إن عنوان المقال كان هو الجملة الأولى التي تبادرت إلى ذهني عندما انتشر منذ بضعة أيام، إعلان في مصر لـ "داعية إسلامي" يُدعى أمير منير، يعلن عن "تطبيق" يمكنك أداء العُمرة من خلاله لأحد الأقارب، بمقابل 4000 جنية مصري. ورغم أن هناك في العقيدة الإسلامية ما يجيز أداء الحجّ والعمرة بالنيابة عن الغير، إلا أنه أمر محكوم بضوابط وشروط شرعية، وإعلان كهذا لا يعدو كونه طريقة جديدة للاحتيال، أو كما صرّحت دار الإفتاء المصرية على صفحتها على فيسبوك، في منشور بعنوان "سماسرة الدين"، أنه "باب لتفريغ الشعائر الدينية من مضمونها"، وقد نُشرت أخبار مؤخراً تفيد بالقبض عليه بتهمة الاحتيال.
في الحقيقة لم تكن "التجارة الدينية" وليدة عصرنا، فمنذ اكتشاف الإنسان عموماً وأصحاب المصلحة الشخصية والمادية خصوصاً، حاجة النفس البشرية لملجأ أسمى أو لمأوى ديني، حتى تفننوا في الأساليب التي يتكسبون منها عبر هذا السبيل، فلم يكن الأمر مقتصراً على دين بعينه وفترة زمنية خاصة، لكنه أمر يتغيّر فقط بحسب أدوات العصر ومقتضيات المراحل.
لقطات من تاريخ تجارة الدين
لنرجع بالتاريخ قليلاً، ونتذكر أوروبا في العصور المظلمة وتحكّم الكنائس في رعاياها وبيعهم ما كان يعرف "بصكوك الغفران".
انتشر منذ بضعة أيام، إعلان في مصر لـ "داعية إسلامي" يُدعى أمير منير، يعلن عن تطبيق يمكنك أداء العُمرة من خلاله لأحد الأقارب، بمقابل 4000 جنية مصري، ثم نُشرت أخبار مؤخراً تفيد بالقبض عليه بتهمة الاحتيال
يذكر المؤلف سفر بن عبد الرحمن الحوالي، في كتابه: "العِلمانيَّة - نشأتهَا وتطوّرهَا وآثارُهَا في الحيَاة الإسلاميَّة المُعَاصِرَة"، عن تاريخ نشأة صكوك الغفران، أنه لمّا استشعر الأوروبيون هزيمة قواتهم أمام المسلمين في الحروب الصليبية، وبلغ ضعف الحماس الديني في نفوس الأوروبيين مبلغاً كبيراً، وفقد المقاتلون ثقتهم في الكنيسة نتيجة لخيبة أملهم في النصر الذي وعدتهم به، ولم يروا للمسيح والملائكة والقديسين أثراً في معاركهم، بل على العكس تخيلوا أنهم يقفون ضدهم تماماً، وبذلك اهتزّ موقف الكنيسة، وأيقنت أن وعودها المعسولة بالنصر وقراراتها الشفوية بالمغفرة للمشتركين في الحرب لم تعد تؤدي مفعولاً مؤثراً، فقرّرت تجسيد هذه الأماني في وثيقة خطية محسوسة يحملها المقاتل، ويندفع للاشتراك في الحملة الصليبية وهو على ثقة وعزم، وتنفيذاً لذلك برزت إلى الوجود "صحوك الغفران".
لكن حينها لم يقتصر الأمر على الجنود فحسب، فهذه الصكوك كانت تَصدر لكل صاحب مال: ارتكبت إثماً؟ لا تحزن، ادفع تنجو.
وعلى الجانب العربي أيضاً، كانت للمصلحة التجارية المرتدية عباءة الدين أكبر الدور في التاريخ العربي، فالعربي تاجر وكل شيء يصلح للتجارة. فعندما تسلّطت قريش على العرب كافة، كان من بين أهم أساليبها لذلك هو الحجّ وخدمة الحجيج، حتى بعد البعثة النبوية، ما كانت حرب قريش على محمد، إلا من خشيتهم من أنه سيفسد عليهم تجارة الأصنام والعبيد، وحتى بعد المصالحة واستباب الأمر للدين الإسلامي وأصحابه، كان ذلك من مصلحة قريش أيضاً، بعد جمعهم للسلطة الدينية والاقتصادية والاجتماعية في الجزيرة كافة.
ولا ننسي قبلها قصة "السامري والعجل الذهبي"، فالسامري، تاجر الدين الأقدم، الذي أستغل الفراغ الذى خلّفه غياب موسى فوق الجبل لأربعين يوماً، وقرر تنفيذ خطة للثراء بذهب اليهود، والذين أقنعهم بصناعة إله بديل عن إله موسى، وجمع ذهبهم وصهره ليصنع لهم العجل الإله، مستغلاً إدراكه التام لطريقة تفكير قومه في تطلعهم لوجود إله مرئي.
التجارة مع الله
الآن، لنعد إلى أزمنتنا المعاصرة. ففي النصف الثاني من القرن الماضي، عرف بعض الرجال مِن أين تُؤكل الكتف، واخترعوا لنا مصطلح "التجارة مع الله"، نعم هم كانوا يشرحون الجملة التي يردّدها الجميع، بأنها تعني أفعال الخير والالتزام بأوامر ونواهي الشرع، الأمر الذى يزيد عدد الحسنات ويُدخل الجنة. لكن ما حدث على الأرض كان ترجمة حرفية للجملة، وصارت "التجارة بدين الله".
"ارتقاءك لربنا في قيام الليل بعد الفطار وفى التراويح أحلى"، تلك كانت جملة من الإعلان التجاري والذي كان بطله الداعية عمرو خالد، منذ بضع سنوات، يعلن عن منتجات أحد شركات الدجاج، وكان يدعو الله لقبول صيام من يأكلون دجاج هذه الشركة
فبعدما تمكنت أفكار جماعة الإخوان المسلمين في مصر من العامة، خاصة الأفكار التي تركز فقط على المظاهر الدينية التي من أهمّها الملابس، بدأ أولئك يكملون سير الخطة. بالتأكيد لم يقتصر الأمر على الملابس النسائية، لكن وعلى مظاهر الرجال أيضاً، وأضحى طبيعياً ما يشاع بين العامة أن الملتحي شخص متدين، إذن هو جدير بالثقة، ومن هذا المنطلق ظهرت شركات توظيف الأموال مثلاً التي يقوم على إدارتها أشخاص ملتحون لا يتحدثون إلا بالدين، وتكشّف الأمر عن خدعة أذهبت أموال المودعين، في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
أباطرة صناعة "المنتجات الإسلامية"
الأفكار الجديدة التي غزت الشارع المصري تطلّبت منتجات استهلاكية جديدة، وحتى الآن تروج في العالم العربي عامة، ومصر بصفة خاصة، تجارة عملاقة تسمى بـ "ملابس المحجبات". في الواقع، لم يقتصر الأمر على الملابس فحسب، بل إن المتجوّل في الأسواق سيسمع عن "مانكير إسلامي، جوارب إسلامية، مكياج إسلامي، وأفراح إسلامي، وغناء إسلامي... وهكذا، وخلال فترة ليست بالطويلة، طغت هذه الصيحة على ثلاثة أرباع الشارع المصري.
وكان لابد لرواد أعمال "المُنتجات الإسلامية" أن يحوزوا على الصناعات بأكملها، فيصنعون قطعاً مُكمّلة للملابس، فمثلاً ينتج المصنع "الإسلامي" قميصاً نسائياً بلا أكمام، على غرار التصميم الأوروبي للقطعة، ليباع بسعر ما، وبما أننا في عصر "المنتج الإسلامي" فلا يصح للأخت المسلمة ارتداء القميص العاري الأكمام، فماذا نفعل؟ فلنصنع لها أكماماً منفصلة وتباع بأسعار منفصلة، أو قميصاً بأكمام تحت القميص من غير أكمام، وهكذا تحوّل المظهر النسائي في السنوات الأخيرة إلى نشاز يسير في الشارع، وباتت مَن تخالف هذا النشاز بملابس طبيعية تبدو وكأنها غريبة. هذا بالتأكيد بخلاف صناعة الحجاب والخمار والنقاب والإكسسوارات الأخرى الخاصة بهن.
وبالتالي، من غير المستغرب تجارة "داعية التطبيق"، فببساطة، راجت أيضاً في السنوات القيلة الماضية، خاصة مع انتشار الإنترنت بهذا التوسع، ظاهرة الدعاة التجّار، ولنذكر بعضهم تالياً:
"فراخك تدخلك الجنة"
"ارتقاءك لربنا في قيام الليل بعد الفطار وفى التراويح أحلى"، تلك كانت جملة من الإعلان التجاري والذي كان بطله الداعية عمرو خالد، منذ بضع سنوات، يعلن عن منتجات أحد شركات الدجاج، وكان يدعو الله لقبول صيام من يأكلون دجاج هذه الشركة، خرج علينا بعدها عمرو خالد ليبرّره، بعد الهجوم الضاري والسخرية منه، فاعتذر، وقال إنها مجرّد "خيانة تعبير"، على أساس أنه يرتجل أمام الكاميرا مثلاً، وحتى في الاعتذار، كان يروج لأعمال نفس الشركة، ولا يزال الإعلان موجود على موقع يوتيوب.
ولم يكن ذلك الإعلان التجاري الوحيد المصبوغ باللون الديني الذي أدّى دور البطولة فيه "الداعية" عمرو خالد، فقد أعلن عن عطور "عبد الصمد القرشي"، وقال نصاً: "إن الطريقة التي يعرضون بها عطورهم تتفق مع القيم الإسلامية التي تدعو إلى الجمال"، حتى أنه طرح عرضاً خاصاً لمتابعيه على الصفحة، عندما ابتهل ودعا لهم في الحرم المكي: "اللهم ارض عن كل الشباب والبنات اللي على هذه الصفحة".
في أوائل تسعينيات القرن الماضي، ظهرت شركات توظيف الأموال التي يقوم على إدارتها أشخاص ملتحون لا يتحدثون إلا بالدين، وتكشّف الأمر عن خدعة أذهبت أموال المودعين ومدخراتهم إلى الأبد
وإذا كان كبار تجّار الدين يستخدمون التطبيقات الحديثة في تجارتهم، فهناك صغار التجار، ممن يكون جمهورهم المستهدف الطبقة البسيطة، لكن متاجرتهم تكون بشكل مختلف. فمثلاً، الكثير من القنوات الفضائية غير المُرخّصة، يروج فيها الإعلان الذى يطلب المساعدات لبناء المسجد: "تبرّعوا لبناء المسجد".
في السابق، كان القائم على هذا الإعلان يعزف على نغمة أن أصحاب هذه القرية يصلّون في مكان متواضع، مصنوع من جريد النخل، لكن الأمطار تفسده، ويناشد المؤمنين لإنقاذ هؤلاء المصلين، ويتبرعوا لبناء المسجد بالطوب لحماية المصلين من تقلبات الجو.
سابقاً، كان الذي يقوم بالإعلان شخصاً عادياً، لكن فيما بعد صار يؤتى بممثل يرتدي "زِي الشيوخ"، جبة وقفطان وعمامة أزهرية، ولا تخلو جُمَلِ الحوار الذى يلقيه أمام الكاميرا من آيات قرآنية وأحاديث نبوية. الغريب أن المساجد التي تنتظر البناء من سنوات، وتُجمع لها هذه التبرعات، ولا تزال على حالها لم تُبن بعد، ولا تزال منذ أعوام تُجمع من أجلها التبرعات!
في أحد روايات أتش جي ويلز، الفنتازية التي تحكي عن المستقبل البعيد، كتب الروائي فصلاً كاملا يحكي عن تجارة الدين، بل وفصّل الأسعار التي تباع بها هذه السلعة: الأجر المناسب للتعويض عن كل أثم، أسعار لتوصيل خدمات التديّن للمنازل، وأسعار خاصة عندما تختار كاهناً في مواعيد معين في العام، وعلى ما يبدو، لا ينتظر أن تنتهي، أو حتى تبور، التجارة بالدين قريباً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...