شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
حاميم الغماري...

حاميم الغماري... "نبيّ" مغربي سنّ صلاته وصيامه و"قرآنه" الأمازيغي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الأحد 3 سبتمبر 202301:11 م

كانت بلاد المغرب الأقصى تعيش خلال القرن الرابع الهجري فوضى حقيقية، إذ غابت أي سلطة مركزيّة موحِّدة للبلاد. أما القوى الموجودة، فكانت عبارة عن إمارات متصارعة، متذبذبة الولاء بين الفاطميين وأمويّي الأندلس. وبينما توالت سنوات الجفاف والقحط وارتفاع الأسعار كانت الكيانات السياسيّة القائمة غارقة في تناحرها واقتتالها حول السلطة. في هذا السياق المضطرب، أعلن حاميم الغماري نبوّته، بمنطقة تعرف بمجكسة القريبة من مدينة تطوان (شمال المغرب) قرب جبل بقي يحمل اسم حاميم إلى وقت قريب.

تشير المصادر التاريخية وفي مقدمتها البكري إلى أن حاميم أعلن نبوته سنة 313 ه، وقد لقّبته المصادر بـ"المفتري"، بينما جعلت اسمه الكامل هو "أبو محمد حاميم بن منّ الله بن حريز بن عمرو بن وجفوال (أو بن وزروال). وتجمع المصادر على أن دعوته، لقيت استجابة كبيرة، إذ "أجابه بشرٌ كثير أقرّوا بنبوته"، وهو ما يشير إليه كل من البكري وابن خلدون وابن عذاري صاحب "الاستبصار". فكيف ظهرت حركة حاييم الغماري وتطورت؟ وما هي أبرز عقائدها؟ وهل كانت حركة ثورية أم مهدويّة أم مدّعية للنبوة؟

فوضى عارمة وظهور قوي

عانت بلاد المغرب الأقصى من تجبّر ولاة بني أمية وسوء معاملتهم من قبيل سبي نسائهم واسترقاقهم، ووسم قادتهم بوسوم خاصة، إضافة إلى فرض الجزية حتّى على المسلمين منهم، وهو ما خلّف عدداً من ردود الفعل كالثورة والتمردات والردّة عن الإسلام، إذ ارتدّت المنطقة عنه أكثر من 12 مرة، وانتشرت كافة أشكال "المقاومة" الأخرى كدعم الحركات الدينية والسياسية المناوئة للحكم المركزيّ في المشرق، من قبيل الخوارج والشيعة، أو ظواهر كالمهدوية وادعاء النبوة.

وقد شاعت في هذا السياق أسماء عديدة، كصالح بن طريف مؤسس الديانة البرغواطية، وحاميم الغماري، متنبي بلاد غمارة الذي تعتبر حركاته واحدة من أهم حركات ادعاء النبوة في بلاد المغرب خلال القرون الأربعة الأولى للهجرة.

رغم أهمية حركة "حاميم الغماري" وصداها إلا أن المصادر التاريخية لا تسعف في رصدها، ويشير الباحث إبراهيم القادري بوتشيش في كتابه "الإسلام السريّ في المغرب العربي" إلى أن هذه الحركة كانت "أكثر الحركات تعرضاً لتحامل المؤرخين الذين استنزلوا عليها اللعنات، وكالوا لها أصناف الشتائم والنعوت الذميمة، فلقّبوا صاحبها بالمفترى، أو أحجموا عن التأريخ لها انتقاصاً من شأنها" ( ص 13،14)، وهو موقف اتخذه كل المؤرخين بمن فيهم ابن عذاري وابن خلدون، إذ امتلأت كتابة الأوّل حقداً وكراهية حولهم، بينما طعن الثاني في أتباع حاميم واصفاً إياهم بالجهالة والبداوة والبعد عن الشرائع، وغيرها من الصفات القدحية. ساهم في هذا غياب مصادرَ معاصرةً للحدث، فأقدمُ مصدر وصلنا عن الحركة، أورده الجغرافي البكري، بعد أكثر من قرن من الزمان من نهاية الحركة، والبكري كان من أبرز الموالين للخلافة الأموية في الأندلس، خصوصا ضد أعدائهم أو الرافضين لحكمهم في المغرب الأقصى.

نبيّ "حاء ميم"... قرآن "أمازيغي"، صلاتان في اليوم وصيام أسبوعي

لم تحدد المصادر التاريخية، سبب اتخاذ حاميم لهذا اللقب، بينما يشير الباحث طارق بن زاوي في دراسة له بعنوان "مظاهر الزندقة في المغرب والأندلس وآثارها السياسية من القرن 1هـ إلى القرن 7هـ / 7م إلى 13 م"، إلى أن هذا الاسم مأخوذ من القرآن، الذي توجد به عدد من السور تبدأ بـ"حم"، ما يعني أن حاميم حاول أن يستمد شرعية نبوته من النص القرآني.

لكن المثير في دعوة حاميم، أنه اشترط الإيمان بنبوّة عمته أيضا والتي اختلفت المصادر في اسمها، بين من سماها "تانفيت" أو "تبانعنت" أو "تالية"، وحسب المصادر فهي عمة حاميم وهي "أخت أبي خلف (من الله) وكانت كاهنة ساحرة (...) من أجمل الناس وكانوا يستغيثون إليها في كل حرب وضيق ويزعمون أنهم يجدون نفعها". (البكري» (2/ 776)). إضافة إلى عمته فقد كانت لحاميم أخت تسمى "دجو" وفي مصادر أخرى "دبو" وهي أيضاً كانت "ساحرة" و"كاهنة"، وقد بقي بعض من سكان المنطقة يتبرّكون بما يقال إنه قبرها ويلجؤون إليه إلى فترة قريبة من الزمن.

على عكس الديانة البرغواطية، فإن المصادر لم تنقل لنا كثيراً من عبادات وعادات حاميم المتنبي، لكنها أجمعت على أنه وضع لهم قرآناً بالأمازيغية، كما شرع للمؤمنين به صلاتين عوضاً عن خمسة، واحدة عند طلوع الشمس، والأخرى عند الغروب، وفي كل منهما ثلاث ركعات، يسجدون فيها على بطون أيديهم.

كانت حركة حاميم الغماري أكثر الحركات تعرضاً لتحامل المؤرخين الذين استنزلوا عليها اللعنات، وكالوا لها أصناف الشتائم والنعوت الذميمة، فلقّبوا صاحبها بالمفترى، أو أحجموا عن التأريخ لها انتقاصاً من شأنها

وقد نقلت المصادر كـ"الاستقصا" بعض الشذرات عن صلاة حاميم، إذ بعد تهليل يهلّلونه ورد فيه "خلّني من الذنوب يا من خلى النظر، ينظر في الدنيا، أخرجني من الذنوب، يا من أخرج يونس من بطن الحوت، وموسى من البحر"؛ يركع المؤمن بدعوة متنبي غمارة وهو يردد "آمنت بحاميم وبأبيه أبي يخلف من الله وآمن رأسي وعقلي وما يكنّه صدري وما أحاط به دمي ولحمي، وآمنت بتالية (تانفيت أو تبعانت) عمة ‌حاميم أخت أبي يخلف من الله، ثم يسجد بعد ذلك، وهكذا دواليك.

إضافة إلى الصلاة، فقد فرض حاميم على أتباعه الصوم، بما فيه صوم رمضان، لكن المصادر تختلف في بعض التفاصيل، إذ يذكر بعضها أنه أسقط سبعة وعشرين يوما من رمضان، وفرض صيام ثلاثة أيام، وصيام يوم عيد الفطر، وجعل العيد يوم الثاني من شوال؛ بينما تذكر مصادر أخرى أنه فرض صوم عشرة أيام من رمضان ويومين من شوال.

إضافة إلى هذا فرض على أتباعه صياماً أسبوعياً جعلته بعض المصادر يوم الخميس كله ويوم الأربعاء إلى الظهر، بينما أشارت مصادر أخرى إلى أنه فرض صوم يوم الاثنين والخميس إلى الظهر ويوم الجمعة، أما من أكل في أوقات الصيام فكفّارته أن يغرم خمسة أثوار لحاميم، (في مصادر أخرى ثورين وروايات أخرى ثلاثة). جدير بالذكر أن المستشرق الفرنسي "ألفرد بل" كان قد تساءل وفق القادري بوتشيش "حول طبيعة هذا الصوم الأسبوعي، وعما إذا كان يرجع إلى أصول نصرانية، ولكنه لم يستطع أن يحسم في الأمر لقلة الوثائق". (ص 33)

نقلت المصادر كـ"الاستقصا" بعض الشذرات عن صلاة حاميم، إذ بعد تهليل يهلّلونه ورد فيه "خلّني من الذنوب يا من خلى النظر، ينظر في الدنيا، أخرجني من الذنوب، يا من أخرج يونس من بطن الحوت، وموسى من البحر"

إضافة الى قرآنه الخاص وصلاته وصيامه، سن حاميم عدة تشريعات منها أنه فرض الزكاة على أتباعه "العُشُر من كل شيء، وألغى الحج، والطهر والوضوء، كما أحل لأتباعه أكل لحم أنثى الخنازير، معتبراً أن قرآن محمد قد حرم ذكورها فقط، كما أنه حرم عليهم أكل الحوت حتى يذكى، وحرم عليهم أكل البيض من جميع الطيور. وحرَّم أكل الرأس من كل حيوان.

مقتل حاميم .. وبقاء آثاره

لا تتطرق المصادر لمقتل حاميم الغماري، بشكل مفصّل، فإذا كانت قد اتفقت على أن نبوته لم تدم سوى سنتين، حيث قتل سنة 315 ه، في نواحي طنجة، فإنها اختلفت حول على يد من قتل. إذ ذكرت بعض المصادر أن الناصر أرسل جيشاً من قرطبة، التقى مع حاميم قرب طنجة فهزمه وقتل في قصر مصمودة، حيث صلب جسده، وحُمل رأسه لقرطبة، بينما أشارت مصادر أخرى إلى أنه قتل في حروب مع قبائل مصمودة. ويشير بعض الباحثين إلى أنه يمكن التوفيق بين الروايتين، والقول بأن حاميم المتنبي قُتل على يد بعض قبائل مصمودة التي كانت موالية لأمويي الأندلس.

 أعلن حاميم الغماري نبوّته، بمنطقة تعرف بمجكسة القريبة من مدينة تطوان (شمال المغرب) قرب جبل بقي يحمل اسم حاميم إلى وقت قريب

ويطرح السؤال حول استمرارية الحركة بعد مقتل حاميم، فإذا كانت المصادر القديمة قد أشارت إلى أن أهل غمارة عادوا إلى "الإسلام الصحيح" بعد مقتله، فإن الباحثين المعاصرين قد تحفظوا على هذا، معززين في ذلك بعدة شواهد، لعل أولها ما أوردته المصادر التاريخية نفسها من أن أبناء حاميم كان لهم قدر معتبر في بلادهم، بعد وفاة أبيهم. إضافة لهذا فقد حمل جبل غمارة اسم حاميم لمدة طويلة من الزمن، وهو يجسّد قوة حضوره في المخيال الشعبي الغماري، زد على ذلك أن ظاهرة ادعاء النبوة استمرت في هذه المنطقة، حيث نقلت المصادر عددا من المتنبين كـ"عاصم بن جميل اليزدجومي" وغيره، وهو ما يؤشر على مدى تغلغل فكر حاميم في المجتمع الغماري.

ادعاء نبوة أم ثورة وتجديد

إذا كان حاميم ومعتقداته مرمى انتقادات المؤرخين القدامى ومحط تشنيعهم، فإن الباحثين المعاصرين قد جعلوا الأمر محطّ تساؤل ونقد ونظر، إذ اعتبر القادري بوتشيش أن هذه الديانة لم تنكر نبوّة محمد بل كانت محاولة إصلاحية، حاولت تبسيط الشرائع الإسلامية وملاءمتها مع المجتمع الغماري، ويضيف مولود عشاق أن ديانة حاميم نهلت إضافة على ذلك من الديانة البرغواطية التي سبقتها بأكثر من قرن من الزمان.

أما المؤرخ محمود إسماعيل، فقد نفى ادعاء النبوة عن حركة حاميم، معتبراً إياها نوعا من التدين الشعبي الذي ترفضه الأدبيات الرسمية، بينما اعتبرتها المؤرخة سلمى محمود إسماعيل نوعاً من التجديد الديني، والعمل بقاعدة المصالح المرسلة، من أجل مواجهة الظرفية المضطربة التي كانت تمر بها المنطقة آنذاك.

بينما اعتبرها المستشرق البولندي لويسكي إحياء لمعتقدات وثنية قديمة، وذهب المستشرق الفرنسي هنري تيراس إلى القول بأنها كانت تعبيراً عن معتقدات محلية تستهدف إلى الاستقلال، أما المستشرق "ألفرد بل" فاعتبرها حركة إصلاح ديني لملاءمة التشريعات الإسلامية مع البيئة المحلية.

رغم مضي قرون على هذه الحركة، ورغم التواطؤ التاريخي من طرف المصادر القديمة عليها، ومحاولة تشويه تاريخها، إلا أن الدراسات المعاصرة لا تفتأ تهتم بهذه الحركة، ليس باعتبارها حركة ادعاء للنبوة في مجتمع شاعت فيه هذه الظاهرة فقط، ولكن باعتبارها مدخلاً لفهم جزء من التاريخ الديني والفكري لهذا المجتمع، ومدخلاً لفهم التعددية والتنوع الذي طبعه.

ومن الدراسات المعاصرة التي أولت جانباً مهماً لمحاولة فهم حركة حاميم وتداعياتها على المجتمع المغربي، ونظروا إليها باعتبارها مؤشراً على طبيعة الحياة الفكرية والاقتصادية لمغرب تلك الفترة، عدة مستشرقين على رأسهم "لويكي Lewicki"، و"تيراس Terasse" و"ألفرد بل A.Bel"، بينما كان المؤرخ المصري محمود إسماعيل من أوائل من اهتموا بالحركة في المنطقة، إضافة إلى ابنته المؤرخة سلمى محمود إسماعيل، والمؤرخ المغربي والباحث في تاريخ الذهنيات "إبراهيم القادري بوتشيش" والباحث مولود عشاق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image