عرف التاريخ الإسلامي ظهور العديد من النساء اللاتي تمتعن بأقدار متفاوتة من السلطة، كما لعبن أدواراً مهمة على مسرح الأحداث السياسية. كانت الخيزران بنت عطاء الجرشيّة واحدة من أولئك النساء. بدأت الخيزران مسيرتها كجارية متواضعة الحال، ولكنها سرعان ما ارتقت المناصب لتتمكن من المشاركة في إدارة الدولة العباسية في عصر ثلاثة من الخلفاء المتعاقبين في القرن الثاني الهجري.
الجارية التي استحوذت على قلب الخليفة
تتفق المصادر التاريخية على الاسم الكامل للخيزران، وهو الخيزران بنت عطاء الجرشيّة. تضاربت آراء المؤرخين حول أصولها. فقيل إنها بربرية أمازيغية من بلاد المغرب، كما قيل إنها يمنية من جنوب شبه الجزيرة العربية. بغضّ النظر عن هذا التضارب، تتفق المصادر على أن الخيزران قد بيعت إلى الخليفة المهدي بعد وصوله إلى عرش الدولة العباسية.
ورد خبر اللقاء الأول بين الخليفة والجارية في كتاب "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. يذكر ابن الجوزي أن المهدي أُعجب كثيراً بجمال الخيزران فقال لها: "والله يا جارية، إنّكِ لعلى غاية التمنّي، ولكنّك خمْشَة الساقين -أي ضعيفة الساقين- فقالت: يا مولانا، إنك أحوجُ ما تكون إليهما لا تراهما...."، أُعجب الخليفة بردّ الخيزران الذي جمع بين الذكاء والدلال معاً، فأمر بشرائها لتنضمّ إلى جواري القصر الخلافي.
من أهم الأدلة المؤكدة على الدور السياسي المتميز الذي لعبته الخيزران في تلك المرحلة أنها كانت تشارك في تعيين الولاة؛ على سبيل المثال أخذ المهدي بمشورتها في تعيين محمد بن سليمان على ولاية البصرة
بعد فترة قصيرة من وصولها لقصره، نجحت الخيزران في إثارة إعجاب المهدي. استغلت الجارية اليمنية مواهبها الفطرية في الاستحواذ على قلب الخليفة. وتمكنت من خلال الفطنة والذكاء من أن تصبح أقرب الجواري إلى نفسه. كذلك استعانت الخيزران بمعارفها الدينية الواسعة، والتي حصّلتها في صغرها عندما درست على يد الإمام الأوزاعي. ولذلك لم تمرّ شهور معدودة حتى سارع المهدي إلى عتق الخيزران، ثم تزوج منها لتصبح السيدة الأولى في قصر الخلافة العباسية. زادت مكانة الخيزران عند المهدي بعدما وَلدت منه موسى وهارون، وهما الطفلان اللذان سيُقدر لهما اعتلاء عرش الخلافة عقب وفاة أبيهما بعد سنوات.
ظهرت دلائل الحبّ المنعقد بين المهدي والخيزران في الكثير من الأشعار التي تناقلها الناس عبر القرون. على سبيل المثال يحكي ابن كثير الدمشقي في كتابه "البداية والنهاية" أن الخيزران سافرت لمكة للحج في إحدى السنوات، فأرسل لها المهدي مستوحشاً إياها:
"نحن في غاية السرور ولكن/ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي/إنكم غيب ونحن حضور
فأجدوا في السير بل إن قدرتم/أن تطيروا مع الرياح فطيروا"
ردت عليه الخيزران شعراً كذلك فقالت:
"قد أتانا الذي وصفتم من/ الشوق ولكن ما قدرنا نطير
ليـت إن الريـاح ينقـلن/ شوقي إليكم وما يكن الضمير
لم أزل صبة فإن كنت بعدي/ في سرور فدام ذاك السرور"
لم يمنع حب المهدي للخيزران من وقوع بعض المشكلات الاعتيادية التي تقع عادةً بين الأزواج. واللافت هنا أن الخيزران كانت تتعامل مع تلك المشكلات بطريقة يشوبها الدهاء والذكاء بغية الحفاظ على أفضليتها في قلب زوجها.
قيل إنها: بربرية أمازيغية من بلاد المغرب، كما قيل إنها: يمنية من جنوب شبه الجزيرة العربية. بغض النظر عن هذا التضارب، تتفق المصادر على أن الخيزران قد بيعت إلى الخليفة المهدي بعد وصوله إلى عرش الدولة العباسية.
على سبيل المثال يذكر ابن الجوزي في كتابه أن المهدي غضب من الخيزران في أحد الأيام، وكان معه المحدّث المشهور الواقدي. فلمّا استشعر الواقدي غضب الخليفة أراد أن يهون عليه وبدأ يذكره ببعض الأحاديث النبوية التي تأمر الرجال بالرفق بالنساء. هدأ المهدي عندها وأمر بمكافئة للواقدي، وأنصرف المحدث إلى بيته سعيداً ليجد رسول الخيزران يلحق به ويقول له: "تقرأ عليك ستي السلام وتقول لك: يا عم قد سمعت جميع ما كلمت به أمير المؤمنين فأحسن الله جزاك وهذه ألفا دينار إلا عشرة دنانير بعثت بها إليك لأني لم أحب أن أساوي صلة أمير المؤمنين....". وهكذا، حرصت الخيزران على ان تستحوذ على قلب زوجها بكل وسيلة ممكنة، حتى أنها كانت تكافئ جلسائه الذين يدعونه للهدوء عند غضبه منها.
لم تكتف الخيزران بالاستئثار بقلب زوجها فحسب، بل نراها تشارك بشكل عملي في صنع القرار في الدولة العباسية. يقول ابن الطقطقي موضحاً تلك النقطة في كتابه الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية: "...إن الخيزران كانت متبسطة في دولة المهدي تأمر وتنهى، وتشفع وتبرم وتنقض، والمواكب تروح وتغدو إلى بابها....".
من أهم الأدلة المؤكدة على الدور السياسي المتميز الذي لعبته الخيزران في تلك المرحلة أنها كانت تشارك في تعيين الولاة. على سبيل المثال أخذ المهدي بمشورتها في تعيين محمد بن سليمان على ولاية البصرة. الأمر الذي رد عليه الوالي الجديد عندما "أهدى إلى الخيزران مائة وصيف بيد كل وصيف جام من ذهب مملوء مسكاً"، بحسب ما يذكر ابن الجوزي.
الصدام مع الهادي
في سنة 169هـ توفي الخليفة المهدي وآل الحكم إلى ابنه الأكبر وولي عهده موسى المُلقب بالهادي. كان موسى في الخامسة والعشرين من عمره عندما أعتلى كرسي الخلافة. وقد لعبت أمه الخيزران دوراً مؤثراً في اجتماع الكلمة عليه ومبايعته عقب وفاة أبيه.
لم تمر شهور معدودة على خلافة الهادي حتى وقع الصدام بينه وبين أمه. كان الخليفة الجديد معروفاً بالغيرة وبسرعة الغضب. وقد أنزعج لمّا وجد أن قادة الدولة يقصدون أمه لتقضي لهم حوائجهم أو ليأخذوا منها المشهورة والرأي. وقع الخلاف الأول بين الهادي وأمه بسبب رغبة الأخيرة في قضاء حاجة لقائد الشرطة عبد الله بن مالك.
يتحدث المسعودي عن تفاصيل هذا الصدام في كتابه "مروج الذهب" فيقول إن الخليفة لمّا عرف بمقابلة قائد الشرطة لأمه فإنه غضب غضباً شديداً، وقال لأمه: "... ويل لابن الفاعلة، قد علمت أنه صاحبها، والله لا قضيتها لك، قالت: إذن والله لا أسألك حاجة أبداً، قال: إذن والله لا أبالي. وحمي، وقامت -أي الخيزران- وهي مُغضبة". بعدها وجه الهادي تحذيراً لأمه وأمرها بالبعد عن أي عمل من أعمال السياسة والحكم.
فقال لها بحسب ما يذكر ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك": "... لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم! أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟!...".
لم يكتف الهادي بتحذير أمه، بل أذاع تحذيراته الغاضبة في جميع رجال دولته وقال لهم: "...أيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقولوا: فعلت أم فلان، وصنعت أم فلان، وقالت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قال: فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها؟! فلمّا سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتة....".
تذكر بعض الروايات أن تدخل الخيزران في أعمال السياسة قد ظل مستمراً رغم تحذير الخليفة لها. وأنها كانت تخطط لإزاحة الخليفة الشاب من العرش ليجلس عليه أخوه هارون الرشيد. ولذلك، عزم الهادي على أن يتخلص من أمه فبعث لها بطعام مسموم، ولكن إحدى الجواري نبهت الخيزران قُبيل أن تأكل من الطعام فنجت من الموت.
بعد فترة قصيرة، توفي الهادي في سنة 170هـ بعد أن قضي سنة وبضعة شهور على كرسي الخلافة، وترسم المصادر الإسلامية صوراً متعددة لتلك الوفاة، وتتباين أقوال المؤرخين في توضيح علاقة الخيزران بها.
يذهب أصحاب الرأي الأول إلى أن الملك عقيم وأن الخيزران اختارت أن تضحي بابنها في سبيل الحفاظ على نفوذها في الدولة، وأنها قد دبرت لقتل الهادي. يقول الطبري ناقلاً عن بعض الرواة: "... إن سبب موت الهادي كان أنه لما جد في خلع هارون والبيعة لابنه جعفر، وخافت الخيزران على هارون منه، دست إليه من جواريها لما مرض من قتله بالغم والجلوس على وجهه....".
في السياق نفسه، يذكر ابن الجوزي أن الهادي لمّا أشتد به المرض في أيامه الأخيرة "... وجاءت أمه الخيزران وبه رمق فأخذت خاتمه من يده وقالت: أخوك أحق بهذا الأمر منك. وهو يرى ذلك ولا يقدر على حيلة....".
أما أصحاب الرأي الثاني فينتصرون لعاطفة البنوة وغريزة الأمومة، فيرفضون التصديق بمشاركة الخيزران في جريمة قتل ابنها. يتضح ذلك في الرواية التي نقلها الطبري في كتابه والتي جاء فيها إن الهادي قد استدعى أمه في لحظاته الأخيرة وآثر أن يموت بين يديها وقال لها: "... أنا هالك في هذه الليلة، وفيها يلي أخي هارون، وقد كنت امرتك بأشياء ونهيتك عن أخرى، مما أوجبته سياسة الملك، لا موجبات الشرع من برك، ولم أكن بك عاقاً، بل كنت لك صائناً وبراً واصلاً، ثم قضى قابضاً على يدها، واضعاً لها على صدره".
يذكر الطبري أن هارون الرشيد قد حزن حزناً شديداً عند وفاة الخيزران. وأنه قد سار في جنازتها باكياً حافياً حتى ألتصق الطين بقدمه. وهكذا، أُسدل الستار على قصة الخيزران
على الجانب الأخر، أًصر بعض الرواة على استدعاء الغيبيات لتخليد مشهد نهاية الخليفة الهادي. في هذا السياق نقل ابن كثير بعض الروايات التي تذكر أن الخيزران قالت في الليلة التي مات فيها الهادي: "إنه بلغني أن يولد خليفة ويموت خليفة ويولى خليفة". وأنها -أي الخيزران- قد نسبت تلك النبوءة للإمام الأوازعي التي تتلمذت على يديه منذ سنين. وهكذا تصبح لحظة وفاة الهادي مسرحاً واسعاً لعرض الكثير من الروايات والقصص التي تناقلها المؤرخون والرواة والإخباريون عبر السنين.
استعادة مكانتها زمن الرشيد
نُصب هارون الرشيد خليفةً جديداٌ على عرش الدولة العباسية عقب وفاة أخيه الهادي. حظي الرشيد بدعم أمه الخيزران منذ اليوم الأول لحكمه. فكانت هي التي تناقش مع الوزير يحيى بن خالد البرمكي جميع أمور الدولة وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "... وكانت الخيزران هي الناظرة في الأمور فكان يحيى يعرض عليها ويصدر عن رأيها....". ولم يجد الرشيد بأساً من الاعتراف بتسلط أمه على جميع أمور الحكم في تلك الفترة حتى قال: "إني لأهمّ لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها، فتمنعني أمي؛ فأطيع أمرها....".
ظلت الخيزران محتفظةً بتلك المكانة السامية في الدولة العباسية لمدة سنتين كاملتين. وفي سنة 173هـ توفيت ودُفنت في المقبرة الكبيرة التي عُرفت باسمها في بغداد. وهي المقبرة التي تغير اسمها فيما بعد إلى الأعظمية نسبةً إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان.
ويذكر الطبري أن الرشيد قد حزن حزناً شديداً عند وفاة الخيزران. وأنه قد سار في جنازتها باكياً حافياً حتى ألتصق الطين بقدمه. وهكذا، أُسدل الستار على قصة الخيزران. تلك الجارية اليمنية التي قُدر لها أن تشارك في حكم الإمبراطورية العباسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين