شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
صُور

صُور "محمود دبدوب" من مخيمات لبنان إلى ألمانيا الشرقية... "كنتُ أحلم بوطن"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمهاجرون العرب

الأحد 16 يوليو 202312:44 م


"كنت أخجل أن أطلب من والدي نصف ليرة لشراء شريط تصوير ضوئي (فيلم) للكاميرا، فالخبز أهم، وهو ما قادني لأعمل في الصيف، لأستطيع تأمين سعر الفيلم وكذلك تخفيف الحمل على والدي"، هكذا بدأت علاقة المصور الفلسطيني اللبناني، محمود دبدوب، بالتصوير والكاميرا، حيث كان يعيره صاحب الاستوديو كاميرا ليصور بها أصدقاءه ومنطقته ويعيدها بعد ذلك.

وُلد دبدوب في 1958 في مخيم اللاجئين في بعلبك، لبنان، لوالدين فلسطينيين بعد عشر سنوات من التهجير القسري وكانت خلال وقت التهجير والدته حبلى، فقطعت الجبال والوديان لتصل إلى المخيم في بعلبك، وعملت لتدعم الأسرة، إلى جانب والده الذي عمل وكبرت العائلة المكونة من 10 أشخاص في مقلع للحجارة.

المصور محمود دبدوب، معرض ضمن مهرجان "البحر بيضحك ليه"، برلين، تصوير نزيهة سعيد

أحلم بوطن

لا يخلو حديث دبدوب عن الحنين لفلسطين، الوطن الذي يعيش فيه أو يوفر له وطناً: "أنا من بلد الزيتون وبلد الشعر، فعائلتي تنحدر من قرية البروة، قضاء عكا، وهي قرية الشاعر محمود درويش الذي أشترك معه في الحروف الأولى من اسمينا م.د. وأنا افتخر بهذا القرب".

"كنت أرسم في طفولتي الموضوعات التي لا علاقة لها بحياتي وبالمخيم، فقد رسمت البيوت الجميلة ذات القرميد الأحمر، وكنت أتساءل لماذا نحن نعيش في هذا المكان المزري، إلى أن اكتشفت لاحقاً أنني كنت أحلم بوطن". المصور محمود دبدوب

ويقول: "كنت أرسم في طفولتي الموضوعات التي لا علاقة لها بحياتي وبالمخيم، فقد كنت أرسم البيوت الجميلة ذات القرميد الأحمر، والجسور الحجرية والمياه التي تمر من تحتها والأزهار على الجانبين، هرباً من الواقع المرير، كنت أحلم بمكان أفضل، وكنت أتساءل لماذا نحن نعيش في هذا المكان المزري، إلى أن اكتشفت في وقت لاحق إنني كنت أحلم بوطن. لم أتعرف على الوطن وفلسطين إلا متأخراً، كان عمري 13، كنا محاطين/ات بسياسة لطمس تاريخنا وتغريبنا، وإغفال ما فعله الاحتلال، وأن هناك شعباً ومقاومة".

استعارة الكاميرا

كان المعلمون في مدرسة محمود معجبين برسمه، فيطلبون منه رسم خارطة العالم للشرح للطلاب، ورسم أجهزة الجسم لدرس العلوم، إلا أن الكاميرا بدأت بجذبه، فأصبح صاحب الاستوديو يعيره كاميرا، ليصور بها ويرجعها.

"عندما أصبحت في عمر الـ15 بدأت العمل في الصيف، ، في مقهى أو مطعم، لكي أوفر مصاريفي على عائلتي وأيضاً لأنني أخجل من طلب نصف ليرة لشراء فيلم، فالخبز أهم، فعلى والدي الكثير من الأعباء". يقول دبدوب لرصيف22.

"لم أكن أدرك أنني بما أقوم به، أوثق حياة الناس وحياة المخيم". المصور محمود دبدوب.

أصبح دبدوب يوفر سعر الفيلم من عمله، يشتري الفيلم ويستعير الكاميرا ويصور أصدقاءه والمخيم ثم يعيد الكاميرا لصاحب الاستوديو، وهذا يتكرر مرة أو مرتين في الشهر، يعترف دبدوب: "بدأ الأمر بشكل بطيء ومتقطع، وكان شيئاً جميلاً وجديداً بالنسبة لي، لم أكن أعي أنني بما أقوم به، أوثق حياة الناس وحياة المخيم، توطدت علاقتي بالتصوير عندما عملت في جمعية ثقافية فلسطينية في بيروت التي يديرها الفنان التشكيلي الفلسطيني اسماعيل شموط، عندها صورت المخيم بشكل مقصود، وبدأت قضيتي تظهر في الصور، فصورت الكثير من الأطفال والكبار سناً، ذلك كله قبل أن أحصل على بعثة للانضمام لكلية الفنون في مدينة لايبزيغ ضمن ألمانيا الشرقية في ذلك الوقت".

المصور محمود دبدوب، معرض ضمن مهرجان "البحر بيضحك ليه"، برلين، تصوير نزيهة سعيد

الغربة مرة أخرى

يسرد دبدوب قصة بعثته الدراسية واستقبال المدينة له: "في عمر الـ23 بدأت التصوير بشكل رسمي واحترافي عندما بدأت دراستي في ألمانيا، فقد بدأت القصة بأن الفنانين الذين كنت أعمل معهم في الجمعية أعجبوا بصوري، وشجعوني كي أقوم بالتقديم على منح للدراسة في بولندا، ولكن يبدو أن أوراقي التي أرسلتها قد ضاعت، فأرسلت أوراقي مرة أخرى عندما كانت هناك بعثات إلى ألمانيا، فكان قدري أن أنتقل للعيش والدراسة في مدينة لايبزيغ في سبتمبر/ أيلول 1981 التي تحولت منذ ذلك الوقت بيتاً ووطناً لي".

وعن الانتقال من العيش في مخيم إلى العيش في ألمانيا الشرقية، قال: "المخيم له نكهة خاصة، فقد كنت أحس بالدفء فيه فور عودتي من عملي في بيروت، فهناك أبناء جلدتي الذين أشاركهم الإحساس ذاته، أسهر مع الشباب وموسيقى أم كلثوم ونشرب الشاي ونحلم، أعرف الكل هناك، كنت أصور وأنا مرتاح، أما في ألمانيا فليس هناك حرب، لايبزيغ كانت قاتمة بسبب كثافة إنتاج الفحم الحجري فيها، ولكن الحياة مستقرة وآمنة، كنت أخرج في وقت متأخر ليلاً من نادي الطلبة للبيت، دون

الإحساس بالخوف، فلا أتوقع أن تسقط قذيفة أو يحدث انفجار مفاجئ، كانت الكاميرا دائماً معي، وكنت أتنقل بين مطعم الطلبة، والمقهى الذي كان الملتقى اليومي للشباب العرب (كورزو)، وأصور كل ما حولي هناك".

"للمخيم نكهة خاصة، فقد كنت أحس بالدفء فيه فور عودتي من عملي في بيروت، فهناك رفاقي الذين أسهر معهم ومع موسيقى أم كلثوم ونشرب الشاي ونحلم". المصور محمود دبدوب

دخل دبدوب أكاديمية لايبزيغ للفنون البصرية، التي كانت تستقبل ستة طلبة فقط سنوياً، وتخرج منها بدرجة الماجستير في التصوير الفوتوغرافي العام 1987. يقول: "أعطتني تجربة العيش في ألمانيا الكثير، بنيت أسس حياتي القوية فيها، وكنت طالباً نشيطاً، ففي لبنان كنت محروماً من كل ذلك، والحصول على فيلم 36 صورة كان مهمة صعبة، أما في ألمانيا فقد فتحت أمامي الأبواب، وعوضت ما فاتني، وكان علي مواكبة زملائي الألمان الذين توفرت لديهم الإمكانيات والفرص منذ صغرهم، فقد كنت أقضي 6 ساعات في المختبر، أحمض الأفلام، وأعمل على الصور، ولا زالت أقر أن صور المخيمات كانت المدخل للمقعد الدراسي بالنسبة إلي".

كان دبدوب يعيش في ألمانيا الشرقية آنذاك، يحكي عن تجربته: "تقسمت ألمانيا من قبل قوى عظمى أجنبية، كما البلدان الأخرى التي تعرضت للتقسيم حسب المصالح، كنت متعاطفاً مع الناس الذين تمت تفرقتهم بجدار عازل، ورغم ذلك كنت أحسدهم، فهم يعيشون في وطنهم، ولا يعلمون شعور أن تكون مهجراً من بلدك، فنحن الفلسطينيين/ات تاريخنا أليم، ورغم أن ألمانيا كانت مقسمة إلا أن الشرقيين/ات كان لديهم/ن المجال للسفر إلى البلدان القريبة الشرقية كالتشيك، بلغاريا، روسيا، وهو ما يختلف عني كشخص عاش كل حياته في المخيم ولم أصِل إلا إلى لبنان".

عايش دبدوب أيضاً سقوط جدار برلين، وكان بالصدفة ليس بعيداً عن المكان، ولديه ثلاثة أفلام، استخدمها جميعا لتوثيق اللحظة وأسمى الليلة بـ"ليلة الحرية".

صور للمصور محمود دبدوب،  معرض ضمن مهرجان "البحر بيضحك ليه"، برلين تصوير نزيهة سعيد

رسالة التصوير

"التصوير اليوم هو رسالة، أحملها لأوضح للغرب والأوروبيين قضيتي، فصوري تختلف عن صور مصورين/ات

عايش المصور محمود دبدوب سقوط جدار برلين، وكان بالصدفة قريباً من المكان، وبحوزته ثلاثة أفلام تصوير، استخدمها جميعاً لتوثيق اللحظة وأسمى الليلة بـ"ليلة الحرية". 

محترفين/ات أوروبيين/ات، يأتون لبلداننا ليصوروا حياتنا، أنا أشعر بشعبي بطريقة مختلفة، صوري فيها إحساس أريد أن أترجمه، فجدي حملني أمانة حب الوطن والإخلاص له، وأن تكون رسالتي صادقة" يقول محمد دبدوب، ويضيف: "أنا مقتنع جداً إنني لم أكن محترفاً خلال سنوات الدراسة، ولكنني كنت أصور عبر إحساسي وضميري وقلبي، تقنياً لم تكن جميع صوري جيدة، ولكن كان فيها إحساس وإنسانية، فغالبية المعارض التي أقمتها هي لصور صورتها في المخيمات، عن حياة المخيمات وكانت تلقى تعاطفاً وتفاعلاً كبيرين من الزوار والزائرات".

ومن حياة المخيمات، انتقل دبدوب لتصوير الحياة في ألمانيا الشرقية والتي تمكن من عرضها في ألمانيا الغربية ففوجئ بالصدمة ذاتها، فهم لا يعرفون شيئاً عن الحياة على الطرف الآخر من الجدار، وقد ساهم في تصوير فترة مهمة من التاريخ الألماني

والتحول الذي حدث بعدها في التسعينات.

زار دبدوب فلسطين لأول مرة في العام 2009، يقول عن ذلك: "كان شعوراً غير معقول، هذه الزيارة كانت بالنسبة لي ولادة جديدة".

ويعود دبدوب بالذاكرة للطفولة: "عندما كنا أطفالاً، ونجد صورة في الصحيفة ليافا أو لعكا، كنا نقطعها ونحافظ عليها، فهي صورة من الوطن، أما البطاقات البريدية من هناك فكانت حلماً جميلاً، لذلك كنت أعرف قيمة أن تنقل صورة مكان للآخرين، وعندما كنت في فلسطين التقطت الكثير من الصور، خاصة للمناطق التي هجر منها الفلسطينيون/ات، فالصورة تلعب دوراً كبيراً ضمن المخيلة والذاكرة".

ويرى دبدوب أن الصورة جزء مهم أيضاً من التاريخ: "المصورون/ات الغربيون يركزون على تصوير الفقراء والشحاتين في بلداننا، المناطق الفقيرة، الحمير والجمال، وهذا لا يعكس كل الواقع، فهناك طبقات وسطى وأخرى أرستقراطية وعملي هو تغذية الذاكرة بالصور التي تعكس الواقع بكافة أشكاله".

المشاريع المقبلة

ينشط دبدوب بالمشاركة في المعارض وإقامة مشاريعه الخاصة، ويخطط حديثاً لمشروع تسوير مدينته "لايبزيغ" بالتصوير الفوتوغرافي اليدوي "الأنالوج" لمدة 24 ساعة: "أقطن في هذه المدينة منذ أكثر من 40 عاماً، عايشتها في الأيام والسنوات الأولى بالأنالوج، وأحببت أن أقوم بذلك مرة أخرى بعد 40 عاماً، أصبحت اليوم لايبزيغ أحلى وأنظف، وأردت أن أعطيها حقها".

عرض دبدوب بعض صوره من مخيمات لبنان ومن ألمانيا التي تضمنت عمالاً وعاملات، في معرض ضمن مهرجان "البحر بيضحك ليه" الذي تنظمه مساحة آرت لاب برلين الثقافية والفنية.

دبدوب حائز على جائزة مدينة لايبزيغ ودار نشر سيمان فيرلا 1984، الميدالية الفضية لجمعية الصحفيين الدوليين بموسكو 1985، جائزة خاصة لمجلة أوغونيو1985، الميدالية البرونزية لجمعية الصحفيين الدوليين بغداد 1987. ودبلوم فخري من بيونج جانج 1989.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard