الصفحة الأخيرة في رواية ميرال الطحاوي "أيام الشمس المشرقة" أعادتني إلى المشهد الأول. تحيل الكارثة العمومية إلى فاجعة شخصية، في الصفحة الأولى، لبطلة الرواية "نِعَم الخباز". وبين القوسين يمتد مسرح يلخص التراجيديا الإنسانية في عالم لا يخفي شراسته، ولا يخجل من التوحش. لا شعار مرفوعاً. توسّلٌ بالفن لإدانة قيم ما بعد الكولونيالية.
الجنوب لم يتحرر تماماً بعد خروج جيوش الاستعمار. استمرأ إعادة إنتاج القهر، ومارس استبداداً على مواطنيه؛ فكفروا بالوطن الطارد، وعلقوا آمال الخلاص الفردي على مقامرة الهروب إلى الشمال، واستأنسوا العبودية المختارة. يهرب البؤساء من جحيم يعرفون حدوده، إلى جحيم بلا ضفاف، ينتهي بالاختفاء الغامض أو القتل أو الانتحار.
تمثل رواية "أيام الشمس المشرقة" قطيعة مع تراث عالج علاقة الشرق والغرب، من استعلاء الشاعر الإنجليزي روديارد كبلنج: "الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا"، إلى انتقام الضحية متمثلاً في "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، إلى معضلات وجودية للشرق والغرب معاً في أعمال تالية منها "بالأمس حلمت بك" لبهاء طاهر.
رواية "أيام الشمس المشرقة" جدارية تحتشد بالأنفس المعطوبة. الشخصيات مثقلة باختلالات نفسية لا ينجو منها أميّ ولا متعلم بلغ ذروة ما يطمح إليه طالب، أن يصير أستاذاً بالجامعة
دائرة الجحيم هنا تسع الجميع، خصوصاً الحالمين بنعيم الشمال، المتعلقين بأذياله، لاجئين من شرقي آسيا وإيران والعالم العربي وإفريقيا وأمريكا الجنوبية. تجمعهم "الشمس المشرقة"، المستعمرة المعزولة بين الجبال والمحيط. طبيعتها الصخرية أصابت سكانها بعدوى القسوة، فألِفوا الكوارث والجرائم. ثم يواصلون حياة غير عادلة، متصالحين مع إدراكهم أنهم نفايات في مزبلة.
رواية "أيام الشمس المشرقة" جدارية تحتشد بالأنفس المعطوبة. الشخصيات مثقلة باختلالات نفسية لا ينجو منها أميّ ولا متعلم بلغ ذروة ما يطمح إليه طالب، أن يصير أستاذاً بالجامعة.
في الرواية، الصادرة عن دار العين للنشر في القاهرة وتبلغ 278 صفحة، لا تسلم شخصية من تشوّه نفسي، وإذا سلمت لاحقتها أعطاب شخصية أخرى غير سوية. وقد يمدّ القارئ يده للحنوّ على هذه الشخصية أو تلك، فيفاجأ بالضحية توجه انتقامها إلى أبرياء. غابة بشرية كائناتها هشة، والدفاع عن الهشاشة يتخذ أشكالاً عنيفة. قليلون استطاعوا حماية أنفسهم، مثل الزنجية "ميمي دونج" التي عاشت معتزة بنفسها كأميرة، وأحاط الغموض باختفائها، حتى لفظت المياه جثتها.
من المهم أن يكتب الكاتب عما يعرف. في هذه المعرفة إيحاء إلى القراء باختفاء الكاتب نفسه، فيتورطون في أحداث يعرفونها، وينفعلون بما تركته الكاتب من فجوات تستكملها الأخيلة. وعلى الرغم من اعتماد ميرال الطحاوي على الراوي العليم، فإن هناك تفاوتاً في الوعي، وحدود الإدراك.
الفروق واضحة في حوارات "سليم النجار" المثقف الفلسطيني وكل من "نجوى سالم" طالبة البعثة و"نِعَم الخباز" الأمية التي تضيق بسماع الكلام الكبير. "نِعَم" امرأة دميمة، عاشت طفولة قاسية، وكبرت كخادمة. ومن باب الخدمة اصطحبها أحدهم إلى هذه البلاد، وعملت كراعية للعجزة في منتجعات شمالية، ونالت إقامة شرعية، ولم تنل حظاً من التحضر، واحتفظت بسلاطة لسانها وفجاجتها.
تبدأ الرواية بانتحار "جمال"، الابن الأكبر لنعم الخباز وأحمد الوكيل. رحيل غامض، كغموض الميول الجنسية للمنتحر وطبيعة علاقته بالنساء. الحقيقة تعرفها ميمي دونج التي تنتهي الرواية بغرقها.
أتى أحمد ونعم من ريف مصر. هنا صدقٌ جارح. ليست كتابة "عن" الريف، بل "في" ريف اختفت ملامحه بألفاظها الدالة على زمن نشأة نِعَم وأحمد "نزّاح الخرا"، لأنه يفرغ "خزّان" دورة المياه من البقايا الآدمية. هو ابن فقراء لا يكترثون لرقع في ثيابهم، "ولا لآثار القوباء على جلودهم الخشنة، ولا لرائحة الطين وروث البهائم الذي تمتلئ به أحذيتهم البلاستيكية، لا يكترثون برقع الأحذية ذاتها التي جرى لحامها أكثر من مرة لتفضح هذا الفقر".
يهرب البؤساء من جحيم يعرفون حدوده، إلى جحيم بلا ضفاف، ينتهي بالاختفاء الغامض أو القتل أو الانتحار.
ريفٌ آفل تستعيده الرواية، بإيجاز ومهارة. وبتلقائية تبث فيه حياة يجهلها ريفيون محدثون لم يعانوا الحفاء، ولم يروا أحذية بلاستيكية مرقعة، ملحومة ببقايا أحذية أخرى، بلاستيكية أيضاً. ولا يعرفون داء "القوباء" المرتبط بالافتقار إلى الوعي الصحي واشتراطاته التي كانت، قبل نصف قرن، تفوق إمكانات الفلاحين. لكن ميرال تعرف هذا، وكتبته بضربات فرشاة خاطفة توجّهها عين رحيمة لا تسعى إلى الاستعراض.
في "الشمس المشرقة" تحايلت نِعَم على أحمد الوكيل فتزوجها. علاقتهما، بعد تفاعل فقرين، تشبه "تصادم جبلين من الجليد، يتقاربان فقط ليسحق بعضهما بعضاً، ثم ينسحبان بعد خسارة حتمية بفعل التنافر العميق بين روحيهما". طلقها، ثم انتحر جمال، واختفى أخوه "عمر".
الرواية تدل على نسق عمومي أنتجها. في البيئة الريفية يتنمّر الفقراء على الأكثر فقرا، وينمو الرياء، والنفاق الديني ويجسده مدرس العلوم الذي شغل فصلاً عنوانه "النبي الكاذب". وفي الجامعة فساد أكاديمي. وفي حدود قراءاتي لم أجد أستاذاً أكثر فساداً ووقاحة من يوسف الأزهري، رئيس قسم التاريخ والاجتماع والدراسات الإسلامية. النصاب، المدّعي، سارق الأطروحات، الفخور بفحولته، كما لا يخجل من التباهي بمغامراته العاطفية، ومن وصف بعض الطالبات بأنهن "عاهرات". طالبة واحدة تدرس الفلسفة الإسلامية اسمها "زهرة" علمته الأدب. أغوته وغابت؛ فأصابه الشوق بالهوس. ثم عادت، فحظيت بعنايته، وتخرجت بتفوّق أهّلها للتعيين معيدة، فعبرت "مرحلة العاهرة الصغيرة إلى العضو الفعّال" في القسم.
قرر الأزهري التخلص من "نجوى سالم" عضو هيئة التدريس، الشاهدة على فصول مسرحية "زهرة" وصعودها. فاجأها بمنحة دراسية، وهناك تتعرض لعنصرية "هانا ميلر" رئيسة القسم التي لاحقت "نجوى" بالسخرية، فانتهت بها الحال كاختصاصية اجتماعية في وحدة إغاثة الأسر المنكوبة في "الشمس المشرقة". ربما لا توجد بلدة بهذا الاسم، ولعلها مكسيكية تطل على خليج كاليفورنيا. لكن في نهاية الرواية إشارة إلى هبوب "رياح سانتا آنا الموسمية"، ومركز الاحتجاز في سان لويس في أريزونا، واعتقال أشخاص "كانوا يستعدون للعبور على شاطئ كارلسباد". ويرد في صفحة 272 أول تصريح بحماية "الحدود الأمريكية"، إذ يجنح مركب "عين الحياة" بالقرب من الشاطئ، حاملاً متسللين جدداً.
في "الشمس المشرقة" لا يهتم أحد باختفاء أحد. أمهات يتركن أطفالهن، ويهربن مع غرباء. رجال يسأمون؛ فيستللون إلى الشمال. ولا يملك معظم السكان أوراقاً شرعية للإقامة أو للرعاية، وهناك تمرّ الكوارث
المصريون الثلاثة، نِعَم وأحمد ونجوى، امتازوا بفصول تتقصى جذورهم. وتخلو الرواية من إشارات إلى جذور "علياء الدوري" العراقية باذخة الجمال والثراء. لا شيء إلا إقامتها في قصر بمنتجعات "الجنة الأبدية". أما سليم النجار، الفلسطيني المثقف الفنان، فتتعدد رواياته منذ إخراج جده من الجليل، والإقامة في مخيم عين الحلوة. ذكرياته موزعة على مدن عربية وأجنبية، "ثم تحطمت مراكبه" على شاطئ "الشمس المشرقة". وصار حارس عقار ينتظر علياء الدوري، إذا هبطت من عليائها في "الجنة الأبدية" لزيارة الحديقة البشرية، المستنقع الذي يضم مسحوقين راضين بكونهم بقايا بشر. يدركون خيبات آمالهم، وأنهم لم ينجوا، وأنهم في "مزبلة مليئة بجثث الأحياء بشكل من الأشكال".
في "الشمس المشرقة" لا يهتم أحد باختفاء أحد. أمهات يتركن أطفالهن، ويهربن مع غرباء. رجال يسأمون؛ فيستللون إلى الشمال. ولا يملك معظم السكان أوراقاً شرعية للإقامة أو للرعاية، وهناك تمرّ الكوارث، كما "تعبر النكبات على الجميع في تلك الأرض، يكبر الأبناء على كراهية تلك الحياة الشاقة، ويهربون حين يتسنى لهم ذلك، ويعودون إذا أخفقوا في العثور على ما طمحوا إليه، ويطلقون الرصاص إذا رغبوا في نهايات سريعة ودامية تختصر أوجاعهم". هكذا تنمحي المسافة بين الموت والحياة منزوعة الآمال. لا فكاك من قدر يحكم قبضته، ولا يمنح الذين يفكرون في رفض البؤس أملا في مصائر أكثر إنسانية. يبقى الانتحار خيارهم الأخير.
ستبقى رواية "الشمس المشرقة" طويلاً في الذاكرة، وثيقة إدانة أخلاقية لعالمنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون