من البديهي أن يحمي الإيمان أصحابه، أيُّ إيمانٍ، سواء كان إيماناً بعقيدة دينية، أو إيماناً بفكرٍ أو اتجاه، أو أي إيمانٍ شخصي آخر يعتنقه الفرد، فالإنسان في نهاية المطاف سيجد شيئاً يؤمن به ليقي نفسه مرارة الفراغ ومضاضة العدم، ولكن من السذاجة القول إن الإيمان يحمي من الشرور المحتملة، كالأمراض النفسية والجسدية، حيث غاية الإيمان هي روحانية أكثر منها مادية، فحين يصاب المرء بعلّة نفسية أو مرضٍ جسدي يكون من الحماقة أن ينتظر من إيمانه أن ينقذه!
وعلى الرغم من أن الروحانية تجعل الوجود المادي، في كثيرٍ من الأحيان، أكثر خفةٍ واستساغة، كأن تسمع أغنية تحبّها بعد يومٍ شاق، أو أن تؤدي صلاةً بعد انكسار، أو أن تمارس أي فعلٍ آخر يُشعرك بالتجلي الروحي، إلا أن الروحانية تقف عاجزةً حين "تقع الفأس في الرأس"، أو بكلمة أخرى، حين تنزلق الأمور إلى ذلك الحد الذي يصبح فيه سماع أغنية أو أداء صلاةٍ ضرباً من ضروب الشقاء والثقل.
المادة مقابل الروح: هل هناك ناتجٌ من مزجهما؟!
في كثيرٍ من الأحيان يقع كثيرون في مغالطات متوارثة، تم تمريرها عبر أجيال وأزمانٍ من الجهل والتديّن الأعمى والقمع الوهابي للإرادة الفردية، كالقيام بنصح المصاب بحالة اكتئاب أن يلتزم بحضور الجلسات الدعوية في المسجد مثلاً، أو قراءة القرآن على الماء وتقديمه للمصاب بنوبة هلع على أنه علاج مضمون، أو استخدام الدعاء إلى الله من أجل شفاء مرضٍ عضال مثل السرطان، أو لتنجح عملية قلبٍ مفتوح.
الخلط ما بين هو مادي صرف، وما هو روحاني صرف يدخل في خانة السحر والخيال، وهذا ليس افتراء على مذاهب الآخرين وإيمانهم وعقائدهم، بل هو تأكيد على مذهب العلم والعقل، وعدم إثقال الإيمان بما هو ليس ضمن اختصاصه
إن هذا الخلط ما بين هو ماديٌ صرف، وما هو روحانيٌ صرف يدخل في خانة السحر والخيال، وهذا ليس افتراء على مذاهب الآخرين وإيمانهم وعقائدهم، بل هو تأكيد على مذهب العلم والعقل، وعدم إثقال الإيمان بما هو ليس ضمن اختصاصه، فإيمانك قد يشعرك بالطمأنينة قبل الدخول إلى غرفة العمليات أو أثناء تلقي العلاج النفسي، ولكنه حتماً لن يقتحم كيمياء الجسد ويغيّر في تركيبها، ويطبّب الخلايا التالفة أو يستبدلها بخلايا سليمة عبر معجزة.
بهذا المعنى، فإنه واهمٌ من ينتظر ناتجاً من مزجه للمفهوم المادي بالمفهوم الروحي، كمن يمارس نشاطاً رياضياً فائق الجهد وينتظر أن يصبح بطلاً خارقاً أسوةً بـ"سوبرمان"، فالروحانية هي ذلك الحيز الخفيف الذي يمكّن الإنسان من الاستمتاع بالأفكار الميتافيزيقية كمثلٍ عليا وأيقونية، من خلالها يستطيع استفزاز حواسه وعقله من أجل حياة مادية أفضل.
أما التصديق بأن هناك ناتجاً فعلياً وحقيقياً من الإيمان، أو الروحانية، أو الخيال، فذلك مرحلة متقدمة من الذهان والاختلال العقلي، والذي يستدعي جلساتٍ ارشادية تعيد توضيح العلاقة بين الروح والجسد، والروح والنفس، والروح والمادة.
وفي المجتمعات التي يشكل الجهل والفقر والتطرّف صورتها، تتجلى مخاوف المريض النفسي في إنكاره أن هناك خطباً ما يعصف بعقله وكيانه النفسي، والبدء بتصديق فعالية القرآن والتديّن والمواظبة على العبادات في اجتثاث العلل النفسية من جذورها، وهنا يتحول ذلك المريض إلى شخصٍ مهووسٍ بالدين كمهدّئ ومنقذ، ومن جهة أخرى، يشعر في أعماقه أن العطب النفسي بداخله يتعاظم، وفي هذه الحالة، إما أن ينفجر بمن هم حوله، محولاً محيطه إلى جحيم من التطرّف الديني المرضي، أو أن ينفجر بنفسه لعدم قدرته على الاستمرار في تصديق الوصفة الدينية السحرية للعلاج النفسي.
"لو كان مؤمناً حقيقياً لما انتحر"
لقد أربكت الحادثة التي وقعت قبل أيام في قطاع غزة الآلاف من الأشخاص ضحايا الفكر الديني المتوحش، ليس في غزة فقط، بل لاقت الحادثة تفاعلاً عربياً أيضاً، إذ الانتحار دائماً مرسّخٌ في الوعي العربي السائد بأنه فعل إما يقوم به ملحد، أو فيلسوف، أو كاتب، أو شخص مثلي الجنس، إلى آخره من الأشخاص الذي يتم النظر إليهم كغريبي أطوار، أو مجانين في المجتمعات العربية، ولكن هذه المرة كان المنتحر إمام مسجد سابق، حافظاً ومحفّظاً للقرآن، وشاعراً أيضاً.
أربكت الحادثة التي وقعت قبل أيام في قطاع غزة الآلاف من الأشخاص ضحايا الفكر الديني المتوحش، ليس في غزة فقط، بل لاقت الحادثة تفاعلاً عربياً أيضاً، إذ الانتحار دائماً مرسّخٌ في الوعي العربي السائد بأنه فعل إما يقوم به ملحد، أو فيلسوف، أو كاتب، أو شخص مثلي الجنس
الساعة الثالثة فجراً، كتب الشاب "م، ن" من مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، منشورَ وداعٍ على فيسبوك، ذكر فيه أنه غير قادر على الاستمرار بعد ثمانِ سنواتٍ من مرض الاكتئاب حاول خلالها بكل الطرق أن ينقذ نفسه. ولم تمر بضعة دقائق على نشره لكلمات وداعه واعتذاره لأمه وأخواته، حتى فجّر بجسده قنبلةً، ليفارق الحياة بعدها على الفور.
وكالعادة، بدلاً من أن يكون المنتحر هو القضية، بدأ الرأي العام بمناقشة فعل الانتحار ذاته، بين محرّمٍ للفعل، وبين مكفّرٍ لصاحبه، وبين من يربط الاكتئاب بضعف الإيمان، ومن يجادل بأن المنتحر لو كان على علاقة وطيدة بالله لما أقدم على فعلته، كل ذلك دون اكتراثٍ للأسباب التي دفعت إنساناً غزاوياً للانتحار.
ولكن هذه الحادثة تحديداً كانت محيرة لأصحاب المواقف الجاهزة، إذ إن الشاب المنتحر كان مؤمناً بالفعل، بل مؤمناً حافظاً للقرآن، وكان إماماً لمسجدٍ في فترةٍ من حياته، هذا عوضاً عن أشعاره الوطنية غير المعارضة والمتماشية مع نظام الحكم في غزة، ولكن كل ذلك لم ينقذه من الإدانة، فسرعان ما ابتدع المحتجّون على الانتحار تطويراً لعبارة "المؤمن لا ينتحر"، لتصبح "المؤمن الحقيقي لا ينتحر".
حيث إن وعي الإنسان المسحوق المستكين لقمعه وهدر إنسانيته، سيجبره على اختلاق المبرّرات والحجج بأي شكل ليستطيع استيعاب الأحداث دون أن يتصادم مع أيٍ من القوى الحاكمة؛ كالنظام الاجتماعي-الديني، ونظام الحكم، والوعي العام للمجتمع؛ التي تشكل أسباب شقائه.
إن أبشع الانتكاسات التي قد يصل إليها الإنسان عموماً هي تحجيمه لذاته ورضوخه لمن يقدمون أنفسهم على أنهم وكلاء الله على الأرض، مع عدم ادخار أي جهد في استرضائهم حتى لو كان ذلك على حساب انكار أبناء شعبه وحيواتهم، فتراه يلوم الضحية، وإن لم يجد مبرّراً للومه، فإنه يخترع المبرّر ويطوّره كما تقتضي الحاجة، ولكنه لن يفكر أبداً في أن يسأل عن الحقيقة.
غزة التي تضيق عند الحب، وتتسع في حضرة القنابل
ليس هناك احصائية رسمية تحدّد عدد الأشخاص الذين اتخذوا الانتحار كطريقٍ للخلاص من الظروف المزرية التي يعيشها قطاع غزة منذ سنوات لأسبابٍ معروفة، بدءاً بالاحتلال الإسرائيلي، مروراً بالانقسام الفلسطيني، انتهاءً بحالة العزلة والعسكرة والتديّن الجبري التي تشكل عقداً اجتماعياً لسكان غزة. ولكن يمكن القول -دون مبالغة- بأن الانتحار أصبح ظاهرةً تهدّد الأوضاع المدنية، وتجعل الحديث عن المواطنة الحرّة أمراً مرهقاً ومستحيلاً.
وفي ظل الفقر والبطالة، والتشديدات الأمنية والعسكرية المفرطة، والرقابة الصارمة على حرية الرأي وتداول الأفكار الحالمة، لا يبقى لدى الغزّيين سوى التديّن الهوسي، والأعراف السائدة؛ والعادات والتقاليد، والاحتكام إلى منطق العشائر والعائلات؛ لتشكيل الفكر اليومي، ورسم أنماط الحياة.
وبالطبع، يسفر ذلك عن أزماتٍ وتشوهاتٍ نفسيةٍ خطيرة يعاني منها غالبية سكان القطاع، دون اعترافٍ من السكان أنفسهم بتلك الأزمات، بل والتعامل معها كأنها أمرٌ عادي يمكن تجاوزه بقليلٍ من النكات، والرجولة، والتديّن، والالتزام بالعبادات في المسجد، وعلاج الاكتئاب بالقرآن والسيرة النبوية، حتى أن الأمر تجاوز كل حدود المنطق، عندما أصبح لدى غزة "الإسعاف الإيماني"، وهي مركبة تجوب الشوارع وتنقل رجال الدين من منطقة إلى أخرى لنشر دعوتهم وعلاجاتهم القرآنية لأي مشكلة قد يشكو منها المواطنون.
يقع كثيرون في مغالطات متوارثة، تم تمريرها عبر أجيال وأزمانٍ من الجهل والتديّن الأعمى والقمع الوهابي للإرادة الفردية، كالقيام بنصح المصاب بحالة اكتئاب أن يلتزم بحضور الجلسات الدعوية في المسجد مثلاً، أو قراءة القرآن على الماء وتقديمه للمصاب بنوبة هلع على أنه علاج مضمون
كل ذلك يحدث، وأكثر، في ظل تنكّر تام من قبل السلطات للأزمات الصارخة التي يعاني منها أهالي قطاع غزة، بل ومنع المؤسسات البحثية والإحصائية والإعلامية من ممارسة عملها، سواء في دراسة الظواهر التي تعاني منها غزة، كالبطالة، والانتحار، والعنف، وقمع النساء، أو الحديث عنها بذريعة أن إثارة تلك الظواهر للعوام يضر بمشروع المقاومة الفلسطيني، و"يزعزع الروح المعنوية للشعب".
ومع غياب ثقافة الطب النفسي، ورداءة الدور الذي تلعبه مؤسسات الصحة النفسية التي تعمل وفقاً للمرجعية الدينية الشعبية، فإنه لا يزال يُنظَر إلى الصحة النفسية على أنها أمر رفاهي لا حاجة له، طالما هناك قرآن ومسجد ورجل دين ومختار، ووعي عام مُجمع على أنه لا يهم مدى المعاناة التي يتعرّض لها الفرد، فهناك في النهاية جنات خلد سيلاقي فيها الإنسان العوض عن أي مكروهٍ قد تعرّض له في هذه الدنيا الزائلة، عديمة القيمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...