شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
مشاهد من سوريا الصغيرة… آزاد عفدكي وكاميراه يصوّران كُرد عين العرب

مشاهد من سوريا الصغيرة… آزاد عفدكي وكاميراه يصوّران كُرد عين العرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بطلاقة مفاجئة يبدأ آزاد عفدكي حديثه، وكأنه كان ينتظر أحداً ليسأله عن نشاطه، وعما يحدث منذ سنوات في منطقته، شمال سوريا: "أمامنا الموت وخلفنا الموت، ولم تكن لدينا الفرصة لاختيار أي شيء سوى الثورة"، يقول.

آزاد من مدينة رأس العين السورية، محافظة الحسكة، ومن مواليد 1978. يعمل في مجال صناعة الأفلام الوثائقية القصيرة وعرضها، وعمل سابقاً مدرِّساً بعد حيازته الشهادة الثانوية السورية الموحّدة.

المصور آزاد عفدكي

انتقل آزاد إلى دمشق وحاول دراسة النقد المسرحي، عاش حالةً من التخبط الدراسي، فلم يكمل دراسته، وهذا ما حصل له في كلية التربية أيضاً، نتيجة عدم قدرته على الالتزام بالدوام، وهذه هي حال شبان سوريين كثر قبل الثورة في 2011.

كرْدُ السِّر والكتمان

"بإيجاز، حياتي ظلت دائماً محصورةً في المجال الفني وكتابة المسرح"، يقول. أسّس مع شبّان من أمثاله، ذوي اهتمامات متنوعة في منطقته، تجمّعاً لعرض الأفلام في البيوت. فرقابة النظام الأمني الأسدي المشدّدة كانت تمنع أيّ نشاطٍ جماعيّ في العلن، فيُرغَم الجميع على التكتم وإقامة نشاطاتهم في الحيّز الخاص: أمسيات شعريّة وقراءة قصص، تصوير أفلام فيديو وعرضها، إحياء معارض فن تشكيلي، حملات بيئيّة، وتوزيع أكياس لجمع القمامة وحملات نظافة. وانحصر نشاط التجمّع الشبابي في منطقته رأس العين، شديدة التنوّع السكاني والمعروفة بسوريا الصغيرة.

بحرقة وألم يروي آزاد مقتطفات من حياة الكرد السوريين: "نُصنَّف فئةً من درجة دنيا. نُمنع من استعمال اللغة الكرديّة، وتُحظر حظراً تاماً النشاطاتُ الثقافيّة اللّغوية والاجتماعيّة الكردية"

بحرقة وألم يروي آزاد مقتطفات من حياة الكرد السوريين: "نُصنَّف فئةً من درجة دنيا. نُمنع من استعمال اللغة الكرديّة. مُحرّم على العائلات تسمية أبنائها أسماءً كرديّةً، وتُحظر حظراً تاماً النشاطات الثقافيّة اللّغوية والاجتماعيّة الكردية. إنّه حصارٌ ثقافي واجتماعي كامل".

أطفال الحصار

لا ينسى آزاد طفولته اللّصيقة بتلك الينابيع الصّافية، وبالأرض: اللعب بالطين وكرة القدم، وحروب الأطفال العنيفة في المدرسة. لكنّ تلك الألعاب كانت محاصرةً دائماً بثقافة الحدود، وبالضغوط الكبيرة والتّمييز، وتُمارَس على الكرد وسواهم: "كيف يمكن أن تعيش بلا كبت وقلق، عندما تكتم الرقابة أنفاسك، ويُمنع عليك أن تمارس ميولك وأهواءك لتقدّم شيئاً ما؟".

كان الوضع السياسي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي سيئاً قبل الثّورة والحرب: "المسرحيّات والمعارض والأفلام القصيرة التي كنّا نرغب في عرضها، كنا نعرضها سرّاً، فنُشبع ما تتوقُ إليه أرواحنا بتجمّعات ونشاطات داخل البيوت، وفي السّجون".

فتاة في مراسم عزاء في رأس العين - الحسكة

يتذكر آزاد تعامل النظام معهم بقسوة: دهم الأمن السّياسي وأمن الدولة بيت أهله، لاعتقال والده الذي حاولوا اقتياده، بسبب نشاطه في الحزب الديمقراطي الكردي السوري: "كنتُ صغيراً حين دخلوا ليأخذوا والدي وأخي. والدي الذي واجه النظام واعتقل أكثر من مرة، هو معارض سياسي قديم، جاؤوا ليصحطبوه وأخي، خفتُ كثيراً."؛  فما كان من آزاد إلا أن بال على نفسه وبكى من الخوف والارتباك.

ولم يلبث والده أن صار باحثاً في الأعراق والأنساب، بعد مرحلة الانشقاقات في صفوف الحركات الكرديّة.

الإفقار وتسميم الوئام

المنطقة التي تحدّر منها آزاد وعاش فيها طفولته وفتوّته، كانت متنوعةً عرقيّاً ودينيّاً: إيزيديّون، أشوريّون، كرد، مسيحيّون، وعرب. لكنّ أكثر ما يؤلمه في استعادته شريط ذكرياته عن العلاقات الاجتماعية الأليفة التي كانت قائمةً بين هذه الجماعات، هي النعرات التي راح نظام الأسد يبثّها لتسميم علاقاتها الرائعة. فبعدما كانوا يعيشون في وئام، يتصاهرون ويتنقلون بأمان بين مناطقهم، زرع النظام الأمني الخوف بينهم بالتحريض والشقاق العرقي والطائفي.

ليس هذا فحسب؛ فالتهميش الاقتصادي والحصار الأمني هما سياسة النظام الممنهجة والمتعمدة: تُترك الطرق دون تعبيدها بالإسفلت، إلا قليلاً ونادراً وعلى نحو بسيط، وخدمات البنى التحتيّة كلّها سيّئة، ويمكن اختصار الصورة بتسمية حارات الكرد "خرابات".

أهالي رأس العين - الحسكة

ومنطقة رأس العين-الحسكة هي الأغنى بزراعة القمح والقطن. لكن لا مطحنة واحدة للقمح فيها، ولا معمل واحد لتصنيع القطن، لذا يُنقل ما يُنتج من قمح وقطن خام في المنطقة، إلى حلب ودمشق، حيث المطاحن والمعامل.

والسياسات الزراعيّة التي يفرضها النظام يراقبُ تنفيذها رقابةً أمنيةً. والمنطقة غنيّة بالطمي وبالمواد الأولية، لكن لا معامل لتصنيع هذه المواد، وليعمل فيها أبناء المنطقة الذين على الشبان منهم الانتقال إلى جامعات دمشق واللاذقية وحلب والرقة لمتابعة تحصيلهم الجامعي.

مجتمع شبه آمن

بدأت مناطق الكرد ثورتها بطريقة سلمية: "كنّا مجموعات من الشّباب التوّاقين إلى الحريّة والمتأثّرين بموجة الرّبيع العربي الاحتجاجيّة السلميّة في تونس ومصر وليبيا. بطبيعة الحال لم يستجِب النظام. وبعد مرور قرابة السّنة بدأ تدخل الدول لدفع النظام إلى استخدام العنف المفرط، وأدت التّدخلات إلى اندلاع الحرب".

تمثال في رأس العين - الحسكة

بقي آزاد في رأس العين، ولم يغادرها. يردّ ذلك إلى ارتباطه بمكان طفولته وعيشه، على الرغم من استهداف النظام الدائم للمناطق الكرديّة بالقصف، ونزوح الآلاف إلى المحيط داخل سوريا، وإلى خارجها في تركيا، ومنها إلى ألمانيا مهجر الكرد التاريخي المفضّل.

طفلة من رأس العين - الحسكة

بقاؤه سمح له بممارسة دور توثيقي. أنشأ مجموعةً شبابيةً لعرض الفيديوهات المصورة والصور الفوتوغرافية والتقارير عن الاشتباكات. كان دورهم نقل الصور الحيّة للمعارك ومجريات الأحداث.

بعد تحرير المدينة من الكتائب، أنشأ الأهالي مؤسسات عدّة لإعادة شطر من الحياة العامة إلى رأس العين، منها "لغة كردية"، وأخرى ثقافية وفنية، بالإضافة إلى المحكمة، والهيئات الزراعية والأمنية المحلية.

آزاد هو الكاميرا الأخيرة التي بدأت التصوير عفوياً. وبقي مقيماً في مدينته حتى آخر بقعة مساحتها كيلومتران ومحاصرة. وفي ذاكرته دائماً صورة خاله الذي استشهد دفاعاً عن رأس العين وأهلها

مذ كانت جبهة النصرة تسيطر على المدينة، بدأ الأهالي بتأسيس الإدارة المحلية، فوصل عدد مؤسساتها بعد التحرير إلى مئة مؤسسة تعنى بتشييد أبنية عامة وسكن، مطحنة للقمح وصناعة البرغل، أكواب بلاستيكة للقهوة، تزفيت طرق وشوارع، حدائق عامّة وحملات نظافة.

"بانوس فيلم"

بعد استقرار الوضع نسبياً في المدينة، نشأت مؤسسات وهيئات ثقافية وفنية. لاحقاً أُسِّست صناعة السينما. وفكّر آزاد في إنشاء مؤسّسة صغيرة خاصّة به: "بانوس فيلم". ومعنى كلمة بانوس هو إله الحب قبل 1500 سنة قبل الميلاد. والكلمة أيضاً هي اسم للنبع النقي القريب من المدينة.

رجل يحمل بندقية في رأس العين - الحسكة

وبين العام 2017 والعام 2019، عرض آزاد 9 أفلام في "بانوس فيلم"، أُنجزت خلال هذه المدة.

آزاد هو الكاميرا الأخيرة التي بدأت التصوير عفوياً. وبقي مقيماً في مدينته حتى آخر بقعة مساحتها كيلومتران ومحاصرة. وفي ذاكرته دائماً صورة خاله الذي استشهد دفاعاً عن رأس العين وأهلها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard