"أنا اتخرجت من كلية الطب حاولت ابقى دكتور بس لما كنت بتكلم، كانوا العيانين ينسوا المرض ويقعدوا يضحكوا، والممرضات كانوا يقعدوا يتفرجوا عليا وأنا بكلم العيانين مع ابتسامة عايزة تبقى ضحكة، أما الدكاترة زمايلي ف أنا كنت مسختهم، سبت الطب "، جاء هذا النص الحواري على لسان يحيي بطل فيلم "رسائل البحر" للمخرج داوود عبد السيد، ليقدم صورة مما يعانيه الأشخاص ذوو الإعاقة المختلفة في المجتمع من تنمر قد يصل بهم إلى فقد سبل عيشهم.
يقدم الفيلم صورة شاعرية ومؤلمة لحياة بطله المنسحب من المجتمع غير القادر على التفاعل معه، ويدفع المشاهدين لتفهم معاناة ذلك البطل والتعاطف معها عبر التوحد مع مشه وما يشعر به، ولكن هل هذا هي الصورة التي استقرت عليها الأعمال الفنية المصرية في التعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة؟
هذه الإنتاجات الفنية كلها وغيرها مما يسير على دربها يتجاهل مواد القانون المصرية التي تجرم السخرية والتنمر ضد الأشخاص ذوي الإعاقة
فيلم "رسائل البحر" الذي عرض للمرة الأولى عام 2010 من تأليف وإخراج داوود عبد السيد، لم يكن فيلمه الأول الذي يقوده بطل من ذوي الإعاقة، فقد سبقه فيلمه الأشهر "الكيت كات" من بطولة محمود عبد العزيز، وفي ذلك الفيلم أيضاً - المأخوذ عن رواية مالك الحزين لإبراهيم أصلان- لا تستخدم إعاقة البطل كفرصة للضحك المجاني، وإنما كركن رئيسي في بناء الدراما من دون ابتذال. لكن هذين الفيلمين - إلى جانب أعمال أخرى قليلة- يشكلان نقطة استثناء في تاريخ طويل لاستخدام الأشخاص ذوي الإعاقات في صناعة السينما والدراما والمسرح في مصر، إما لاستجلاب الضحكات أو إثارة التعاطف السطحي.
من بين الأعمال القليلة التي قدمت تمثيلاً لذوي الإعاقات على نحو واقعي من دون ابتذال، كان مسلسل رمضان كريم في جزئه الأول، وكذلك مسرحية "سالب واحد" التي عرضت للمرة الأولى عام 2021.
يتفرد هذا العرض بكون بطله من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأنه تم اختيار بطل من ذوي الإعاقات لكي يقود العمل فعلاً.
تدور أحداث العرض المسرحي حول مراهق من ذوي الإعاقات الذهنية والحركية، وما يدور في عالمه الذي يسيطر عليه الوالدان. يقدم العرض المسرحي الذي حظى بتغطية إعلامية معقولة دليلاً للأسر التي تربي ابنة أو ابن من ذوي الإعاقة، ونموذجاً على أن عدم تقبل إعاقة الأبناء وعدم تهيئة جو نفسي ملائم لهم ينعكس عليهم لينقطع التواصل بينهم وبين أسرهم، ما يحرم الابن أو الابنة الرعاية المطلوبة.
النائبة ابتهاج الطوخي، ممثلة الأشخاص ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة في مجلس النواب المصري: "لا يوجد قانون مخصص لما يقال أو لا يقال بشأن ذوي الإعاقة في الأعمال الفنية"
محاولات الفهم: صفر
وفي ظل سعي قليل من العاملين بحقل إنتاج السينما الدراما التلفزيونية والمسرح الابتعاد عن التنميط في تقديم ذوي الاحتياجات الخاصة، وخاصة من يعانون منهم من الإعاقات الذهنية، هناك من يصر على تقديم تلك الشخصية في صورة "البركة" مسلوب العقل والإرادة الذي يسخر منه الجميع مثل شخصية فاروق الفيشاوي في فيلم "ديك البرابر" ، أو شخصية ميخا التى قدمها الفنان أحمد بجه في فيلم "عبده موتة" أو شخصية "مسكَّر" التي قدمها حمزه العيلي في مسلسل "ابن حلال".
هذه الإنتاجات الفنية كلها وغيرها مما يسير على دربها يتجاهل مواد القانون المصرية التي تجرم السخرية والتنمر ضد الأشخاص ذوي الإعاقة، فوفقاً للمادة رقم (50 مكرر) لقانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة رقم 10 لسنة 2018، يتم معاقبة المتنمر على الشخص ذي الإعاقة بالحبس مدة لا تقل عن سنتين وأداء غرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تزيد عن مائة ألف جنيه أو بإحدي هاتين العقوبتين.
وتوضح النائبة ابتهاج الطوخي، ممثلة الأشخاص ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة في مجلس النواب المصري، في مكالمة مع رصيف22، أن "هذا القانون هو الذي يخص كل ما يسىء لذوي الاحتياجات الخاصة. ولا يوجد قانون مخصص لما يقال أو لا يقال بشأن ذوي الإعاقة في الأعمال الفنية".
وعن التحرك القانوني تجاه المخالفات المرتكبة في حق الأشخاص ذوي الإعاقة، تقول الطوخي إن المخالفة أو المشكلة "يجب أن تكون ملحوظة من جانب أفراد كثيرة داخل المجتمع وقد احدثت ضجة كي يمكن مناقشتها داخل المجلس [النواب]، لكن إذا كانت المخالفة لم يلاحظها إلا عدد قليل، فلماذا نساهم في نشرها مما يؤذي مشاعر عدد أكبر من ذوي الاحتياجات الخاصة؟".
وناشدت النائبة الأشخاص المتعايشون مع إعاقات جسدية أو الأوصياء على المتعايشين مع إعاقات ذهنية التقدم ببلاغات قانونية ضد أي شخص أو عمل فني يؤذي مشاعر الاشخاص ذوي الإعاقة.
الطبيب النفسي هاشم بحري: هناك تجاهل واسع النطاق للأثر الذي تحدثه الكوميديا القائمة على السخرية من الاشخاص ذوي الإعاقة في نفوسهم، إذ قد تخلق تلك المشاهد شعوراً بالإهانة والضعف، وقد تتسبب في الانسحاب والعزلة عن المجتمع المحيط
الرد في المحكمة
وبخصوص المشاهد التي قد تؤذي مشاعر ذوي الاحتياجات الخاصة، هل وجود الفنان طاهر أبو ليلة فى الأعمال الفنية مثل فيلم "ثانية واحدة" لمجرد السخرية من إعاقته في النطق تعد مخالفة قانونية؛ يجيب الدكتور حسام المساح الأمين العام السابق للمجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة وعضو لجنة الخمسين لتعديل الدستور 2014، أنه إذا كانت السخرية من ذوي الإعاقة في العمل الفني "لمجرد السخرية وإضحاك المشاهد فقط، وليس بهدف التوعية وإظهار تأثيرها السلبي على ذوي الاحتياجات الخاصة، تعتبر مخالفة قانونية ويجب معاقبة المسؤول عنها".
ويطالب الأمين العام الأسبق للمجلس القومي للاشخاص ذوي الإعاقة، بآن يلتفت المجلس لـ"هذه المشكلة"، وأن يتخذ السبل القانونية تجاه الأعمال الفنية المسيئة لذوي الاحتياجات الخاصة، معتبراً أنه هناك معركة لا بد من خوضها ضد "الفن الرديء" على حد وصفه.
الطبيب النفسي هاشم بحري يعلق في حديثه لرصيف22، إن هناك تجاهلاً واسع النطاق للأثر الذي تحدثه الكوميديا القائمة على السخرية من الاشخاص ذوي الإعاقة في نفوسهم، إذ قد تخلق تلك المشاهد شعوراً بالإهانة والضعف، وقد تتسبب في الانسحاب والعزلة عن المجتمع المحيط، حين يظن الشخص ذو الإعاقة أنه سيتم استخدام تلك "الإفيهات" في التعامل معه كما رأى على الشاشة.
وعند تأثر الشخص ذي الإعاقة سلبياً بعمل فني، ينصح الطيب هاشم بحيري أسرته بتعزيز إحساسه بالقوة، وذلك بجعله ينخرط في نشاط يحبه، خاصة الأنشطة الرياضية أو الفنية. كما ينصح - عند سوء حالته النفسية - بمراجعة طبيب نفسي فوراً. مؤكداً أن أغلب الأعمال الفنية تهتم بمناقشة المظهر الخارجي فقط، وتمتاز بالسطحية بشكل عام وينسحب ذلك على السخرية من الأشخاص ذوي الإعاقة.
دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المجال الفني يتيح التعبير عن مضمون شخصياتهم ومشاكلهم داخل المجتمع، بهدف تقديم أوجه من حيواتهم لا بهدف السخرية منهم كما في معظم الأفلام السينمائية التي تستعين بهم في مصر
هل هي حساسية مفرطة؟
قد يتم إتهام النشطاء المدافعين عن الأشخاص ذوي الإعاقة بـ"الحساسية المفرطة" في سعيهم لوقف استخدام الإعاقات الذهنية والجسدية في السخرية واستجلاب الضحك.
لكن بمراجعة الأكواد والقوانين السارية في دول يغزر فيها الإنتاج السينمائي والدرامي وتفرض معايير خاصة بالتمثيل representation للفئات المختلفة ومنها الأشخاص ذوي الإعاقة، نجد أن الحرية الكبيرة في طرح القضايا واستخدام اللغة البصرية لا تحول دون التعامل الصارم مع السخرية من الأشخاص ذوي الإعاقة بهدف الضحك فقط.
وتوجد أكواد تفصيلية لتمثيل الأشخاص ذوي الإعاقة أو "الأنماط العصبية الخارجة عن المألوف" Neurodivergent في السينما والدراما، ولا تكتفي تلك الأكواد بخطوط عامة بل تضع تعريفات منضبطة لمساعدة صناع الدراما والسينما والفنون الأدائية عموماً في تقديمهم للأشخاص ذوي الإعاقة أو الأنماط العصبية غير المألوفة في أعمالهم المنتجة.
وعند مقارنة ذلك الأمر بما يحدث في مصر، فقد تضمنت بعض الأعمال الفنية الكوميدية "إفيهات/ نكات" تمييزية واضحة ومباشرة ضد الأشخاص ذوي الإعاقة لأهداف الضحك فقط، ذوي الاحتياجات الخاصة، مثل "إيه يا أعمي" الذي قاله الفنان محمد هنيدي في فيلم "يا أنا يا خالتي" ، أو "هو أنا بأعرج قصادك" الذي قاله كريم عبد العزيز في "الباشا تلميذ".
محاولات للدمج والتمثيل
دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المجال الفني يتيح التعبير عن مضمون شخصياتهم ومشاكلهم داخل المجتمع، والدمج والتمثيل يعني الاستعانة بالاشخاص ذوي الإعاقة من أصحاب المواهب التمثيلية في أداء أدوار ذوي الاحتياجات الخاصة على الشاشة أو المسرح، بهدف تقديم أوجه من حيواتهم لا بهدف السخرية منهم كما في معظم الأفلام السينمائية التي تستعين بهم في مصر.
هناك محاولات بدأت فعلاً لهذا الدمج، منها استعانة المخرجة مريم أبو عوف بأشخاص من ذوي الإعاقة في مسلسل "وش وضهر"، وبالتحديد الفنان شريف دسوقي مزور الشهادات، وتعرض الفنان المسرحي لبتر ساقه نتيجة مضاعفات مرضية. كما استعانت بالفنان الطفل كريم لؤي في دور شقيق البطلة.
وعن دوره يقول الطفل كريم لؤي لرصيف22 إن المخرجة مريم أبو عوف اختارته بعد زيارة إلى مدرسته للبحث عن وجه جديد من خلال مشاهدة عرض مسرحي مدرسي لأوبريت "الليلة الكبيرة". ويؤكد لؤي لرصيف22 أنه يتمنى احتراف التمثيل مستقبلاً، وأنه الآن عضواً في فريق مسرحي "ضي للفنون"، الذي يستهدف دمج أصحاء البدن مع الأشخاص ذوي الإعاقة في عروض مسرحية.
نهاية، يمكن القول إن تناول شخصيات من ذوي الإعاقة في الأعمال الفنية المصرية يتأرجح بين دعم لهذه الفئة عبر التركيز على مضمون شخصياتهم ومشاكلهم، والإساءة لاستجلاب الضحك في مشاهد تمثيلية قد تكون لها تأثير سلبي على حالتهم النفسية وترسخ للصورة النمطية التي تسبب ضرراً لهم، لكن الشعور بالأمل لم ينقطع في الإصلاح خاصة حين نرى محاولات دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المجال الفني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم