شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
مدرّسة رياضيات تحولت إلى عرّافة… أو حين تروى

مدرّسة رياضيات تحولت إلى عرّافة… أو حين تروى "الأشياءُ" المسكوتَ عنه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

لا يمكن أن نسرد القصص دون أشياء؛ فهناك دائماً جلود وكتب وعربات وكرات سحرية وفناجين وكراس وصلبان ودمى ونوافذ وصور وفوانيس تظهر للأبطال لكي يبدؤوا مغامراتهم، ويبدأ الكتّاب في رسم حبكاتهم، فلا يمكن الحديث عن قصص علاء الدين من دون مصباحه السحري، ولا يمكن الحديث عن أبوليوس وروايته "الجحش الذهبي"، أول رواية في التاريخ، دون الحديث عن الأشياء وتحولاتها مع الساحرة.

ولا يمكن الحديث عن ميغال دي سرفانتيس وروايته "دون كيشوت" وبطله الفارس النبيل، دون حديث عن درعه ورمحه وخوذته وطواحين الريح وتحولاتها عبر استيهاماته. ولا يمكن الحديث عن الرواية البوليسية دون حديث عن أدوات الجريمة والعثور على الأدلة التي تمثل العنصر الأهم في الرواية.

عبر أحداث رواية أشياء لسمر سمير المزغني نعيد اكتشاف الأشياء خارج مفاهيمها التقليدية، ونتعرف معها على أبعاد أخرى عندما تتخلص تلك الأشياء من صمتها لتأخذ أدوار الرواة لكي تروي المسكوت عنه في الغرف المغلقة والأركان المظلمة

ولو التفتنا إلى بقية الفنون وتأمّلنا في مراحلها الكبرى لرأينا الأشياء تتصدر مفاصلها التاريخية؛ فهل يمكن أن نستبعد "الكرسي" من نشأة التكعيبية مع لوحة براك الشهيرة وبداية فن الكولاج وظهور بيكاسو؟ وهل يمكن أن نقفز على ما فعلته "المبولة" في الفن المعاصر مع دوشومب؟ تلك المبولة التي وضعها الفنان في قلب المعرض بعد أن وضع عليها توقيعه. وهل يمكن أن نغيّب الأشياء في الكتابة للمسرح؟  فحتى التقشف في الأشياء يبرره الكتاب كنوع من التجاوز. أما مسرح الدمى وما يعرف بالماريونات،  فيمثل أكثر الفنون وضوحاً في علاقته بالأشياء عبر حضورها الفيزيقي قبل أن يخلق لها صناعها ألسنة وأصواتاً.

سنة 2022، في ذات الوقت الذي ظهرت فيه رواية التونسية الكندية حنان علوش، التي تعيش في مونتريال بكندا، وتسند دور الراوي إلى كرسيٍّ في مقهى قديم يروي قصص رواده وسيرته في رمزية شائقة، تظهر بالمقابل رواية "أشياء" للتونسية العراقية المقيمة بأوتاوا، سمر سمير المزغني، والتي تُسند أدوار السرد فيها للأشياء. لا رابط بين الروايتين إلا هذا التفصيل الموحي بشيء مشترك أدركته الكاتبتان دفعهما إلى استعارة الأشياء. سنخصص هذا المقال لرواية سمر سمير المزغني بحثاً عن شعرية الأشياء.

الأشياء تروي الحكايات والأساطير

تنطلق الرواية من قلب عالمين متناقضين؛ هما العلم والخرافة، عبر شخصية العرّافة التي كانت في الأصل مدرسة رياضيات لتمتهن مهنة الشعوذة والتنبؤ بالمستقبل بعد تقاعدها من التدريس. عالم واقعي جداً ورياضي يعانق عالماً الماورائيات والسحر والشعوذة والتنبؤ. وكأن بالرواية تعيد المعرفة إلى أصولها؛ تلك المعرفة التي كانت تتعالق فيها الأسطورة بالفلسفة والعلم، ولم يكن الإنسان يفصل بينها حتى جاءت القطيعة واندحرت العلوم الإنسانية والأسطورة والخرافة بعيداً عن العلوم المجردة والصحيحة. ومع ذلك ظل بعض الفلاسفة، ومنهم ميشال فوكو، يربط بين هذه الحقول ويجد علاقة ما بين الأشياء والكلمات مثلاً.

عبر مجموعة من الأشياء: كرة زجاجي، زجاجة نبيذ، حبوب منومة، هاتف ذكي، قلم حبر، تروي روايةُ "أشياء" لسمر سمير المزغني في بوليفونية ذكية، قبل أن تنصهر كل الأشياء وتروي معاً الفصلَ الأخير لنصبح أمام الصوت الجماعي.

وداخل هذا التقنية، أي تعدُّد الأصوات، استطاعت سمر سمير المزغني أن تنوع في المادة السردية عبر الوصف والسرد، وعبر أجناس كتابية فرعية مستغلة، طبيعةَ تلك الأشياء التي استنطقتها ومستندة على عبارة رددتها شخصية العرافة: "الأسرار يدفنها الأشخاص، وتنبشها الأشياء. الشيء ليس لمالكه، الشيء هو المالك". أي أن الأشياء تملكنا ولا نملكها؛ فهي شاهدة علينا أكثر من شهادتنا عليها. فنحن في غمرة لامبالاتنا بالأشياء لا ندركها بينما هي ترافقنا طوال حياتها معنا، مدركة كلّ تفصيل مررنا به، راصدة كل أنفاسنا.

ومن ثم فنطقها سيكون فضيحة كما لو كانت دفترَ يوميات حميمة وقَع من صاحبه في الشارع فتلاقفته الأيدي. يحيلنا هذا التصور للأشياء على مقولة قالها الكاتب الكندي الأرجنتيني ألبيرتو مانغويل: إننا عندما نسمي الأشياء نفقدها شيئاً من معناها ونحصرها في وعينا بها وحاجاتنا لها، أي أن للأشياء معانيَ أكبر مما وضعناه فيها لندركها، وهي بذلك تمتلك قدرات أكبر من ظنّنا.

يقول صاحب كتاب "فن القراءة" متحدثاً عن جهلنا بهوية الأشياء: "نحن نلوث أي شيء ننظر إليه من خلال تسميته تبعاً لوجهة نظر معينة. ومن شأن هذا أن نعني ما نراه، ويجرّده في الوقت نفسه من معانيه الغامضة" .

رواية "أشياء" للكاتبة سمر سمير المزغني

عبر أحداث رواية أشياء لسمر سمير المزغني نعيد اكتشاف الأشياء خارج مفاهيمها التقليدية ونتعرف معها على أبعاد أخرى عندما تتخلص تلك الأشياء من صمتها لتأخذ أدوار الرواة، لتروي المسكوت عنه في الغرف المغلقة والأركان المظلمة.

لا تكتفي سمر باستدعاء الخرافات والأساطير وتوظيفها، بل تذهب في عملها إلى إنتاجها، كما فعلت مع قصة زجاجة النبيذ والفتى الوحيد الذي فقد أهله وسقط في الحزن والوحدة حتى ظهر له طيف أمه تحمل سلةً قبل أن تختفي وتترك السلة التي فيها زجاجة نبيذ ورسالة على ورقة عنب تقول فيها: "لن تكون وحيداً بعد الآن يا بني".

لا تروي الأشياء ما يحدث للآدميين فقط، بل تروي سيَرَها، وتخلق لها الكاتبة ذاكرةً وثقافة، وتخلق لها سلالةً؛ نسبت الزجاجة قصة الفتى إلى جدتها وهي زجاجة قديمة كانت تروي لها ولأترابها في المصنع القصصَ.

هذا التوليد للقصص من بعضها الذي تمارسه سمر كانت تعيه جيداً كجزء من برنامج سردي. ويُظهر ذلك الوعي أسلوب "الميتاسرد" الذي تستعين به أحياناً لتتحول الحكاية/الرواية إلى روايةٍ واصفةٍ لذاتها؛ تقبل الزجاجة التي يختفي وراءها صوت المؤلفة: "ماذا كنت أقول؟ أحياناً تفلت مني خيوط الحكاية ولا أتوقف عن الحديث. بل قد أخرج من حكاية وأدخل أخرى، كأنني في قصر مليء بالغرف، كل منها تفضي إلى غرفة أخرى، حتى يضيع من طريق العودة. اعذروني، فأنا في نهاية المطاف، زجاجة نبيذ. ومن الصعب على ذاكرتي أن تبقى ثابتة وعلى ذهني أن يبقى متقداً طوال الوقت".

وتستعين الكاتبة، أساساً، في التقدم في ذلك البرنامج السردي على أسلوب الحكي الشفوي، والذي يسمح لها بأن تستطرد كما تشاء على شاكلة خرافات الجدات، فتتوقف فجأة لتسأل على لسان الزجاجة مثلاً: "هكذا رافقته منذ بلغ الثالثة عشرة حتى تلك الفترة التعيسة التي فرقا فيها المصائب المفاجئة بيننا. ألم أخبركم عنها؟ حسناً، سأروي لكم ما حدث …".

وتعتمد أحياناً ما يسميه الإنشائيون الاستباق بالإشارة إلى الحكاية، ثم تأجيلها وهي حيلة سردية من أسس الحكي الشفوي. تقول الزجاجة مثلاً: "دوام العلاقة يتطلب الاقتصاد، وهذا درس تعلمناه من تلك الليلة الملعونة التي فقدنا فيها عمتي. وتلك قصة مشوقة سأرويها لكم فيما بعد". مع كل هذا يشكل أسلوب السخرية أسلوباً مصاحباً لكل هذا، عبر قلب الواقع والمنطق، عاكساً هذا الواقع اللاأخلاقي بقيمِه المنقلبة ليصبح الشابّ الطائع يشعر بألم من انضباط أخيه، ويسعى جاهداً لإنقاذه من ذلك الفساد الذي يجعله يهدر عمره في مراكمة المعارف والتعلم والتوغل في العلوم. فيحيلنا هذا الأسلوب على عيون الأدب الساخر.

أنسنة الاشياء في الرواية يتعدى معجزة الكلام إلى التلبّس بالخصائص البشرية والسلوكيات اللاأخلاقية من استغلال وتحيل وكذب ونفاق، فالأشياء أيضاً ليست بريئة؛ تقول الحبوب المنومة وهي تروي قصتها مع آلام تلوّي المرأة المرهقة والمحبطة، التي تقضي كامل اليوم تعمل في ثلاث مهن: "نظراً لكوننا مجرد حبوب صغيرة، غير قادرات على احتياج عالم الناس. فجمهورنا ضيق النطاق، يغيب عنا معظم ساعات اليوم، من الصعب استدراج المزيد منهم. لذلك، نكتفي بتجنيد بعض ضحايانا كممثلين أوفياء عنا، دون أن يدركوا ذلك، ليتحدثوا باسمنا وينقلوا أفكارنا إلى الآخرين، ويدعموا وجودنا ويسوقوا لنا لحماس دون تكبد حتى عناء إقناعهم بذلك. فكل ما نقوم به يحدث أثناء نومهم، دون علم منهم"، قبل أن تنطلق في سرد اعترافاتها وما تفعله بسلوى نموذج للبشر الذين يسيطرون عليهم، حيث تنهمك تلك الحبوب في حبك الكوابيس التي تجعل من الشخص عبداً لها ومتمسكاً بها كعقيدة.

هذا الشكل التي تظهر به الأشياء وهي تروي سيرها وضروب تعاملها مع الإنسان تمثل نقطةً مضيئة في الرواية، وقد حققت أمرين اثنين: أولاً تعدد الأصوات ووجهات النظر، وثانياً أنها جعلت من شخصية الشيء شخصيةً مركبة، ولم تقف عند ما قد يحيله اسم الشيء من معانٍ ظاهرية، بل توغلت الكاتبة عبر التخييل في خلق تلك التراكمات النفسية والخبرات والحاجيات التي تشكل الشيء، والتي عبرها يمكن تأويل سلوكياته وردّات فعله على نفسه والبشر الذين يتماس معهم. فنحن لا نعرف شيئاً عن عالم الأشياء التي نعتقد أننا نعرفها ونمتلكها.

لئن كانت الرواية تسرد قصة عائلة معاصرة مشتتة بين الخيبات التاريخية والتحولات السياسية والتفكك الأسري وانكسارات الشباب وتحطم العواطف في زمن رقمي وتوحش رأسمالي وواقع عولمة طاحن، فإن الرواية تسرد في المقابل حيوات الأشياء من حولنا، تلك الأشياء التي تتحكم فينا والتي تختلف هوياتها أيضاً ونوازعها من الأشياء ذات الحمولة الخرافية، والأشياء التي تلعب دور الغواية، والأخرى التي تلعب دور العلوم وثورة الاتصال، والأخرى التي تحمل عراقة الأصالة والحنين.

وذات الأشياء تختارها الكاتبةُ لتتناغم مع إيقاع الحياة، ومع الفضاءات التي تجري فيها الأحداث، فالأشياء مرآة عاكسة للأمكنة؛ تلك الأمكنة الضبابية التي لا نتعرف عليها من خلال أسماء الشوارع والمحلات، بل عبر الأشياء الراوية، فتونس ترزح بإيقاعها الشرقي تحت الكرة البلورية للتنجيم وقارورة النبيذ، بينما اليابان يركض مع نبض الهاتف الجوال الذكي.

يقول الهاتف الذكي متحدثاً عن اليابان واليابانيين: "كل شيء هنا آلة موسيقية. آلة متطورة وكبيرة جداً، تجمع شعباً من العازفين. أعضاء الفرقة عازفون مثاليون تجاوزوا قدراتهم البشرية. تفوقوا على جيناتهم الإنسانية التعسفية لينبعثوا أبطال أنمي مدهشين، وانصهروا مع آلاتهم في كمال أسطوري، حتى تحولوا هم أنفسهم إلى أشخاص آليين خارقين. فرقة متجانسة متوحدة لا يحدها ضيق وخشبة المسرح. كل صوت يصدر من خارج آلتها معلناً نشازه، سرعان ما تستثمره ليصبح جزءاً من عزفها، حتى إن كان صوت تسونامي أو زلزال مدمّر".

هنا في اليابان وعبر شخصية "علاء" تتأكد تيمة العزلة والشعور بالوحدة التي عالجتها الرواية في كل فصولها؛ من عزلة الفتاة الصغيرة في الفصل الأول مع العرافة إلى عزلة الشاب مع قنينة النبيذ إلى عزلة الأم مع حبوب النوم، ثم عزلة الأب المنهزم سياسياً إثر ثورة التونسيين عبر اعترافات القلم.

كانت كل تلك الأجواء التي ينتفي فيها الحب أو ينهزم مؤذنة بحدوث كارثة،  فلا يمكن أن يقود هذا التيه وهذا التقطع وهذه العزلة إلى شيء غير الانتحار؛ ذلك الذي أقدمت عليه الطفلة. والحق أن الطفلة لم تكن وحدها من انتحر، لأن كل الشخصيات تقريباً تعيش حالة موت مؤجل بسبب أمراضها النفسية المتعددة التي أخرجتها من الحياة الطبيعية إلى أخرى معقدة، لعل مرض الاكتناز القهري بالنسبة للأب أهمها لصلته بالأشياء وبالعالم الذي ترويه الكاتبة، حيث تتجمع الأشياء حوله في وضع سوريالي.

ينهض أسلوب سمر سمير المزغني على تقنية التوليد، فتتناسل القصص من بعضها بشكل سحري على شاكلة "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" و"دون كيخوته" لسرفانتيس، و"الجحش الذهبي" لأبوليوس

يقول القلم: "في كل يوم، يبحث في غرف البيا وأركانه عن أمتعة قديمة تخلى عنها أصحابها؛ أكياس بلاستيك مثقوبة، سجلات أرقام هواتف مات أصحابها منذ زمن طويل، معلبات قصديرية علاها الصدأ، وأي شيء لم يلحظ غيابه من المكتب… كان يقف بين تلك الأشياء يكلم نفسه ويسترجع تاريخه وعلاقته بالسياسة والسياسيين، وكيف تورط تدريجياً في الفساد".

إنهاء الرواية بصوت جماعي للأشياء تحت عنوان "كل الأشياء" يؤكد ذلك المنزع الموسيقي الذي بنت به الكاتبة روايتَها، وكان الانصهار الجماعي للآلات/الأشياء لتطلق نشيداً واحداً بعد البوليفونية التي قادت بها الكاتبة الحفل/الرواية، لتتعالق الرواية مع عنوانها: "أشياء"، مؤكدةً أن حيوات البشر ما هي إلا ذرائع جانبية لعمل أصيل في استنطاق الأشياء التي تحولت إلى واقعة مهيمنة في الوجود البشري حتى صار على هامشها، وحان الوقت لنصغي إليها ونسمع حكاياها.

الكتابة العابرة للأعمار

كنت يوماً في حوار مع الكاتب البرتغالي أفونسو كروش صاحب رواية "الكتب التي التهمت والدي" وحدثته أن ابني قرأ روايته واستمتع بها دون أي مشاكل في التلقي، فسألني: كم عمره؟ أجبته: عشر سنوات فقط. فقال: عادي جداً، أصلاً أنا كتبتها لهذا السن، ولهؤلاء القراء. ودار بيننا حوار حول حقيقة الكتب الموجهة للناشئة والكتب الموجهة لكل الأعمار.

ذات الحوار دار بيني وبين الكاتب الأرجنتيني الكندي ألبيرتو مانغويل أثناء حديث عن طقوسه وعادته في إعادة قراءة ذات الكتب التي قرأها في طفولته أو التي قُرئت له ليكتشفها من جديد مع كل مرحلة عمرية، ويكتشف معاني مخبأة فيها، كأنما تلك المعاني تحتفظ بها النصوص لكل عمر دون أن تفسد على القراء قراءتهم، أطفالاً كانوا أم شباباً أم كهولاً أم مسنين.

الكاتبة سمر سمير المزغني

ضمن هذه النوعية من القصص التي يمكن أن نسميها "الروايات العابرة للأعمار" تقع رواية "الأشياء" لسمر سمير المزغني، وأعتقد أن هذا النوع لا يقدر الخوض فيه إلا كتّاب باشروا الكتابة للأطفال مثل أفونسو كروش، الذي بدأ حياته الثقافية مصممَ رسومات لأدب الأطفال، أو كاتب مثل ألبيرتو مانغويل المولع بالرسوم الطفولية وصناعة الدمى، والكاتب الذي عاش بشخصية الطفل الذي نحتته قصص شارل بيرو وروبرت ليوس ستيفينسون، وهي كتب مرنة وذات طبقات من المعاني تتكشف مع هوية كل متلقّ واستعداداته الذهنية والفكرية والمعرفية.

ينهض أسلوب سمر سمير المزغني على تقنية التوليد، فتتناسل القصص من بعضها بشكل سحري على شاكلة "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة"، و"دون كيخوته" لسرفانتيس، و"الجحش الذهبي" لأبوليوس. وتتسم كتابتها بأصالة نكتشفها من مرونة ذلك التوليد للقصص، فيأتي الخروج من الحبكة إلى الحبكة ومن القصة إلى القصة الموالية بمرونة كبيرة تسمى في نقد الشعر بخاصية حسن التخلص، فنغادر فضاء وشخصيات إلى فضاء آخر وشخصيات جديدة بشكل مرن كأنما تسحبه الكاتبة بخيط سحري يجعله يتورط من جديد في تشويق جديد.

وهذا التشويق الذي تحرص الكاتبة على إيجاده في كل مقطع يعيد الرواية إلى فن القصّ الأصيل، فالمعاني وحدها لا تكفي، كما لا تكفي القدرة على التلاعب بفنيات الكتابة واستعراضها، إذا لم يكن ذلك الإدهاش مستمراً مع الرواية في كل فصولها؛ إدهاش، ربما، يستمد وجوده من ثقافة الكاتبة وتجربتها في الكتابة للطفل. ذلك الإدهاش المحقِّق للمتعة عبر شحنات التشويق التي لا تنتهي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image