شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
صفقة

صفقة "محمد صلاح" … دراما الاختيار في مسرح المال والكرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الجمعة 8 سبتمبر 202302:18 ص

من حقائق الاقتصاد الأساسية، أو لنقل من حقائق السوق، أنه لا يوجد "سعر حقيقي" لأي سلعة، فكل شيء وأي شيء يمكن في لحظة أن ينخفض ثمنه إلى قروش قليلة، أو يرتفع إلى الملايين والمليارات، حسب الحاجة والظروف والسياقات.

إنها حقيقة راسخة، لكنها كثيرا ما تُنسى في الظروف الطبيعية، ولو لم تُنسى لفقد الناس شعورهم بمعدل ارتفاع الأسعار (في غالب الأحوال) أو انخفاضها (نادراً). وعادة ما يعود الناس لإدراك تلك الحقيقة في لحظات التضخم الكبير، حين يصبح باستطاعتهم أن يشاهدوا بالعين المجردة قفزات الأسعار اليومية، ويفقدون الإحساس بقيمة الأوراق الملونة التي بين أيديهم والتي كان لها اعتبارها وكانت تسمى نقودا أو راتبا.

لكن ثمة لحظات أخرى، أشد ندرة، حيث لا يكتفي السعر بطبيعته المتلاعبة فحسب، بل يكتسح من فرط جنونه كل قيمة أخرى، حتى يكاد يخرج بالمسألة من ساحة السوق إلى ساحة الدراما، وتصبح مواجهته، أو تحديه، أو تجاهله، أقرب إلى موقف لأحد الأبطال التراجيديين في مسلسلات أسامة أنور عكاشة، أو الحائرين في مسرحيات شكسبير. تدق أجراس هذا المسرح الواقعي، فيتوحد كل إنسان مع القصة، ويسأل نفسه: لو كنت أنا مثلا في مكان نجم الكرة محمد صلاح، هل كنت لأقبل العرض المالي الخيالي المهول وأنتقل من ليفربول الإنجليزي- حيث مجدي وتاريخي ومستقبلي- إلى اتحاد جدة السعودي؟

مثل كل دراما جيدة، لا تسهّل الحبكة الاختيار على البطل، فهو لا ينتقل مثلا من الفقر إلى الثروة، إذ أن صلاح في ناديه الإنجليزي ليس فقيرا بل هو أحد أغنى لاعبي كرة القدم، فضلا عن مجد اللعب في أقوى دوري على كوكب الأرض، كما أنه أيضا – لتحافظ الحبكة على جودتها – ليس أمام خيار الانتقال إلى مجرد "مكان صحراوي" ليس فيه إلا المال الوفير (جدا)، بل هو بصدد الانتقال إلى بطولة سبقه إليها عدد من أبرز نجوم العالم، على غرار رونالدو ونيمار وبنزيمة، وأشهر منافسيه الأفارقة مثل محرز ومانيه. باختصار، حرمت الحبكة النجم المصري من أي "لوم" لو أنه اتخذ أحد الخيارين، ويعني هذا، أنها وضعته في هذا النوع المعهود من العذاب؛ عذاب أن تمتلك كليا مسؤولية قرارك الكبير، الذي يمكن أن يصير مأثرة أو أمثولة لملايين المتابعين الذين طالما ألهمتهم. وتلك – كما في مناجاة هاملت – هي المسألة.

مثل كل دراما جيدة، لا تسهّل الحبكة الاختيار على البطل، فهو لا ينتقل مثلا من الفقر إلى الثروة، إذ أن صلاح في ناديه الإنجليزي هو أحد أغنى لاعبي كرة القدم، كما أنه ليس أمام خيار الانتقال إلى مجرد "مكان صحراوي" ليس فيه إلا المال الوفير (جدا)، بل هو بصدد الانتقال إلى بطولة سبقه إليها عدد من أبرز نجوم العالم

جرافيتي لمحمد صلاح في حارة مصرية - تصوير محمود الخواص

إن السؤال الأصعب، أو الأعمق، الذي واجه هاملت، الأمير الدنماركي في أشهر مسرحيات شكسبير، لم يكن صعوبة مهمة الانتقام لأبيه في ظل طبيعة هاملت المسالمة . كان السؤال الأهم، سؤال الـ "أكون أو لا أكون"، هو أن هاملت، كان يمكنه – إذا شاء – أن يتفادى التراجيديا ويختار الحياة الرغدة الواعدة، أن يرفل في هناء العيش ويتزوج من حبيبته أوفيليا، أن يُسكت الهواجس في ذهنه ويفضّل الثراء ووراثة العرش يوما ما، ولا ملام لأن أحدا – غيره وغيره القاتل – لا يعرف أن أباه الملك قد مات قتلا. حتى أن هاملت نفسه ليس واثقا إن كان شبح أبيه الذي أخبره بالجريمة هو رؤية حقيقية أم خيالا شيطانيا أو هاجسا عقليا، في تخبطه بين تلك الأسئلة يطلعنا على عذاباته عبر المونولوجات المتعددة في المسرحية التي تعد أطول مسرحيات شكسبير.

سؤال الكفاية كانت قد طحنته استهلاكية ومخاوف السنوات الأخيرة. ليس زمنا بعيدا ذاك حين كان نجوم الفن يلامون إذا شاركوا في دعاية تجارية، كان مقبولا بالكاد- في زمن أقدم – أن تنشر صورة في جريدة تقول إن أم كلثوم تستعمل صابون نابلسي شاهين

وعلى العكس، في مسرحيته الطويلة بطول فترة الانتقالات، يبقى صلاح صامتا، فهو لاعتبارات كثيرة يفتقر إلى حرية إنشاد المونولوجات، إلا من إشارة غامضة نشرها على موقع انستجرام؛ مقطع فيديو من أحد البرامج وقد احتلت الشاشة عبارة تقول"يفتقد معظم الناس الإرادة الحرة". إشارة درامية وصفتها الصحافة بـ "الغامضة"، وتزداد غموضا بالنظر إلى ثروة صلاح ونجوميته. تحب المواقع الصحافية التي سال لعابها على العرض السعودي أن تترجم المبالغ المعروضة على صلاح وناديه إلى الجنيه المصري "مبالغ تساوي تسعة مليارات جنيه، بل أحد عشر مليار جنيه". مبالغ تُفقد أكثر الناس صوابهم، وتنتزع "إرادتهم الحرة" لأنها تكاد تصم من يرفضها بالأنانية "يمكن أن تساعد بلدك بهذا المال" يقول البعض الذي أذهلته الأرقام إلى درجة فقدان التمييز بين حجم المبالغ بالنسبة للأفراد وحجمها بالنسبة للدول. على كل حال، فإن ثروة صلاح الحالية (حوالي 200 مليون دولار) يمكن ترجمتها إلى مليارات الجنيهات أيضا، بعد ما أصاب الجنيه من تضخم أثر التعويمات المتتالية. وصلاح ليس رجل شركات، ليس مارك زوكربرج أو جيف بيزوس أو إيلون ماسك، المحكوم عليهم بمضاعفة ملياراتهم وإلا فقدوها، إنه لاعب كرة ورب أسرة صغيرة، تكفيها "ملياراته" إلى أجيال لاحقة، هذا كله أعاد إلى الواجهة سؤال الكفاية: ما هي المرحلة التي يتوقف فيها الإنسان عن الحاجة إلى زيادة المال؟ هل هناك فارق حقيقي – بالنسبة للأفراد- بين المليار الثاني، والمليار العشرين؟

سؤال الكفاية كانت قد طحنته استهلاكية – ومخاوف- السنوات الأخيرة. ليس زمنا بعيدا ذاك حين كان نجوم الفن – مثلا – يلامون إذا شاركوا في دعاية تجارية، كان مقبولا بالكاد- في زمن أقدم – أن تنشر صورة في جريدة تقول إن أم كلثوم تستعمل صابون نابلسي شاهين، أما أن يظهر الفنان بذاته و"يمثل" في دعاية تلفزيونية فقد ظل ذلك مستهجنا إلى – ربما – بدايات التسعينيات، ويزداد الاستهجان كلما كان ذلك الممثل "قديرا"، هكذا تعرضت سناء جميل لنقد شديد حين ظهرت في دعاية تلفزيونية قبل ثلاثة عقود. يبدو ذلك كله الآن كحكايات من العصر الحجري، ليس فقط لأن الفنانين مهما بلغ ثرائهم صاروا يتنافسون على "أحلى إعلان" وأعلاها أجرا، بل لأن الأسئلة القديمة، أسئلة سينما الأبيض والأسود ومسلسلات الثمانينيات عن"المادة" مقابل الروح والقيم، والأفلام التلفزيونية التي تنتقد "البترول يا علي"، صارت تنتمي إلى متحف النوستالجيا، ولم تعد تظهر إلا على استحياء حين تتعرض مناطق المقابر الأثرية للـ "تطوير" فيتداول الناس مقاطع مسلسل "الراية البيضا"، أما بعيدا عن لحظات الاستحياء تلك فقد بدا أن الجميع، الطبقات بأنواعها، النجوم بمختلف فئاتهم، الدولة نفسها، لا تحترم أي شيء قدر ما تحترم المال. أثناء ذلك كان صلاح يبني حكايته في البريميرليج، يؤسس أسطورة ويصبح قدوة لملايين الشباب معناها "نحن نستطيع"، يتغنى "الغرب" باسمه في المدرجات ويفرض نفسه على قوائم الكرة الذهبية كل عام، تكتب الصحافة عن تأثيره في مواجهة الإسلاموفيا و"تحسين صورة العرب والمسلمين واللاعب المصري"، إن كل تلك التأثيرات هي "قيم" خالصة، وعندما جاء المال، المال المهول، وأخذ يتضخم أمام كل رفض، كما في حكاية أسطورية، متعهدا بأنه سيعود غدا إن لم ينتصر اليوم، لم يكن أمام الناس سوى حبس أنفاسهم، انتظار لمعرفة كيف ستنتهي المسرحية .

 







رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image