"يظهر الكاتب الحقيقي من روايته الأولى"؛ يمكن القول إن إيناس حليم هي تطبيق لتلك المقولة في روايتها الأولى "حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة" الصادرة حديثاً عن دار الشروق.
الرواية تتكئ على حادثة جرت عام 1973، واتخذت مكاناً لها هو الإسكندرية، تلك المدينة الساحرة التي هي أيضاً محل إقامة البطلة أو الراوية "شادن"، التي تُقرر كتابة رواية عن ذلك الحادث، تكشف فيه عن ملابساته بالكامل، والأهم، حقيقته المطموسة عمداً، على حد قولها! لكن من سيدخل إلى عالم الرواية من منطلق أنها سوف تجيب على السؤال المحيِّر وتحل اللغز الغامض لاختفاء تلك السيدة، ذلك الاختفاء الذي لم تنجح التحقيقات الصحافية التي قام بها الصحافي الشهير "مفيد فوزي" سوى في إلقاء مزيد من التشويش والضبابية والتيه على أحداث تلك الواقعة المتناقضة الاعترافات لأبطالها، والتي سرعان ما انتهت حلقات تلك التحقيقات حين قررت الدولة إغلاق ذلك الملف نهائيّاً، فسوف يصاب بإحباط شديد، ذلك أن البطلة الحقيقة في تلك الرواية ليست تلك السيدة التي شكَّل اختفائها لغزاً يصعب تصديقه أو تفسيره أو فهمه، وإنما هي الراوية التي تكتب رواية تلك السيدة!
كلّ منا له سقطته (سقطاته) الخاصة، كل منا له أخطاؤه وخطاياه، كل منا أراد التخفي والاختباء، كل منا سقط سواءً بإرادته أو رغماً عنه في حفرة أو بئر مظلم، لبعض أو كل الوقت
"الكتابة علامة شفاء الراوي" عبارة للكاتب السكندري علاء خالد، استشهدت بها الراوية، ووضعتها في نهاية روايتها، وكأنها تشير إلى شفائها من أسقام وعلل الطفولة والمراهقة، من ثقوب الروح، وفقد الجدة، والتجارب الأليمة التي عاشتها مع أبويها وحبيبها، من نجاتها من كل ذلك بفعل الكتابة، فعل التعري والبوح الذي يريح صاحبه ويهدهد من روعه، ويجعله يستكين متقبّلاً كل ما مضى وكل ما سوف يأتي.
من هذه النقطة تحديداً، سوف نجد أن الراوية بطول كتابتها للرواية التي أرَّقتها طويلاً سواء في محاولاتها إيجاد مدخل مناسب وشائق لها، أو باكتشافها أنها سقطت في متاهة ضاعت فيها حقيقة ما حدث لبطلتها، ولم تستطع فيها تقديم نهاية شافية للقراء الذين يبحثون دوماً عن إجابات وحلول لأسئلتهم ولا تغويهم النهايات المفتوحة، ستكتشف "شادن" أنها لم تكتب عن تلك السيدة اللغز، بقدر ما كتبت عن نفسها وحياتها وعائلتها، عن مخاوفها وأحلامها، عن آمالها وطوحاتها، عن سيرة كاملة لعائلة تنتمي إليها، عائلة هي ملخص كامل لأنماط البشر جميعها.
سوف تكتشف الراوية أن "ميرفت أحمد شحاتة" لم تكن الوحيدة التي سقطت في الحفرة، ولكنها ستكتشف أن جميعنا فعل، فكلّ منا له سقطته (سقطاته) الخاصة، كل منا له أخطاؤه وخطاياه، كل منا أراد التخفي والاختباء، كل منا سقط سواءً بإرادته أو رغماً عنه في حفرة أو بئر مظلم، لبعض أو كل الوقت.
تمثِّل الرواية التي تكتبها "شادن" رحلة بحث الإنسان عن الحقيقة، حقيقة الحياة والوجود، حقيقة أنه ليس هناك حقيقة ثابتة، وحقيقة أنه على الرغم من ذلك فلا يجب أن يكف الإنسان عن عملية البحث تلك، فالبحث بحد ذاته رحلة ذهنية وروحية شديدة الثراء والعمق، إذ هي في أصلها رحلة في عمق الإنسان، تستدعي ماضيه، وتنبش فيه بعنف، محاولة تحليله واستقاء منبع الحكمة من كل تفصيلة فيه. لذا، تتوصل الراوية إلى تبني نظرة عقلانية تجاه الناس وكل ما مرّ ويمرّ من أحداث؛ تلك النظرة الحصيفة، المتزنة، التي تمنح صاحبها رؤية هادئة، محبة، تفتقد لصخب العاطفة الهوجاء، نظرة نبيلة، متسامحة، تتقبل الضعف الإنساني وتتفهمه. ومن هنا أيضاً لا يملك القراء سوى التعاطف مع أكثر النماذج المنبوذة مجتمعيّاً كـ"راوية" الأقرب لبائعة هوى، و"فريد" الرجل مثليّ الجنس.
تلك الرحلة هي ما ستفتح عند "شادن" ما يُسمى بـ"العين الثالثة"، والتي تعني البصيرة والحكمة والحاسة السادسة، إنها العين التي فشلت الأم في فتحها على الرغم من دروس الطاقة والتأمل التي كانت تحرص على حضورها، وهنا يكمن الفارق بين فرد وآخر، بين من وقع في حفرته واستسلم لها، وبين من وقع ثم قام من وقعته أقوى من سابقه، بين من ظل حتى النهاية أسير مشاعره السلبية وبين من تخطاها وتجاوزها.
صورتنا المرتسمة على المرآة ما هي إلا انعكاسات لصور أشخاص مختلفة، وبعبارة أخرى، صورتنا مرسومة فوق وجوه الآخرين.
لذا، ستفشل الأم في كتابة الرواية، بينما ستنجح الابنة في ذلك؛ الابنة التي قدمَّت الشخصية والأحداث بحيادية تامة، دونما افتعال، دونما جو أسطوري يخيِّم عليها (كما أرادت الأم)، بل قدمَّت كل الاحتمالات التي جعلتها كلها واردة التحقق، وظلت هي وكلماتها على مسافة واحدة من جميعها؛ فـ"ميرفت" يمكن أن تكون قد خُطِفَت من قِبَل الزوجة الأولى لزوجها، وقد يكون جنيّ عاشق قد جذبها إلى باطن الأرض، وقد يكون زوجها قد تخلَّص منها لسبب ما، وقد يكون أي احتمال رابع أو خامس.
تقبَّلت الراوية التي تربت على يديْ جدتها لأمها، والتي كانت تؤمن بالجن والقوى الغيبية، أن يكون في هذا العالم ما هو غير مفهوم، وما يستعصي على التفسير المنطقي، وفي ذات الوقت تؤمن بالعقل، وبأنه ربما يكون هناك مؤامرة ما، هي ما أعدَّت لذلك الحادث وتعمَّدت طمس ملامحه لغرض سياسي مرتبط بإلهاء الناس عن مطالبة الرئيس (السادات) بضرورة شن حرب على العدو.
تسير الرواية في خطين متشابكين ومتداخلين بشكل كبير، خط تستعرض فيه "شادن" أهم وأدق وأخطر محطات ومشاهد حياتها والشخوص التي تركت أثراً لا يمحى فيها، والآخر تتحدث فيه عن عملية البحث عن المادة الخام لكتابة روايتها وعملية الكتابة ذاتها، وبتكنيك الحكاية داخل الحكاية، تغزل الراوية بداخل الخط الأول حكايا صغيرة متعددة، كحكاية عن الرواية الأولى للأم، وحكاية عن حدوتة غرائبية للجدة، بالإضافة لشذرات من رواية الأم، والتي تحمل قدراً غير يسير من حياتها، ليتضح لنا أن الكاتبة قد استطاعت تقديم صورة عن العالم كله بحبسه داخل متن تلك الراوية البديعة، التي كما تحتضن بحب شخوصها، تحتضن وتجاور الحقيقة والخيال، حتى تكاد ملامح ما يميز كل منهما تضيع بتداخل الآخر معه.
البحث المكثف للراوية عن ملابسات ووقائع قصة السيدة التي سقطت في الحفرة للوصول لواقع ما جرى لها، كان في حقيقته بحثاً عنها هي، عن ذاتها التائهة، المشوشة، المحتضِرة، عن كنه الرؤى التي تطاردها والأحداث التي غابت خلف أستار الأيام والذاكرة المراوغة، عن حقيقة ما عاشته ومن أحاطوا بها، بحثاً انتهى بعملية تعافٍ وإحياء لروحها المعذبة، رحلة انتهت بالتصالح والسلام مع الذات والآخرين.
ذلك التسامح الذي اتسمت به الراوية في علاقتها بأناس لفظهم المجتمع، ليس عنصراً دخيلاً على "شادن"، بل إن بداية حياتها تماماً هي صورة حقيقية لذلك التسامح والتعايش والتفهُّم والحب، حين نعلم أن جدتها التي قامت بتربيتها مع بقية الأحفاد، المرأة القوية والشخصية المؤثرة في حياة البطلة، هي امرأة مسيحية صعيدية تزوجت من جدها المسلم بعد قصة حب ملتهبة، لم يقوضها اختلاف الدين أو النظرة المجتمعية. إنها القوة نفسها التي سترثها الحفيدة "شادن"، والتي ستقرر بها مواجهة العالم وحياتها الماضية، التي ستسير فيها بثقة وتصالح مع الذات.
صورتنا المرتسمة على المرآة ما هي إلا انعكاسات لصور أشخاص مختلفة، وبعبارة أخرى، صورتنا مرسومة فوق وجوه الآخرين، فكل منا يحمل صليبه، وكل منا يصطلي بنار تجربته وعقد طفولته، وكل من يحيا مأساته، التي قد تبدو مختلفة ومتباينة، لكن بتبني نظرة عميقة سنتأكد من أنها واحدة. فالأم ترى نفسها في وجه العمة "ياقوتة"، و"شادن" ترى نفسها صورة من الأم، تحمل مأساتها وتتشارك معها الكوابيس الأكثر رعباً.
لم تكن السيدة الجاري التنقيب عنها وعن سيرتها تمهيداً للكتابة عنها هي الوحيدة التي اختفت اختفاءً يثير الشكوك والاحتمالات المفتوحة على كل غريب وغير معقول، ذلك الاختفاء الذي يمنح للحكاية مذاقها الأسطوري، فالعمة (ياقوتة) فعلت، وكذلك الأب، وبشكل أو بآخر فعل الحبيب "يحيى".
البحث المكثف للراوية عن ملابسات ووقائع قصة السيدة التي سقطت في الحفرة للوصول لواقع ما جرى لها، كان في حقيقته بحثاً عنها هي، عن ذاتها التائهة، المشوشة، المحتضِرة
قد يكون ذلك محاولة من الكاتبة لنزع القداسة عن الأسطورة وأبطالها، محاولة لقول إنه ليس كل ما يغري بالتتبع، ويلتحف ببريق يخلِّفه الغموض المربك، خليقاً بأن يُخلَّد كأسطورة تتناقلها الألسن، وتتحاكى بها الأفواه، وتتناقلها الأجيال. وربما تكون محاولة لقول إنه ليس هناك نهاية لكل الحكايات، أو محاولة لقول إنه ليس هناك حقيقة ثابتة، وإنه من العبث القول بالعثور عليها، وإن كان المضي في طريق البحث عنها قد يكون أسمى ما يفعله الإنسان في حياته.
حملت "شادن" كارما أو لعنة الأب والأم، وربما العمة، لكنها استطاعت الهروب منها حين خرجت من أسر إطار العظمة الزائفة والوهم الكاذب اللذين أطَّر بهما ثلاثتهم حياتهم وشخصياتهم، وتخلصت من إلحاح كوابيسها حين أتمَّت روايتها التي بددت عتمتها الداخلية. إنها المرأة التي استطاعت الخروج من الحفرة، عكس معظم من سقطوا فيها، واستمرأوا السقوط.
جدير بالذكر أن إيناس حليم، هي كاتبة مصرية من مواليد الإسكندرية عام 1983، تخرجت في كلية الهندسة، وصدرت لها مجموعة قصصية بعنوان "يحدث صباحاً" عام 2013، و"تحت السرير - مجموعة بورتريهات بالعامية المصرية" عام 2014، والتي فازت بمنحة مؤسسة المورد الثقافي، وقد حصلت على جوائز في القصة القصيرة، ونُشِرَت لها نصوص ومقالات في عدد من الصحف والمجلات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...