تُعدّ دولة الأدارسة التي ظهرت في المغرب على يد إدريس بن عبد الله الهاشمي العلويّ، استثناءً عن السياق التخييلي المحبّب للبعض، والذي يرتبط بشيء من القدريّة وحسن الطالع اللذين حملتهما الكثير من المرويات التاريخية الإسلامية، الممجّدة للبطولات الفردية الخارقة لـ"مؤسّس الدولة العظيمة"، على غرار حكاية عبد الرحمن الداخل. قصص تنطلق من تيمة أساسية، هي نزوع الجماعة إلى التماهي مع تلك "البطولة" التي توجد مركزيّةً في البنى القبلية والأيديولوجية.
في دولة الأدارسة، كان كل شيء مختلفاً، إذ إن ظروف النشأة والتأسيس تماهت فيها الانتصارات مع العثرات، وكان الفاعلون في تأسيسها أكثر من واحد. فإن كان المُؤسّس رمزياً هو إدريس، فإن مولاه راشد البربري كان له دور محوري في بناء الدولة على الرغم من أنه ظل "مظلوماً" في التاريخ الرسمي، وهُمّش دوره المركزي، الذي يدفع البعض إلى وصفه بالمؤسس الفعلي للدولة. إذ هو الذي نهض بسيّده المطارد، بعد فناء أغلب أهله في معركة فخ سنة 169 هجرية، وكان سبباً في إنقاذه من الموت والخروج من المشرق إلى المغرب ليقيم دولته المنشودة، وليدفع راشد حياته اغتيالاً ثمناً لتلك الدولة.
فإن نجح إدريس الثائر على السلطة العباسية في تأسيس دولته، فما كان دور راشد البربري؟ كيف نجا بسيده من الموت في رحلة شاقة نحو المغرب "أرض الثائرين ضد مؤسسة الخلافة"؟ وما دوره في إنشاء التحالف القبلي مع البربر لقيام الدولة؟
تحالف العصبيّة والدين
كان قيام دولة الأدارسة وليد تضافر ظروف تاريخية وسياسية عدة، أسست لاجتماع العصبية القبلية البربرية المتمثلة في قبيلة أَوْرَبَة، والدعوة العلوية في إطار محاولة الاستقلال عن الخلافة العباسية القائمة. تلك القبيلة التي لها تاريخ في الثورة والعصيان منذ مساندتها لكسيلة، في صراعه مع عقبة بن نافع الفهري ومن جاء بعده من الولاة العرب، كانت نزعة الاستقلالية عن السلطة المركزية ديدنها، إذ لم ترد أن ترضخ لـ"العرب".
وعليه، كان لهم طموح لتأسيس ملك بربري على مثال إمارة برغواطة، والرستميين الذين أقاموا سلطانهم سنة 144هـ. وقد وجدوا في إدريس العلوي الهارب من بطش بني العباس بعد معركة فخ والمقتلة الرهيبة، حليفاً شرعياً لدولة البربر المنشودة. وعليه، حدث توافق بين العصبية، والدعوة الدينية التي تعتقد بـ"حقها الإلهي" في الخلافة، بجانب رغبة البربر في تحقيق استقلالهم الفعلي عن بغداد، عبر تولي أحد مستحقيها والذي بدوره ينتسب إلى بيت النبوة، وهو التلازم الذي يؤكده ابن خلدون في المقدمة، وأفضى إلى إقامة الدولة لاحقاً.
كان راشد ملازماً لإدريس الأول منذ فراره حتى وصوله إلى المغرب، والأمين المخلص لسيّده الذي حافظ على وحدة البربر وسار بهم على مبادئ إمامه إلى أن بلغ خليفته أشدّه
بعد أن تأكد لإدريس عدم جدوى الثورة في المشرق، لقربه من بطش العباسيين، وشكّه في عدم جدية أهل المدينة المنورة في الثورة على الخلافة القائمة، استكان إلى رأي مولاه راشد في الاتجاه نحو المغرب، وإقامة دولة العلويين هناك، ومن هنا يظهر دور راشد الأَوْرَبِي في إنقاذ سيده من الهلاك، وإيصاله إلى أرض المغرب، وهو وفقاً للمصادر التاريخية، العارف بمسالكه ولسانه، بعيداً عن متناول القوات العباسية، مستفيداً من الرغبة الخفية لدى قبائل المغرب ونزعتها الاستقلالية، وبعد ذلك جهده في الدعوة إلى إدريس، وتوليه السلطة بعد اغتيال الأخير. يمكن القول إنه شريك في تأسيس الدولة.
من الحجاز إلى مصر
تجمع معظم المصادر على نسب راشد إلى قبيلة "أوْرَبة"، وعلى أنه ينتمي إلى سلالة سبايا مع موسى بن نصير رافقته إلى المشرق. يبدو أن هروب إدريس كان بنصيحة من راشد الذي أبدى حسن التدبير والإخلاص لسيده، إثر النكسة التي أصابت الحسنيين بعد فشل ثورة الحسين بن عليّ، أيام الخليفة الهادي العباسي، والمقتلة التي لم ينجُ منها إلّا إدريس وأخوه يحيى بأعجوبة، واتجه يحيى إلى بلاد الديلم شرقاً، لإعلان ثورته هناك.
الغالب أن اختيار المغرب لم يكن محض صدفة، بقدر ما كان خطةً لكونه أرض ثورة وعصيان دائم على السلطات الإسلامية المتعاقبة عليه، ولأنه كان ملاذاً آمناً للمغامرين من الثائرين. وليضمن راشد خروجاً آمناً لسيده إدريس، التمس التخفّي ضمن قافلة من الحجاج العائدين إلى مصر وإفريقيا، معتمداً الحيلة والدهاء في ذلك، فألبس سيده ثياباً ممزقةً يظهر فيها بمظهر العبد، وأخذ يأمره وينهاه لئلا تكتشف أمرهما الدوريات العسكرية التي أنفذها الهادي بحثاً عن بقايا الحسنيين، في محاولة لاستئصال شأفتهم. وبالفعل نجا الاثنان وتمكّنا من ركوب البحر إلى بلاد النوبة، ثم تابعا سيرهما إلى مصر، وفقاً لما يرد في روض القرطاس لابن أبي زرع، وكتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني.
كان لراشد البربري دور هام في تأسيس دولة الأدارسة. فهو الذي أنقذ إدريس من بطش العباسيين وساعده في الهروب إلى المغرب الأقصى حيث عقد تحالفا مع قبيلة أوْربة
كان يتولى مصر في ذلك الوقت عليّ بن سليمان، وكان على بريدها صالح بن منصور، الذي كان موالياً لأهل البيت، فلما تعرّف الأخير على راشد وسيّده في ما كان يُعدّ مخاطرةً من قبل راشد، عندما عرّفا بنفسيهما لصالح، قام بإرسال إدريس في قافلة على هيئة تاجر، وأمّنه من الدوريات العباسية وتفتيشها الدقيق، حتى أخرجه من مصر إلى برقة، ليدفع حياته ثمناً لهذا الإنقاذ على يد الرشيد لاحقاً.
في برقة، وبعد لقاء راشد وسيده بعد خروجهما المنفرد كلّاً على حدة من مصر، تنكّرا بزي تاجر وخادمه، فكان راشد يأمر سيده فيطيع الأخير حتى لا ينكشف أمرهما. بعد ذلك وصلا إلى القيروان التي أقاما فيها مدةً قصيرةً، ثم ارتحلا صوب تلمسان فقعدا أياماً معدودةً قبل الوصول إلى طنجة.
دعوة بين قبائل البربر
في طنجة، لم يجد إدريس ما يحقق طموحه، لقلة الأنصار فيها، وقربها من دولة الأمويين في الأندلس. وبدأ راشد بالعمل لتحقيق الاتصال مع زعيم قبيلة أوربة، إسحاق بن محمد بن عبد الحميد، وعندما استجاب الأخير لكتاب راشد. انتقلا نحو جبل زرهون حيث تقيم القبيلة.
خلال مدة الأشهر الستة الأولى التي قضاها راشد وإدريس في زرهون، تقاربا مع إسحاق، الذي يبدو أنه رجل مستنير كما يذكره المؤرخون. فاطمأنا لجواره، وعمل إدريس على تثقيفه وتعليمه، وعندما قدّم راشد سيده بنسبه لإسحاق، ازداد تعلق الأخير بإدريس، وسرعان ما خلع طاعة العباسيين، وبايعه بالإمامة.
ثم انتهز فرصة حلول شهر رمضان، وجمع قومه، وقدّم لهم سليل رسول الله. وكان ردهم وفقاً لما جاء في جذوة الاقتباس لابن القاضي: "الحمد لله الذي أتانا به وشرفنا بجواره فهو سيدنا ونحن عبيده نموت بين يديه فما يريد منا". فسألهم بيعته، فبيايعوه، ثم بايعت قبيلتا مغيلة وصدينة. وفي أول خطبة لإدريس بجماعته الجديدة قال: "أيها الناس، لا تمدّوا أعناقكم إلى غيرنا، فإن الذي تجدونه عندنا من الحق، لا تجدونه عند غيرنا".
تقول الروايات التاريخية إن الشماخ هرب فارّاً. وعندما علم راشد بالأمر حاول اللحاق به، وبالرغم من قتاله له في وادي ملوية وتمكنه من قطع يده، وشجّ رأسه، إلا أن الشماخ تمكن من الهروب
سرعان ما توسعت الدولة الجديدة التي اتخذت "وليلى" عاصمةً لها، لتشمل معظم القبائل البربرية بين الأطلس وتلمسان نحو سنة 789، وهنا بدأت تتواتر أخبار إدريس لهارون الرشيد، وتوسع دولته السريع وصولاً إلى تلمسان التي رفع فيها الدعاء لأعدائه العلويين دونه، وتطبيقه الشريعة الإسلامية بإلغاء الضرائب والمكوس غير الشرعية، فقرر التخلص منه. وعندما عرف صعوبة وصول جيوشه إلى المغرب، استعان بوزيره يحيى بن خالد البرمكي الذي نصحه بإرسال رجل ذي حيلة يقتله، كما يرد في "الاستقصا" للناصري.
بالفعل، تمكن سليمان بن جرير المعروف بـ"الشماخ"، الذي استعمله الخليفة، من التقرّب من الإمام بفطنته وذكائه وبلاغته، لكنه لم يستطع الانفراد به كثيراً لملازمة راشد له، وكان راشد يخاف عليه من القتل لكثرة أعداء أهل البيت آنذاك، حتى انشغل راشد في أحد شؤونه فتمكن الشماخ من قتله بعطر مسموم، ما أن تنشّقه الإمام حتى سقط مغشياً عليه. تقول الروايات التاريخية إن الشماخ هرب فارّاً. وعندما علم راشد بالأمر حاول اللحاق به، وبالرغم من قتاله له في وادي ملوية وتمكنه من قطع يده، وشجّ رأسه، إلا أن الشماخ تمكن من الهروب، ليعود راشد ليغسل سيده ويدفنه.
وصاية راشد على الدولة
توفي الإمام من دون وريث، وكانت الدولة طرية العود حديثة النشأة. وهنا ظهر دور راشد المحوريّ في الحفاظ على ملك سيده المتوفى. فبعد أن فرغ من مراسم الدفن والعزاء اجتمع مع رؤساء ووجهاء البربر للتباحث في مستقبل الدولة طالباً مشورتهم، وأخبرهم بأن الإمام لم يترك ذكراً له إلا حَملاً من زوجته كنزة الأوْرَبيّة، وهي في الشهر السابع. اقترح راشد انتظار أن تضع حملها ثم يقرروا شأنهم، فرد القوم بحسب كتاب الاستقصا للناصري: "ما لنا رأي إلا ما رأيت".
تم التوافق أن يتولى راشد "من دون ألقاب"، أمر الدولة حتى تضع كنزة، وهي ابنة إسحاق أمير القبيلة البربرية، وليدها. وتعود هذه الثقة وفقاً لما يذكره المؤرخون، ليس فقط لإخلاصه لسيده، بل لما رأوه منه في مطاردة الشماخ. وعرف حكمه استتباباً للأمن إذ صان راشد وحدة الدولة الفتية.
بعد ولادة إدريس الثاني، عيّن راشد إلى جانبه أبا خالد بن إلياس العبدي البربري، أحد شيوخ البربر، فقد غدا شيخاً كبيراً وخاف على نفسه من الموت فجأةً والدولة من بعده بلا رأس، وإدريس الثاني لا يزال قاصراً.
أشرف راشد على تربية الوريث الشرعي وتعليمه وتهذيبه حتى بلغ سن الحادية عشرة فتمت مبايعته ليضطلع بنفسه بشؤون الحكم. يورد بن أبي زرع في روض القرطاس، أن ذكاء الفتى وبروز مواهبه شجعا راشد على ذلك.
لكن عيون الخلافة العباسية لم تكن غافلةً لمدة طويلة عما يجري من أمر راشد، الذي أثبت مقدرةً كبيرةً في الحفاظ على الدولة، وهنا استعمل هارون الرشيد إبراهيم بن الأغلب للخلاص من راشد. وكان إبراهيم يطمع في الحصول على ولاية إفريقيا، لذلك كان مستعداً لتنفيذ أي أمر مهما بلغت خطورته. وبالفعل استمال بالمال عدداً من البربر من خَدَم راشد، فتمكنوا من قتله مسموماً.
كان راشد ملازماً لإدريس الأول منذ فراره حتى وصوله إلى المغرب، والأمين المخلص لسيّده الذي حافظ على وحدة البربر وسار بهم على مبادئ إمامه إلى أن بلغ خليفته أشدّه. خلال قيادته المرحلة الانتقالية للسلطة في الدولة وحتى لحظة نقله السلطة إلى إدريس بن إدريس، المعروف بإدريس الثاني، التف البربر حول الذي وطّد أركان الدولة في أشد مراحلها حرجاً، ليبدأ تاريخ جديد في دولة الأدارسة التي دامت لقرنين من الزمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه