شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
والله انبسطنا في هالسَفرة... السياحة إلى ما يشبهنا

والله انبسطنا في هالسَفرة... السياحة إلى ما يشبهنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الأربعاء 30 أغسطس 202301:32 م

سُمّي المطعم بهذا الاسم لأنك تذهب إليه لتجرب طعماً جديداً لطعام جديد، ليس بإمكانك، أو لا تملك الوقت الكافي أو المزاج لتحضيره في المنزل. لو كان المطعم مكاناً للأكل فقط، لأطلقنا عليه اسم "المأكل" واختصرنا على أنفسنا عناء الخيال. إذن نحن نذهب إلى المطعم لأننا مللنا أكل الملوخية والمقلوبة في البيت، ونريد أن نجرب الـ "كوردن بلو" مثلاً، لا أن نجرب الملوخية والمقلوبة من تحت يد طباخ آخر غيرنا، ونذهب إلى المطعم لنخوض تجربة اجتماعية جديدة، لا لكي نكرّر أجواء البيت وتجارب البيت.

هذ يجوز على منطق السياحة أيضاً، فالسائح يذهب إلى مكان مختلف عن البيئة التي قضى حياته فيها. أنت مللت من رؤية وجه جارك ومن الشارع المؤدي إلى عملك، ومللت من أرقام السيارات الموجودة في مدينتك، ومن شكل الجبل الذي يحجب الشمس عن بيتك، وتريد أن تخوض تجربة مختلفة عن كل هذا، فتذهب إلى مكان مختلف لتجربة شمس مختلفة، وجبال مختلفة، وطعام مختلف.

إضافة إلى أنواع السياحة المعرفية أو الثقافية، إن جاز التعبير، فالسائح يسافر ليتعرّف على حضارات قديمة ما زالت شواهدها ماثلة في مكان ما آخر غير بلده، وهو يتخذ هذه الوجهة، وفي مخططه التعرّف على هذه الحضارة. أو أن يسافر من أجل خوض تجربة مناخية غير تلك التي ولد وعاش فيها، وأكلت من جلده. لا معنى ولا مغزى من أن تعيش في بلد صحراوي طوال حياتك، ثم حين تريد التغيير تذهب إلى مكان صحراوي آخر.

نذهب إلى المطعم لأننا مللنا أكل الملوخية والمقلوبة في البيت، ونريد أن نجرب الـ "كوردن بلو" مثلاً، لا أن نجرب الملوخية والمقلوبة من تحت يد طباخ آخر غيرنا، ونذهب إلى المطعم لنخوض تجربة اجتماعية جديدة، لا لكي نكرّر أجواء البيت وتجارب البيت

ولا معنى أيضاً أن يكون إفطارك هو الحمص والفول في مطعم بندلي في رام الله، ثم تخرج أنت وعائلتك في رحلة سياحية إلى الأردن لتزور مطعم هاشم، وتعزم العائلة على الحمص والفول. هذا غير منطقي على أقل تقدير.
لكن مفهوم السياحة في بلداننا مشتق من مفهوم الانتقال من المكان فقط. فغالبية السياح يبحثون عما يشبه ثقافتهم وبيئتهم، ففي هذه البيئة يرتاحون وتطمئن قلوبهم، خاصة إن كان المسافر يذهب مع عائلته، وليس وحده. لا يبحث السائح هنا عن مفاجأة أو عما هو غير متوقع، أو عن إضافة معرفية أو ثقافية تغني عقله أو شعوره، بل يبحث عن نموذج موجود في رأسه أساساً، لكن هذا النموذج يتموضع على بقعة جغرافية أخرى بعيدة عن بيته وبيئته.

وإن نقصت عناصر هذا النموذج، فهو في كامل الجهوزية ليملأها مسبقاً وقبل الانطلاق في رحلته. الأرجيلة جنباً إلى جنب مع سجادة الصلاة، بوصلة تحديد اتجاه القبلة جنباً إلى جنب مع القهوة العربية، جهاز التذكير بمواعيد الأذان يرتاح في الشنطة مع أقراص السبانخ والكبّة بالبرغل، وهكذا.
وإن حدث وكان السائح يريد بعض التغيير ولا يريد أن تنتفخ حقيبته بعناصر الراحة والاطمئنان، فهو قادر ذهنياً على إيجاد البدائل الملائمة في المكان الذي يزوره. فالبيرة الخالية من الكحول تعطي انطباعاً بالاندماج مع المكان ومع فكرة السياحة، دون أن ينشغل الملاك على الكتف اليسار بتسجيل السيئات.

عندما تسأله: ماذا استفدت من هذه الإجازة؟ يجيبك والسعادة بادية على محياه: والله انبسطنا في هالسفرة
لا أحد يجادل في أن عالم اليوم عبارة عن قرية صغيرة متداخلة، وأن ما يلزمك للعيش في مكان مختلف عن مكانك، وثقافة مختلفة عن ثقافتك، ليس هو اكتساب لغة المكان الجديد، بقدر ما هو فهم قيمِهِ ومنجزاته. بمعنى أنه لو ذهب رجل غير مطّلع على منجزات العلم وثقافات العالم، من قريتي إلى اليونان، وكان يجيد اللغة اليونانية على أكمل وجه، فإنه لن يستطيع فتح باب غرفته في الفندق حتى لو كان يستطيع تدريس اللغة اليونانية.
أبو أحمد وأم أحمد كانا يجيدان اللغة الإنجليزية، ويستطيعان طرح الأسئلة وفهم الإجابات المباشرة الواضحة، حجزا لرحلة سياحية إلى إسطنبول من خلال مكتب سياحي، وسافرا. دخلا إلى الغرفة النظيفة والمطلة على المسبح. وبحكم الاهتمامات المتباينة بين الرجال والنساء، فإن أبا أحمد تسمّر على الشرفة ليشاهد النساء نصف العاريات، ونصف الكاسيات، ويستغفر ربه على هذه المناظر غير الأخلاقية. بينما أم أحمد أجرت مسحاً شاملاً للغرفة لتتأكد من نظافتها واحتوائها على ما يلزم.

أثناء إجرائها المسح، تفاجأت أن الثلاجة الصغيرة في الزاوية، مملوءة بأصناف عديدة من عبوات غريبة، وبعد أن قرأت المكتوب على كل عبوة تأكدت أن هذه أصناف مختلفة من الخمور المحرمة والعياذ بالله. ودون أن تخبر زوجها بذلك، خشية أن يوسوس له الشيطان، قامت برمي كل هذه العبوات في سلة المهملات. في صباح اليوم التالي قام موظف خدمة الغرف بملء الثلاجة مجدداً بنفس الأصناف، ثم قامت أم أحمد برميها كما فعلت أمس. استمر الحال على هذا المنوال طيلة أيام أسبوع السياحة في تقسيم والبسفور وبيت مهند ونور.
في صباح يوم المغادرة استدعى موظف الاستقبال الزوجين وناولهما فاتورة استخدام ال "ميني بار". لم يفهم أبو أحمد ما هذه الفاتورة، لكن الموظف أوضح له أن المبلغ المكتوب، والذي يتجاوز الألف وخمسمائة دولار هو بدل شرب الكحول في الغرفة، وأن الإقامة لا تشمل هذه المصاريف.

أعرف عشرات الأشخاص الذين يذهبون في كل سنة إلى شرم الشيخ، أو إلى إسطنبول، ولأن الواحد منهم ارتاح في المرة الأولى، فهو مستعد أن يكرّر التجربة دون كلل أو ملل
جن جنون الرجل وبدأ بالإنكار والصراخ: أستغفر الله العظيم، أنا لا أشرب الخمر أيها اللعين، ما هذه التهمة والتبلّي على خلق الله؟ لكن ساعة كاملة من الجدال والاحتجاج لم تنفع مع إدارة الفندق، وكان عليه في النهاية أن يدفع المبلغ المطلوب حتى آخر دولار.

يذهب السائح العربي إلى تركيا، محملاً بالعدّة التي تقيه من الانفلات أو الانزياح عن منظومته الثقافية، ويتم استغلاله من مكاتب السياحة، ثم يتم استغفاله هناك، أو هو يستغفل نفسه كما فعلت أم أحمد، ويعود محملاً بالهدايا لكل أفراد الأسرة الذين لم يحالفهم الحظ في السفر معه. وعندما تسأله: ماذا استفدت من هذه الإجازة؟ يجيبك والسعادة بادية على محياه: والله انبسطنا في هالسفرة. وهو مستعد، على كل حال، لتكرار ما انبسط فيه وبسببه مرات ومرات، إلى أن يشاء الله.

أعرف عشرات الأشخاص الذين يذهبون في كل سنة إلى شرم الشيخ، أو إلى إسطنبول، ولأن الواحد منهم ارتاح في المرة الأولى، فهو مستعد أن يكرّر التجربة دون كلل أو ملل. هذا هو الشخص الذي يذهب إلى المطعم ليأكل، فما دامت الملوخية أعجبته في هذا المطعم فلم لا يعود ويعود ويعود، ويظل يأكل من الملوخية التي لا تنتهي؟

إنها البنية التي تخاف من التغيير، ومن خوض مغامرات لا يُعرف طريقها ولا تُعرف نهايتها، البنية التي تخاف من التجربة، ومن الاحتكاك بالآخر الذي لا تعرفه، والتي تذهب إلى المكان الشبيه والآمن، وتسمي ذلك "سياحة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image