أطل من غرفة الفندق، أو "البنسيون" إن شئت الدقة، البحر هادئ، أقول لنفسي: لا شيء يضاهي جمال الإسكندرية في آذار/مارس، أعبّئ رئتي بهواء منعش قدر المستطاع، واستعد للسير قدماً من محطة الرمل إلى مكتبة الإسكندرية، المسافة ليست طويلة بالنسبة لي، وليس هناك ما يمنعني من التمتّع بتلك "التمشية" في آخر أيام إجازتي التي لم تستمر طويلاً، نصف ساعة وكنت على أبواب المكتبة، أسأل موظف الاستقبال عن مكان متحف محمد حسنين هيكل.
افتُتح المتحف في شباط/فبراير 2022، وعلى حد علمي هو أول متحف يُقام لصحفي في مصر، وبصفتي صحفياً فيسعدني ذلك، لكن لم تسر الأمور كما خططت، فداخل مكتبة الإسكندرية الكثير من القاعات والآثار التي تُجبرك على الوقوف أمامها طويلاً حتى تكاد تنسى ما جئت من أجله، ولأني وحدي تماماً، تجوّلت لمدة ساعتين، اضطررت بعدها للسؤال مرة أخرى عن المتحف، فرد موظف: "هتلاقيه بعد متحف السادات على طول"، إجابة دفعتني للضحك الذي أثار فضول محدثي، فأجبته: "يعني ملقوش غير المكان ده؟".
اضطررت للسؤال مرة أخرى عن متحف محمد حسنين هيكل، فرد موظف: "هتلاقيه بعد متحف السادات على طول"، إجابة دفعتني للضحك الذي أثار فضول محدثي، فأجبته: "يعني ملقوش غير المكان ده؟"
نعم، مفارقة غريبة، فالسادات وهيكل يجمعهما علاقة طويلة، بدأت بتقارب وصل إلى حد أن كتب الأخير التوجيه المعنوي لحرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وانتهت بصدام، دفع الرئيس إلى وضع "الجورنالجي" على رأس قائمة اعتقالات أيلول/سبتمبر الشهيرة عام 1981، فما كان من هيكل سوى الخروج وكتابة "خريف الغضب"، مجلده الذي تناول فيه السادات شخصياً، وعدّه كثيرون انتقام شخصي من الكاتب ضد الرئيس، والآن، وبعد رحيل الاثنين، لم تجد الدولة مكاناً آخر لمتحف هيكل سوى هنا، بجوار رجل له معه تلك العلاقة، وكأنهما من خلال المتحفين سيكتبان فصلاً جديداً من الصراع.
لم يكن متحف السادات الذي بدأت به، متحفاً بالمعنى المتعارف عليه، هي قاعة كبيرة تحتوي بعض مقتنياته: زيّه العسكري الذي اغتيل به في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1981، رسائل كتبها بخط يده، بعض الهدايا التي تلقّاها، صوره مع قادة العالم، أدوات حلاقته من شِفرات ومرطبات وعطور. ضحكت حين رأيت ذلك، لم يبق سوى أن يترك لنا جزءاً من ملابسه الداخلية ليخّلد أثره ورائحته، أما مكتبه الذي أحيط بحاجز يمنع الاقتراب منه، لم يكن فيه شيء غريب: مكتب خشبي فوقه "براويز" تحمل صوره مع زوجته السيدة جيهان السادات، وخلفه مكتبة بها كتاب واحد، هو "200 يوم حول العالم" للكاتب أنيس منصور المقّرّب منه.
ورغم أني كنت في منتصف الأسبوع، لكن عدد الزائرين لم يكن قليلاً، بعضهم أجانب وآخرون مصريون، ما أسعدني رؤية طلاب ثانوية عامة داخل المتحف الذي غادرته، لأدخل متحف محمد حسنين هيكل المجاور.
ليس هناك ملابس أو شِفرات حلاقة في متحف "هيكل" الذي يستقبلك بنسخة أولى من كتابه "ملفات السويس"، بعدها شهادة تعليمه في المراحل الأولية مختومة من وزارة المعارف "التربية والتعليم" لاحقاً، مصطلح "المعارف" نفسه أشعرني كم عاش هذا الرجل طويلاً، وهو ما ترسّخ بصورته مع فاروق، ملك مصر قبل 1952، وهو يمنحه جائزة تفوق صحفي، ذكر هيكل أنه حصل عليها مرتين، وكان يستحقها في الثالثة لكنهم أعطوها لغيره، تفاصيل صغيرة تؤكد أنه صحفي ماهر من البداية، بغض النظر عن مواقفه التي نتفق ونختلف حولها.
بعد تلك البداية، وفي أكبر ركن في القاعة، يبرز "هيكل الصحفي"، عدسة مكبرة، جوازات سفره الدبلوماسية، بعض الهويات الصحفية، وجائزة الريادة الممنوحة له من هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" بمناسبة مرور 60 عام على تأسيسها، وكما حوى متحف السادات صوره مع قادة العالم. اشتمل متحف هيكل أيضاً على جدارية تجمع بعض صوره مع أشهر قادة ومفكري العالم، بداية من آينشتاين ومروراً بنهرو وتشي غيفارا وماوتسي يونغ، ووصولاً إلى ديجول وميتران، وساسة أمريكيين ووزراء خارجية ومتحكمين في بلادهم، واللافت أن جميع الصور لا توحي بصحفي يلتقط صورة تذكارية بجوار زعيم أو مفكر تاريخي، بل صور تحوي قامة بجوار قامة وتاريخاً بجوار تاريخ، أما مكتب هيكل الذي وجدته أكبر من مكتب السادات، فلم يكن وراءه مكتبة تحوي كتباً، فقط أوراق صفراء وقلم واعتقد أن ذلك "لزوم الديكور".
بعد انتهاء جولتي، وفي المسافة القريبة الفاصلة بين المتحفين، وقفت وتخيّلت هذا الحوار بين الرجلين، هيكل وهو يصرخ. لا، لم أشاهده يصرخ من قبل، وجدته بصوته الهادئ ونظراته الماكرة يقول للسادات:
بدأ السادات كلامه بـ"شخرة" طويلة، سمعها كل من في المتحفين، ثم توجّه إليهم بالحديث متجاهلاً هيكل، وقائلاً بصوت عالِ بنبرته المعروفة: "هو في إيه... انتوا جايبني تهزقوني هنا"
"أرأيت؟ ظننت أنك ستحرمني من الكتابة بطردي من رئاسة تحرير الأهرام، لكنني بقيت وكتبت أشهر كتبي، منهم ما تناولك شخصياً. اعتقلتني وأردت القضاء علي، فعشت بعدك 35 عاماً حراً، وبعد رحيلي، كرّمتني الدولة التي ترأستها بمتحف يضم مقتنياتي، مثلك تماماً، بل ومن الصدف أنه في نفس المكان، وزيارته نفس ثمن تذكرة متحفك، ويجيئني زوّار من كل دول العالم كما يجيئونك، لكننا لسنا سواء، أنت رئيس وطبيعي أن يكون لك متحف، أما أنا، ينظرون إلي كأول صحفي يقام له متحف في هذا البلد، وأين؟ أمام الرئيس الذي اعتقله، وموظفوك الذين أسميتهم أولادك، هم من يحرسون مكتبي وبعض كتبي وجوائزي ليل نهار".
انتهى هيكل من حديثه، وانتظرت رد السادات على ذلك، دفاعه عن نفسه، توضيح بعض القرارات أو حتى الحسرة على زمن أقيم فيه متاحف لأرباب السجون، وإن كان هو نفسه من أربابها، لكن الرئيس الأسبق لم يفعل ذلك، بضيقه المعروف من المناقشات وكراهيته الراسخة لـ "الأفندية الأرازل"، بدأ كلامه بـ"شخرة" طويلة، سمعها كل من في المتحفين، ثم توجّه إليهم بالحديث متجاهلاً هيكل، وقائلاً بصوت عالِ بنبرته المعروفة: " هو في إيه... انتوا جايبني تهزقوني هنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.