلها ترمي نفسها دون أن تفكر، لأي طالب يُظهر لها بعض علامات العشق الوهمية. كان "طارق" ضحيةً، مثلما كانت ضحى.

وبرغم صفعات الواقع، نظل نأمل في هذه اليد الخفية الممدودة لنا من بعيد وإن لم نرَها. نريد بكل ما أوتينا من قوة أن نصدق أنها موجودة، وأن نفتح أعيننا على آخرها لندقق في تفاصيلها ونمد أيادينا لنمسك بكل قوتنا علّنا ننجو من الغرق المحتوم. هكذا يكون الأمل؛ يأتينا في صور عديدة ومشتتة، يرتدي أحياناً ثوب الحياة والفرح، وفي أحيان أخرى يأتي في رداء الموت والفقد. ولكنه يظل هو هذا النور البعيد الذي ننظر إليه مبتسمين وقلوبنا تنتظر البشرى.

لم تهتم "ضحى" بما إذا كان خالد حياً أم ميتاً، كما لم تهتم الكاتبة أبداً، ولم نهتم نحن القرّاء تالياً، أو نحاول الإجابة عن هذا السؤال. غرقنا معاً داخل هذا الشيء الذي ينبت داخلها، لعله موت جديد أو نور لحياة أبدية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فعلاً، ماذا تريد النساء في بلادٍ تموج بالنزاعات؟

"هل هذا وقت الحقوق، والأمّة العربية مشتعلة؟"

نحن في رصيف22، نُدرك أنّ حقوق المرأة، في عالمنا العربي تحديداً، لا تزال منقوصةً. وعليه، نسعى بكلّ ما أوتينا من عزمٍ وإيمان، إلى تكريس هذه الحقوق التي لا تتجزّأ، تحت أيّ ظرفٍ كان.

ونقوم بذلك يداً بيدٍ مع مختلف منظمات المجتمع المدني، لإعلاء الصوت النسوي من خلال حناجر وأقلام كاتباتنا الحريصات على إرساء العدالة التي تعلو ولا يُعلى عليها.

Website by WhiteBeard
Popup Image