دجاجاتي لا يهتممن إن كنت براغماتياً معهن أو شخصاً أهبل، ولا كيف يؤثر بهن أن تكون الأرض مسطحة أو "فطبولية"، ولا حتى يهتممن مثلي كيف للقنّ المدوّر دور جيبولتيكي يؤثر في هذا العالم ويحركه دون أن يدرين، ولا كيف أن للإنسان الذي يربيهن (الذي هو أنا) احتياجات خلدونية مستمدة من طبيعته كإنسان، من مأكول ومشروب وملبوس. تماماً مثلهن مثل أي عربي يحاضره آخر عن أصل الأنواع، باستثناء أن العربي يدرك تماماً، دون حاجة مسبقة ليذكره دارون بها، بأن أصل الإنسان "سعدان".
لربما يملن لهيغل أكثر، لأنه "من المؤكد أنه ليس هناك شيء مؤكد"، في علاقة بشري بست دجاجات بلديات وديك أبلق، وكأنهن كل يوم، وكل صباح يشرن بمخالبهن في وجهي الهزيل ليقلن لي: "يا أهبل. إن الحسد أغبى الرذائل إطلاقاً، وأنه لا يعود على صاحبه بأية فائدة".
وعلى هذا كله تركتهن لما أردنه من البحث عن الطعام، هنّ وذاك الديك الهزيل الذي يطاردهن بلا منفعة، في بقعة أرض مستوية تحرسها كلبة جارتي محاسن.
خلال تلك السنوات، كانت تربطني بهن علاقة ود وديمقراطية، فأنا لم أكن لأكرههن على أي حال، إذ يحق لهن التنقل والأكل من أي مكان يردنه، حتى ألِفن المنزل والبشر، على ألّا يستوحشن أي غريب.
دجاجاتي لا يهتممن إن كنت براغماتياً معهن أو شخصاً أهبل، ولا كيف يؤثر بهن أن تكون الأرض مسطحة أو "فطبولية"، ولا حتى يهتممن مثلي كيف للقنّ المدوّر دور جيبولتيكي يؤثر في هذا العالم ويحركه، ولا كيف أن للإنسان الذي يربيهن (الذي هو أنا) احتياجات خلدونية مستمدة من طبيعته كإنسان
هذه الأريحية جعلتهنّ يغِبنّ لساعات طوال ولا يعدن إلا مساء، حيث يرغبن في النوم. وبفعل ذلك لم أكن لأجني بيضاً منهن طوال فترة التسامح السياسي تلك التي منحتها لهنّ، إذ اعتدن البيض في خُمّ جاري الذي استنعم عيشهن بين دجاجاته، فأنا أهتم بهن وأطعمهن وأسقيهن وأرعاهن وأحميهن من كلبة جارتي محاسن المكلوبة، في حين هو يجني بيضهنّ بلا مقابل، تماماً كما كنت أكدح طوال النهار في حصاد الشعير لتجني الحكومة حصاد تعبي.
مع ذلك، كنت أتغاضى عن ذلك عن طيب خاطر، إلى أن حرّضتني زوجتي، كأي رجل عربي تحرّضه امرأة، فقفلت راجعاً إلى عاداتي السابقة لأكون في حِلٍّ من عقودي معهنّ.
حبستهنّ بقسوة، ثم كبّلت أقدامهنّ ببعضهنّ البعض حتى لا يقدرن على الابتعاد، ثم استأجرت لهنّ "أبو عكر" صبي الجيران (الشلاتي الأزعر)، إذ اتفقت معه على أن يراقبهنّ وأن يضربهنّ إذا لزم الأمر، في حال حاولنّ الابتعاد أو ذهبنّ لمنزل جاري، فلا أنسب لهن من حارس مثله، فكذلك تفعل حكومات بلادنا، فهي توكل مهمة حفظ الأمن لزعرانها، وذلك لقاء بيضة يأخذها نهاية اليوم وصوصين حين تفقس بيوض دجاجتي البلدية، وجرواً من جراء كلبة جارتي "محاسن".
وبذلك كنت قد ضيّقت على انتقالهن حتى عاودن البيض مكرهات في زريبتي، وهو أمر أقلق جاري، وجعله يبدّل ما يبديه المرء لجاره من ود وفضيلة، فلم يعد يلقي تحياته كما كان يفعل في السابق، ولم يعد يكمل سهراته معي أو يتذكرني في مناسباته، لأنه اعتبر أني أحرمه حقاً كان له مكتسباً، بل لم يكتف بذلك، إذ مرت الأيام وفقدت بعضاً من دجاجاتي، من بينهن ديكي الأبلق المسكين، ليتبين لي فيما بعد أن لحمهنّ أصبح ثريداً في بطن جاري وبعضاً من عظامهنّ صارت مرقاً.
*****
كما النزاعات في بلادنا تفخّذ البشر، فإن منح الطعام على حبه يجمعها. لهذا منذ اثنتين وثلاثين ألف عام، حين كان الشماليون السوريون يخلطون العصيدة بالعسل، كان الجنوبيون يأكلون خبزهم المعجون بزيت الزيتون في قوالب ثم يوزعونها على جيرانهم صدقة وقرباناً، ومنذ ذاك الوقت وقدر العصيدة الآشورية وخبز "القالب" الحوراني أن تُصنع ليأكلها الجيران، حتى باتت حقاً مكتسباً للجار.
على هذا، كان ما كان بيني وبين جار ألماني، في بلد مختلف وبارد. إذ لازلت أحتفظ في ذاكرتي أول مرة التقيت بها هذا الجار قبل بضعة أشهر، حين حال بيني وبينه الباب في علّيته المعتمة والقديمة التي يمكث بها كدب وادٍ صخري ضيّق مهوش الملامح، حيث بدا ضخماً أشعث الوبر، وله عرف من الفراء حول رقبته وأكتافه. لهذا قدّمت له الطعام ورجعت عائداً، خشية أن يفترسني بعد أن أيقظته من سباته هذا.
هبّ الشعب بعد الاستقلال وأصبح كله خادماً للحكومة، يقدم لها الهبات والعطايا عن طيب خاطر، وبمرور السنوات صارت تلك الحكومات ترى أن خدمة الشعب لها هو حق مكتسب
لكن بعد أيام رأيته لأول مرة تحت أشعة الشمس، يتفحص بعينيه الغائرتين ضفة نهر pegnitz اليمنى (جنوب ألمانيا)، فبدا أشقر، خمسينياً، مربوعاً وبشعر طويل، ويحفظ عينيه الملونتين بنظارة طبيّة ذات إطار سميك، كما أدرك على ما يبدو أن يشدّ مؤخرته المترهلة لعنق ظهره ببنطال جينز ذي حمالات، وحين أقف بقربه أجدنا تماماً مثل بدين تشيخوف ونحيفه، لكن دون معرفة عميقة، باستثناء أنه كلما رآني طبع ابتسامة حلوة على وجهه، دون أن يراهن المرء على شيء من ورائها، لكنها ابتسامة ذات نغمة لطيفة.
بالعموم، بتُّ أمتلك جاراً طيباً الآن، وهذه بحق نعمة، صحيح أنه على الدوام تفوح من منزله رائحة العرق والرطوبة، لكنه بافاري طيب، ممتلئ، هادئ وأرمل، ومساعدة هكذا رجل تجلب لصاحبها البركة.
أتذكر جدتي الآن، تلك البدوية المسنة، ذات الوشوم العربية القديمة، كانت دائماً تقول "من دندن غنى"، تماماً كما يعتقد أي بافاري جنوبي بأن (نغمة المرء تحدّد موسيقاه)، لهذا فنغمة هذا الجار الحزينة بائنة في وحدته، منذ ارتحلت، أنا وشريك لي، لهذا المنزل. لذا ومنذ قدومنا اعتدنا تقديم الطعام له عن طيب خاطر، ليس بدافع الحسنى ولا العطف، إنما بدافع جيني اعتدناه.
على هذا الأساس الجيني فإن لهذا الجار الألماني حق مكتسباً في خبزنا. وهو أمر لربما لم يفهمه. وبما أنه وحيد أو تسكنه الوحدة اعتاد أن يجد طعامه جاهزاً. وهو فعل لم يكن ليزعجنا.
لكن بعد بضعة أشهر أجبرتنا هذه المدينة الجديدة، بتعقيداتها، كلاجِئَين، للانخراط في دورة اندماج مكثفة، حتى نكون جزءاً من هذه الفوضى وهذا النظام على حد سواء، فكان أن صرنا نصرف جُلّ وقتنا خارج المنزل. وكان من ذلك أن التجأنا إلى الوجبات السريعة بدل الأطعمة السورية التي كنا نعدها على مهل وجهد، لهذا بات من الملزم لنا لفرط انشغالنا أن نتراجع في عاداتنا، فلم نقدّم لذاك الجار أياً من طعام لأيام، وللأمانة نسيناه.
فما كان منه إلا أن طرق باب منزلنا متعرّقاً، حتى بدا أنه يجاهد لدفن فورته، وبشيء من عصبية سألني إن كنت صنعت له طعاماً، وحين حاولت شرح ذلك له بلغة ألمانية مكسّرة، بأن ضيق الوقت هو السبب، أطبق الباب بخلقتي وغادرنا بشيء من زعل، كما صار يشيح بوجهه عني كلما التقيته في الشارع.
يدرك السوريون موتهم اليومي على حدود الدول، فاليوم من بين المائة الهاربين لجبل الذهب، ينجو واحد فقط، في حين كان كل واحد منهم يصرخ يائساً: "لعلّي أنا الناجي"
*****
ما أجده أن المنح والعطاء حالة يقينية، سواء مع أصغر جار لنا إلى أكبر جهاز سياسي واجتماعي يؤثر بنا. فقبل مائة عام أو يقل سارعت الشعوب العربية بعد الاستقلال، تملؤها الرغبة، لمساعدة حكوماتها الجديدة في النهوض بالبلاد من جرائر الاستعمار، فقد سعت تلك الشعوب متعبة كيلا يشمت بها المنتدب، لتبرهن لشرعة الأمم، ولذاك المنتدب، أننا أمة قادرة على النهوض والمسير بلا أياد غريبة، لهذا صار الشعب كله خادماً للحكومة، يقدم لها الهبات والعطايا عن طيب خاطر، وبمرور السنوات صارت تلك الحكومات ترى أن خدمة الشعب لها هو حق مكتسب، وأن أي تغيير في عادات الشعب حول تلك الخدمة والعطاء القديم بات يعتبر انقلاباً وتمرداً يستوجب الرفض والقتل والنفي.
على هذا وخلال السنوات العشر المرّة الفائتة أيقنا كسوريين أن رزق المتنفّذين في بلادنا على أمثاله، ومنه لازلنا نقترف المنكرات حتى يقتدوا بنا، فنشغلهم وإلا لبار عملهم وبقي علمهم مطويّاً في صدورهم، فصار حقّ القضاة والسياسيين في مالنا حرٌ ومكتسب. وعلى هذا المنوال يدرك السوريون موتهم اليومي على حدود الدول، فاليوم من بين المائة الهاربين لجبل الذهب، ينجو واحد فقط، في حين كان كل واحد منهم يصرخ يائساً: "لعلي أنا الناجي"، فلا ضير إذن ولا ضغينة من أن يشعر السوري المهاجر بالقلق الدائم من أي عطاء يمنحه، فهو قلق رسول هارب من كافر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه