شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"جمال العراق الضائع"... آه من تلك الأوديسة الفوتوغرافية الناقصة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 9 مايو 202302:13 م

تبدو الترجمة السويدية للفيلم الوثائقي "العراق، الجَمال الخفيّ" (54 دقيقةً)، عن المصور الفوتوغرافي العراقي الراحل لطيف العاني، أكثر دقةً من مثيلتها الإنكليزية، ففي ظننا أن "جمال العراق الضائع" أقرب إلى تمثّل المحتوى من "جمال العراق الخفي"، فأمامنا ما يشي بتدفق غير متقطع في الزمن، وبأن هناك ما يستوجب جلاءه عبر العدسة الذكية والمرهفة للمخرجَين الكردي العراقي سهيم عمر خليفة، والبلجيكي يورغن بيودتز.

يدور الحديث هنا عن ذاكرة العاني البصرية، وهو حديث متدفق بالرغم من أن المصوّر، مادة هذا الحديث، قد توقف عن التصوير بعد أوامر صدام حسين مطلع ثمانينيات القرن الماضي بحظر التصوير في الأماكن العامة، كما هو حال كل ديكتاتور في كل زمان ومكان يحاول أن ينسب ذاكرة المكان الذي "يغتصبه" إلى نفسه، بصنع ذاكرة جديدة له عن طريق محو كل ما تقدّم من أسماء للأمكنة السابقة عليه، وإضفاء أسماء جديدة عليها، حتى لو تطلَّب الأمر منه محو كل ذاكرة مكانية وشفهية لا تنتمي إليه.

الذي بقي من أرشيف لطيف العاني، يحمل في طيَّاته نذر الخلود للأمكنة التي مرَّ عليها بعدسته، لكن الأمكنة لم تعد هي ذاتها، وإن لم تطَلها الحرب أو يد الديكتاتور، فإن ديكتاتورية الزمن نفسها أمكنها أن تغيّر الكثير

وهنا تكمن المأساة الأولى للمصور الكبير لطيف العاني، التي ساهمت في تضييع الكثير مما كان يعد الحضارة الإنسانية به، فالعراق أرض الحضارات، وهو مهد محفوف بالمخاطر، ولا ينقاد بسهولة للشعر الفوتوغرافي الذي امتازت به صور العاني، أو لا يسلّم نفسه لها بسهولة، ولم تكن لتكفيه آلاف العدسات من أجل حصره في مجلدات النسخ السالبة التي ميزت عصر العاني عن العصر الرقمي. فيما تكمن المأساة الثانية في الحرب الأميركية على العراق في 2003، والتي تسببت في خراب ودمار مكينين، وضياع نحو ربع مليون نيغاتيف من الإرث المصوّر عن هذا البلد العظيم إلى الأبد.

ما يفعله المخرجان في فيلمهما، هو إعادة لطيف العاني نفسه إلى مجرى النهر الفوتوغرافي الذي تدفقت منه صوره منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى توقف كاميراه عن تلك التكَّة العميقة التي تترافق مع التقاط كل صورة، وليس ظهور سهيم عمر خليفة، مع المصور، كمرافق ومحاور متنقل معه في سيارة "بونتياك" قديمة، من النوع المفضل للعاني نفسه على ما يبدو، من أجل القيام بجولات ميدانية من شمال العراق إلى جنوبه، وقيامه بغسلها في محاولة منه لنفض الغبار عنها، سوى محاولة ذكية إخراجية للبدء بالنبش في ذاكرة حملت الكثير من الجمال العراقي الذي فُقد إلى الأبد مرّتَين في حالة لطيف العاني: مرةً بتغيّر الأمكنة تلقائياً، وبعضها من دون مسوّغات، بحكم الهجمة الحضرية غير الشفوقة عليها، ومرةً بالحروب المتتالية التي عرفها العراق في عصره الحديث، وعصفت بمدنه وقراه وإستراتيجيات تواجده على الخريطة الكونية.

الذي بقي من أرشيف لطيف العاني، يحمل في طيَّاته نذر الخلود للأمكنة التي مرَّ عليها بعدسته، لكن الأمكنة لم تعد هي ذاتها، وإن لم تطَلها الحرب أو يد الديكتاتور، فإن ديكتاتورية الزمن نفسها أمكنها أن تغيّر الكثير، وتسبب الشقاء والحرمان لذاكرات مقبلة، وهي تتسبب باليأس لها ولأصحابها، وكأن مآل الصورة الفوتوغرافية يتمثل في إفساد تلك البرهات التاريخية التي عبرت كالطيوف من أمام عدسة العاني الرهيفة، وهي طيوف شاهدة على نهضة العراق قبل أن تتحول إلى نقمة، إذ لا يفوت العاني أن يذكّرنا بأنه كان من الأفضل للعراق ألا يكون فيه نفط، ربما كان استحال تدميره حينها على أي حال، لأن الشعب نفسه سوف يبحث عن مآلات أخرى للتطور والازدهار، ولم يكن ليعرف كل هذه الحروب التي مرت من فوق رأسه.

بدأ لطيف العاني، المولود في كربلاء سنة 1932، بالتصوير الفوتوغرافي في سن مبكرة جداً حين اشترى له شقيقه كاميرا بدينار ونصف.

وقد وجد الفتى نفسه يعمل في إستوديو نيسان للتصوير في شارع الرشيد في بغداد، ومنذ تلك اللحظة لم ينقطع شغفه بصور الأسود والأبيض، وظل "ممالئاً" لها حتى اللحظات الأخيرة من حياته الفوتوغرافية -قبل أن يتوقف مرغماً- وبدت كما لو أنها في أمكنة كثيرة تتمرد عليه، وتصنع ألوانها الخاصة من شاعرية متوحشة نصَّب العاني عدسته عليها "مليكةً" لا تُصد، وهي تفك الحجب والقطبات المخفية في هذا الجمال الذي لا يتكرر في الأهوار وسواها من الأمكنة التي عبرت من أمام المغلاق الذكي والمرهف للعاني، وقد استنطقها بتخييل أبدي وسيبقى بعضها محفوظاً في العلب والذاكرة الإنسانية طالما بقي هناك نيغاتيف -لا نعرف إلى متى يمكن أن يصمد ويستمر في صنع ذاكرة متجددة للأجيال القادمة- وإن بدا أنه يمكن تخزينه بطرق أفضل وأكثر نجاعةً مع تطور التكنولوجيا الرقمية، وإعادة ترميمه وحفظه للزمن القادم، حتى لا يضيع ما بقي من شواهد على وجود العراق نفسه،وهو لا يبدو، أي العراق، أنه في طريقه للعودة قريباً من مآلات القبح، والشناعة، والطائفية، والاحتراب القاتل بين مكونات الهوية العراقية نفسها.

وكل ذلك يتم على مرأى الجميع، وبقوة تدميرية تفوق ما حدث ربما في الحربين الأولى والثانية اللتين انتهتا بدمار بلدان كثيرة، لكنهما لم تحشراها في مثل هذه الغيبوبة التي حُشر فيها العراق حشراً.


الجولات الميدانية التي ميّزت براعة هذا الفيلم الوثائقي في التقاط شغف العاني، بما بقي من عوالمه الضائعة، صنعت خطاً درامياً تصاعدياً غطّى على فداحة الخسران بقصص أناس، من مختلف الطوائف، عبروا ذات يوم من أمام المغلاق الشاعري للمصوّر الكبير الذي لم يصمت بشكل نهائي، فما زال لطيف العاني يصوّر فيوض الزمن بهاتفه النقال، ويرفض أن تكون صورته الأخيرة، لأن الجمال العراقي ما زال موجوداً، ويمكن اكتشافه، لكن الحروب الصغيرة التي أنهكت العراق من بعد تفتيته، ما زالت تغير من إمكانات ضبط الوضوح البؤري على الصورة الصحيحة المشتهاة.

الحق أن لطيف العاني لم يكن بحاجة إلى مثل هذا الاعتراف حتى يصبح عالمياً، فالعالمية هنا لا تعدو كونها إهانةً له ولأمثاله، وهو لا شك أكبر منها، وأكبر من قياساتها "الحداثوية" المختَّلة

في الزيارة الأخيرة لأهوار العمارة، التي سبق له أن صوّرها بمئات الصور -ضاع معظمها- يلتقط بالكاميرا القديمة التي كانت رفيقةً له في أسفاره العراقية، وفي أوذيسته الفوتوغرافية، بعض الصور الجديدة لمجموعة من الأطفال هناك. مجموعة لم يحظَ بها أنطوني كوين نفسه، كما يردد، ولا يفوته أن يرد على سائله عما إذا كان يجيد التصوير بقوله إنه لا يعرف كيف يضغط على زر التصوير.


هل كان العاني بإجابته يودّع عوالمه للمرة الأخيرة، قبل أن يحظى بالاعتراف العالمي الموعود بالترشح لجائزة لوسيه الأميركيه، وبافتتاح معرضه الفوتوغرافي في باريس "أم التصوير الفوتوغرافي"، وهو الاعتراف الذي كان ينتظره بفارغ الصبر بعد صمت في غياهب النسيان لأكثر من ثلاثة عقود؟ بدا أن كل شيء كان مؤجلاً في انتظار رحيله النهائي عن عالمنا في 2021، بعد تشخيص إصابته بسرطان نخاع العظام.

الحق أن لطيف العاني لم يكن بحاجة إلى مثل هذا الاعتراف حتى يصبح عالمياً، فالعالمية هنا لا تعدو كونها إهانةً له ولأمثاله، وهو لا شك أكبر منها، وأكبر من قياساتها "الحداثوية" المختَّلة. كان التعب قد نال منه، ونال من روحه على أي حال حين قال إنه يقبل بمجرد الترشح لها، تلك التي لا تُسمَّى: خدعة العالمية!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image