شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
منحتني ناي البرغوثي بلاداً كاملةً وأنا غريب في إسطنبول

منحتني ناي البرغوثي بلاداً كاملةً وأنا غريب في إسطنبول

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الأربعاء 6 سبتمبر 202310:53 ص

لم أكن أعرف الطريق إلى المسرح. قضيت 27 عاماً أتحسّس الأزقة وأتخيلها ممرّات طويلة تفضي إلى أغنية، كتمتُ صوتي فلم أهتف طوال حياتي قائلاً: "الله"، أمام أيّ مغني/ة، ولم تجعلني أيّ جملةٍ غنائية أبكي أمام الناس. لم أحظَ بجلسةِ مع حبيبتي الوحيدة في أيّ مسرح، ومرّت ليالٍ طويلة وأنا أشاهد مقاطع من حفل فرقة  "اسكندريلا" على مسرح رشاد الشوا في غزة، وأقول: ليتني كنتُ أكبر، ليتني لم أكن ذلك الطفل ذو السبعة عشرة عاماً. عندما دخلت ناي البرغوثي إلى قاعة الحفل في إسطنبول، تذكّرت كل ذلك... لم تمنحني إسطنبول الأمل فقط، بل منحتني القدرة، أصبحتُ اليوم أعرف الطريق إلى المسرح فهل تعرفه غزة يوماً ما؟

تأملات ما قبل البدء


دخلت إلى القاعة قبل ساعة كاملة من بدء الحفل، نسيت أصدقائي الذين كانوا يجلسون بجانبي، وأخذت عيناي تتلفت يمنةً ويسرى، كأنها تبحث عن سمكة في بحر، ولم أصطد أيّ سمكة، بل كان الصيد مدناً فلسطينية لم أرها في حياتي. المدينة الأولى كانت الناصرة، رأيتها تتمختر بقدمي امرأة في الخمسين، تجرّ ثوبها المطرّز وهي صاعدة إلى مقعدها، والمدينة الثانية كانت الخليل التي سمعتها صوتاً في لهجة مجموعة من الشباب المتوشحين بالكوفية، والمدينة الثالثة كانت يافا التي أخذت شكل صبية في العشرين تسحبُ الريح ورائها، والمدينة الرابعة كانت غزة، التي تجلّت فييّ أنا وأصدقائي.

منحتني ناي البرغوثي بلاداً كاملةً اعتقدت طويلاً أنني بتُّ واقفاً على عتباتها ملوحاً بالمغادرة، ومع غنائها لـ "آه يا حلو" و"من الشباك" فاتحةً بذلك البوابات لخروج الجمهور، لم يكن خروجي من المسرح خروجاً عادياً مثل باقي الجمهور، بل كان خروجاً ممتلئاً بالبلاد والحب

تخيلتُ حينها أنني أجلس على مقاعد مسرح السرايا في يافا، وليس على مقاعد مسرح MOi SAHNE في مدينة إسطنبول، ولم تكن إضاءة المسرح تتجه نحو الغرب، بل كانت قبلتها القدس، لذلك، حين بدأت ناي الحفل بأغنية "آه إسطنبول" التي غنتها باللغة التركية، وجدتني أبدّل كلمة "إسطنبول" بـ "حيفا" تلقائياً، ترافق ذلك مع شريطٍ طويلٍ من الذكريات كان يُعرض في رأسي، كان شريطاً خالياً من الحواجز والجدران الإسمنتية والرصاص والشهداء ومنع السفر والغربة، وممتلئاً بالبلاد، واضحةً وكاملةً، "من الميّ إلى الميّ".

مفارقات غنائية

عرفتُ ناي منذ زمنٍ طويل، عرفتها وهي تغنّي: "أهو ده اللي صار" و"أنا في انتظارك" و"آه يا حلو"، تلك الأغاني التي قدّمتها بصيغة جديدة تماماً، فناي دائماً ما تقدّم الأشياء على طريقتها الخاصة، كأنها تحمل الأغنية من نوتاتها، تنشرها على سطح بيتٍ في الجليل، ثمّ تعيد فرشها على المسرح، وهذا أيضاً ما فعلته في الحفل، وكلما قلت: "سأغني معها"، وجدتني أتعثّر بموسيقى الجاز التي لم أستطع أن أجاريها يوماً، لقد أتعبني الجري وراء صوت ناي، فقررت الاستسلام مبكراً للغناء، فأغلقتُ فمي إلا من قول: "الله"، من فترة لأخرى، وتركتُ الكلمة العليا لدندنات ناي التي أخذت تتسلل من ممرات المسرح وصولاً لرغبتي.

وكما كل الأشياء التي أخذتني إلى فلسطين في الحفل، حملتني ناي إلى بلادٍ اعتقدتُ بعد سنتين من الغربة أنني بدأت أتجاوزها، واكتشفتُ أنني فشلت تماماً في ذلك، كان ذلك بغناء ناي للتجميعة التراثية التي أطلقتها في ألبومها الأول تحت اسم "غندرة"، حيث جمعت فيها مقاطع من أشهر أغاني التراث وهي: "شوربنّة" و"سبَّل عيونه" و"يا بو قذيلة" و"شيِّعوا" و"يا ظريف" و"قولوا لأمّه"، لينقلني صوتها إلى وسط فرح في مخيم خانيونس للاجئين.

لا يغني لفيروز إلا فيروز

لم أسمع أغاني فيروز من قبل إلا بصوت فيروز، وتشكلت لدي قناعة منذ سنوات طويلة، أن أغاني فيروز كُتبت ولُحِّنَت لها فقط، ولكن عندما سمعتُ ناي في الحفل تغني لفيروز، تغيرت قناعاتي تماماً، واتفقتُ مع أحد الأشخاص الذين علقوا على أغنيتها "راجعين يا هوى" على يوتيوب قائلاً: "كان عندي قناعة أن لا أحد يمكن له أن يغني لفيروز أو يتكرّر أصوات مثلها ، تغيرت قناعتي، يسعد هالصوت و الأصالة والإحساس والرقي والبلد اللي جابتك".

حدث ذلك عندما شعرتُ بإحساسٍ جديد يصل إليّ مع غنائها لأغنية "البنت الشلبية" التي منحتها طابعاً سريعاً فتحَ لي شبابيك من الحبّ، وجعلني أتحسّس يد حبيبتي التي رحلت قبل أن أرافقها في مشوارٍ واحدٍ إلى أيّ مسرح، وعرفت أنني كنتُ مخطئاً عندما قلت: لا يغني لفيروز إلا فيروز. تأكدت من ذلك تماماً، عندما غنّت "زهرة المدائن" فتجلّت القبة الصفراء أمامي بلمعانها الذي لم أره يوماً وربما لن أراه.

انبهار يتخطى اللغة

كثيراً ما حدثني صديقي الذي يدرس الموسيقى في تركيا، عن انبهار مدرّسه التركي بمحمد عبد الوهاب وحفظه لبعض أغانيه، وفي كلّ مرة كنتُ أستغرب من قدرة الموسيقى على جرّ أقدام المهتمين والمبدعين حتى مع اختلاف اللغة، ويبدو أن الأمر لا يقتصر على مدرّس صديقي ولا على محمد عبد الوهاب، فعيون الصبية التركية التي كانت تجلس بجانبي، كانت غارقة في الانبهار واللهفة، وعلى الرغم من ملامحها التي أوشت بعدم فهمها لكلمات الأغاني، إلا أنها لم تتوقف طوال الحفل عن اقتناص بعض المقاطع الموسيقية وتوثيقها بعدسة هاتفها، لاسيما تلك المقطوعات الموسيقية التي قدمتها ناي بتكنيكٍ جديد أطلقت عليه اسم "دندناي".

ولأنني كنتُ أتحسّس بعيني جنبات المسرح والمقاعد واحداً واحداً، وقعت عيني على الكثير من الأتراك الذين لم تتوقف حواسهم عن أداء صلاة الموسيقى طوال الحفل، ورغم أن أفواه أغلبهم كانت بالكاد تلتقطُ كلمة واحدة من الأغاني العربية، إلا أن ملامحهم وهم غارقون في التجلي، كانت دليلاً واضحاً على المشروع "النايي" الذي تقدمه ناينا.

فناي دائماً ما تقدّم الأشياء على طريقتها الخاصة، كأنها تحمل الأغنية من نوتاتها، تنشرها على سطح بيتٍ في الجليل، ثمّ تعيد فرشها على المسرح

الخروج من المسرح

لا أعرف إن كان سيصدقني أحد لو قلت إن حفلة ناي البرغوثي لم تشهد فقط حضوري لأول حفل غنائي لفنانة فلسطينية في حياتي، بل شهدت أيضاً على سماعي لأول مرة في حياتي عزفاً مباشراً على آلة الفلوت، التي قدمت من خلالها ناي مقطوعات تستحق أن يَقف الإنسان أمامها طويلاً، ليواجه كومة أسئلة مخزنة في الذاكرة ومبنية على الحزن والفراق.

لذلك، عندما حملت ذكرياتي والطرق الموصدة التي رسمتها في خيالي للمسارح، واتجهت إلى بوابة الخروج من المسرح، لم تحاصرني فقط أسئلة الحزن والكبت والحنين والحب، بل حاصرتني البلاد أيضاً ببواباتها التي لا يطول أولها خيال، ولا يعبر آخرها إلا من حالفه الحظّ وسقطَ سهواً في البلاد.

منحتني ناي البرغوثي بلاداً كاملةً اعتقدت طويلاً أنني بتُّ واقفاً على عتباتها ملوحاً بالمغادرة، ومع غنائها لـ "آه يا حلو" و"من الشباك" فاتحةً بذلك البوابات لخروج الجمهور، لم يكن خروجي من المسرح خروجاً عادياً مثل باقي الجمهور، بل كان خروجاً ممتلئاً بالبلاد والحب وسبعة وعشرين عاماً لم أعرف فيها طريقاً واحداً إلى أيّ مسرح.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard