برغم مرور مئات السنوات على رحيله، تظلُ النظرة المصرية الشعبية للإمام الشافعي تعتبره أكثر من فقيه بارع، وهو ما يتّضح في ظاهرة لا تزال مستمرة حتى اليوم وهي إرسال برقيات شكوى إلى قبره.
في كتابه "رسائل إلى الإمام الشافعي"، وثّق الباحث سيد عويس تحليله لـ163 رسالة أخذها من ضريح الإمام توضّح بجلاء طبيعة العلاقة الفريدة التي جمعت بينه وبين أهل مصر.
نساء يشتكين من أزواجهن، آخر يطالب باستعادة ديك رومي ضائع، وثالث يدعوه للتدخل والقضاء على إسرائيل، التي استعصت جيوش العرب مجتمعة على المساس بها، وغيرها من الشكاوى الحياتية التي تُظهر لجوء المصريين إليه باعتباره "سند" و"ضهر" لهم في مواجهة مصاعب الحياة التي لا تنتهي.
وبحسب كتاب عويس، فكان لافتاً أن بعض الشكاوى لم يهتمُّ أصحابها بكتابة تفاصيل مشاكلهم ولا حتى أسماءهم بدعوى أن الإمام -كما يعتقدون- يعرف مَن هم وما يريدون، لذا فهم لا يحتاجون إلى الكلام الكثير مكتفين بتوقيع ذي دلالة شديدة التكثيف وهو "العارف لا يُعرّف".
"نكبة مصغرة" في عهد الرشيد
تمتّع الفقيه محمد بن إدريس الشافعي بعلاقةٍ طيبة مع الخليفة العباسي هارون الرشيد، بالرغم من أنه تعرّض في عهده إلى "نكبة قصيرة" خلال إقامته في اليمن، بعدما أوشَى به الوالي عند هارون بدعوى أنه يروّج للعلويين الأعداء الألدّاء للعباسيين في ذلك الوقت.
كان الشافعي الرجل الذي تنتظره مصر في تلك الفترة، فما أن افتتح حلَقَته وأظهر مواهبه الفقهية حتى تكالَب الناس من حوله، اتّسع درسه حتى غصَّ المسجد بمن حوله. هنا، جاء أوان طرح بذور المذهب الجديد
تحكي الروايات أن الشافعي "اقتيد" إلى بغداد، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام احتمالات تعرُّضه للتقييد والتنكيل خلال طريقه، وربما سُجن لبعض الوقت قبل عرضه على الرشيد، ازداد الوضع سوءاً حينما أمر هارون بإعدام كل مَن صاحبوا الشافعي في "وفد المعارضة" المُتّهم بالخيانة.
هذا التصاعد المأساوي لم يستمر طويلاً حينما أتى دوره؛ فبعد محاكمة سريعة في بلاط الخليفة نجَى الشافعي من الموت بفضل بلاغته وإقناعه الرشيد أن العلويين يحتقرون الشافعي وقومه الطالبيين (من بني طالب)، وبفضل دعم محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ مالك وفقيه العراق الأول وقتها.
ما قبل مصر
بأعجوبة نجتْ رقبة الشافعي من الذبح، بعدها عاش متنقلاً بين العراق والحجاز مستغلاً تلك الفرصة أفضل استغلال في حصد كمٍّ من العلم الشرعي بشكل لم يفعله أحد قبله حتى جمع في رأسه العبقري فقه العراق والحجاز ومزج بينهما لأول مرة في تاريخ الإسلام.
ما بين العراق والحجاز، ناظَر وحاضَر ودرّس وألّف الكتب ونال شعبية كبيرة، لكنّه حتى اللحظة لم يكن صاحب مذهبٍ مستقل وإنما صنّفه الناس -وهو معهم- واحدٌ من أقطاب مذهب الإمام مالك.
حُكم على هذا الوضع الهادئ بعدم الاستمرار، بعدما مات هارون الرشيد عام 193هـ بعدما خلّف وراءه قراراً قاسماً وزّع فيه الحُكم بين ولديه الأمين والمأمون. سريعاً دبَّ الشقاق بين الأخوين، في حقيقته كان خلافاً مستتراً بين العرب (مؤيدي الأمين) والفرس (مؤيدي المأمون) أشعل حرباً ضارية بين الجماعتين انتهت بمقتل الأمين وانتصار المأمون وتنصيبه خليفة في بغداد 198هـ.
فور تقلده الحكم، كان على الأمين أن يدفع "فواتير الحرب"، فسمح للفرس بالاستيلاء على مفاصل الدولة وباتت لهم الكلمة العُليا في كل شيء، وهو أول أمر لم يرق للإمام الشافعي ذي الأصل القرشي. خاصة أن هذا القرار تزامن مع فتْح الباب أمام المعتزلة وأهل الكلام لنشر آرائهم التي كان يعارضها الشافعي بضراوة.
بعد عام واحد من حُكم المأمون، باتت بغداد مدينة ذات نكهة فارسية تصطرع فيها الآراء والأفكار التي تناقضت مع نية الشافعي الوشيكة في إرساء دعائم مذهبه الجديد، لذا اعتبر أن الساحة العراقية لم تعد صالحة له، فأعلن رغبته في الرحيل عنها.
إلى مصر
منذ وفاة الإمام الليث بن سعد عام 175هـ لم تُنبت أرض مصر فقيهاً بارزاً في أرضها التي امتلك فيها المذهب المالكي أغلبية ساحقة.
وهو ما جعل الساحة فارغة تماماً أمام ابن إدريس حينما قَبِلَ دعوة العباس بن موسى العباسي، الذي نصّبه المأمون والياً على مصر، صحبه إلى أرض وسار في ركابه حتى استقرّ في رحابها. مكّن الوالي الجديد الشافعي من العمل سريعاً بعدما سمح له بالتدريس في مسجدها الأكبر بالفسطاط.
برغم مرور مئات السنوات على رحيله، تظلُّ النظرة المصرية الشعبية للإمام الشافعي تعتبره أكثر من فقيه بارع.
تلقّى ابن إدريس دعماً سريعاً من إخواله من قبيلة الأزد الذين سبقوه للإقامة في مصر، وأيضاً من صديقه السابق في حلقة الإمام مالك بالمدينة المنورة، الفقيه عبدالله بن الحكم الذي نزل الإمام في ضيافته.
كان الشافعي الرجل الذي تنتظره مصر في تلك الفترة، فما أن افتتح حلَقَته وأظهر مواهبه الفقهية حتى تكالَب الناس من حوله، اتّسع درسه حتى غصَّ المسجد بمن حوله. هنا، جاء أوان طرح بذور المذهب الجديد بجانب إعمال النقد في أفكار الفقهاء القدامى وعلى رأسهم أستاذه الإمام مالك.
"خلاف مالك"، كتابٌ وضعه محمد بن إدريس بعدما بلغه أن الأندلسيين يقدّسون ذكرى أستاذه. بعد تردد عامٍ كامل، قرر وضع كتابٍ ينتقد فيه بعض مسائل أستاذه ليُبين للجميع أنه ليس فوق النقد أو الخطأ.
من هنا ظهرت معالم ما سيسمى لاحقاً بـ"الفقه الجديد" للشافعي، والذي سيتحوّل لاحقاً إلى مذهبٍ متكامل الأركان في عصور لاحقة.
أبرز حضور حَلَقة الشافعي كان محمد بن عبدالله بن الحكم، فقيه المالكية الأول في مصر، وهو ما دفع الشيوخ المالكية إلى الشكوى لأبيه أن يعتبروا هذا الحضور دعمه تحوّل ابنه عن المذهب المالكي.
حُسم الأمر حينما تلقى الشافعي دعماً وترحيباً من الشريفة نفيسة حفيدة زيد بن الحسن بن علي، التي هاجرت إلى الفسطاط عام 193هـ. حجز ابن إدريس مكانة أبدية في مصر لم يستطع المالكية منع تكوّنها رغم محاولتهم الصبيانية للشوشرة على دروس الشافعي وتعقب تلاميذه إلى حد تمنّي موته.
رغم شعبيته الجارفة، فإن الرجل حين مات في مصر 204هـ متأثراً بداء البواسير ظلَّ المذهب المالكي هو الأكثر شيوعاً بين المصريين رغم التصاعد المتنامي والمقلق –عند المالكية- لآراء الشافعي في أرض الكنانة.
عقب رحيله ظهرت نقطة الفصل التي حمت آراءه ومذهبه من الضياع، وهم تلاميذه: يوسف بن يحي البويطي، الذي تقلّد رياسة الجماعة الشافعية من بعده قيل عنه إنه تخرجت على يده أئمة تفرقوا في البلاد، ونشروا علم الشافعي في الآفاق"، ومن بعده تقلّد الأمر الفقيه النشيط إسماعيل المزني الذي اشتهر بكثرة الترحال وبث الدعاية الشافعية هنا وهناك.
هنا يُمكن أن نقارن حظ الشافعي بمثل هؤلاء التلاميذ مقارنة بالليث الذي كان "أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به" على حدّ وصف الشافعي، وربما لو رُزق الليث تلاميذ مثل البويطي والمزني لكانت مصر تعتنق المذهب "الليثي" حتى اليوم.
على أيدي هؤلاء التلاميذ وغيرهم، زاد التدفق والحيوية في شرايين الفِكر الشافعي، وجرتْ بلورتها في معالم أكثر تحديداً حفظت بنيانه الفقهي متماسكاً حتى أتتْ اللحظة التاريخية التي يُمكننا اعتبارها فاصلة في خلود المذهب الشافعي بيننا حتى اليوم.
مدارس السلاجقة
في 447هـ دخل طغرل القائد السلجوقي الشهير بغداد ليُنهي قرابة قرن ونصف من سيطرة البويهيين عليها، وليمنح بغداد العباسية قُبلة الحياة في البقاء أمام الخلافة الفاطمية متعاظمة القوة في مصر والشام والمغرب.
خلال مساعيه للتصدي للمد الشيعي بالغ التأثير في المنطقة، أمر الوزير السلوجي نظام الملك بإنشاء عدة مدارس دينية نظامية لتدريس الفقه الشيعي وأنفق عليها أموالاً تكفي لإعداد جيوش في حملات كُبرى.
تجاهل نظام الملك المذهب الحنفي، وهو المذهب الرسمي للدولة العباسية، واختار مذهبه الشخصي -الشافعية- ليكون رأس حربة القتال الناعم الذي قرّر أن يخوضه مع الفاطميين في ميادين الحرب الدينية.
هنا سيكون لزاماً علينا أن نوضّح أن نظاماً لم يختر الشافعية عبثاً بل اعتبره -عن اقتناع كامل- الأقدر على خوض هذه الحرب والانتصار فيها بدلاً من باقي المذاهب، فلماذا؟
تباينت آراء المؤرخين حول أسباب هذا القرار؛ منها أن المذهب الشافعي يمتاز بالتنظيم والتماسك وقوة التنظير، وأنه المذهب الفقهي الوحيد الذي وُضع على يديْ صاحبه ما يجعله الأقدر على منافحة المذهب الفاطمي.
أيضاً، اعتبر نظام الملك أن "الشافعية" يُمكنها أن تكوّن ثنائية مميزة مع "الأشعرية" لتكون بديلاً عن ثنائية "الحنفية- المعتزلة"، التي سادت العراق طويلاً خلال مرحلة ما قبل السلاجقة وفشلت في تحقيق أي انتصار أمام دعاة الشيعة.
هذه المرحلة القديمة كان الوزير ناقماً عليها كثيراً واعتبر أن منصبه يتطلّب منه إصلاح ما أفسده الوزراء الآخرين.
أيضاً فإن جنوح المذهب الحنبلي إلى التشدد في بعض آرائه جعل استبعاده حتمياً من هذه المعركة.
من حُسن حظ الشافعي أن السياسة لم تجرِ على مذهبه، فعقب رحيل صلاح الدين وبرغم اقتتال أبنائه على الحُكم من بعده إلا أنهم حافظوا على تصدير فقه الشافعي
أخيراً، فلقد استعان نظام الملك في بناء هذه المنظومة الفقهية بواحدٍ من أبرز العلماء الشافعية على مدار العصور، هو أبو حامد الغزالي، والذي قد يُمكننا اعتباره صاحب فضل على المذهب الشافعي أكثر من الشافعي نفسه!
صلاح الدين الأيوبي
ذات السيناريو تكرّر بالكربون حينما تمكّن صلاح الدين الأيوبي من حُكم مصر 567هـ، فعقب إزاحته الفاطميين وإعادة مصر للحظيرة السُنية اعتبر أن أخطر ما تبقّى على دولته هو ذيول الأفكار الشيعية في البنية الدينية المصرية.
استعان صلاح الدين بـ"خلطة نظام المُلك"، فقرّر النفخ في الفكر الشافعي بمصر، جدّد الضريح المتواضع لمحمد بن إدريس وأقام عليه قبة عظيمة، ثم أنشأ مدرسة كبيرة لنشر فقهه وتدريسه بين رجال الدين، أوقف عليها الأموال الكثيرة.
من حُسن حظ الشافعي أن مواكب السياسة لم تجرِ على مذهبه، فعقب رحيل صلاح الدين وبرغم اقتتال أبنائه على الحُكم من بعده إلا أنهم حافظوا على تصدير فقه الشافعي ورجاله كواجهة دينية رئيسية لدولتهم، وحتى بعدما قضى المماليك على حُكم أحفاد صلاح الدين، أبقتْ دولتهم الفقه الشافعي دعامة أساسية لحُكمهم.
وعندما أتى العثمانيون الأحناف إلى مصر 1517م. كان المذهب الشافعي قد ترسّخ في التربة الشعبية بشكلٍ بات اقتلاعه منها مستحيلاً، فمحمد بن إدريس لم يعد مجرد رجل دين بل أصبح بطلاً شعبياً مثله مثل الظاهر بيبرس أو أبي زيد الهلالي، وهو تفخيم غير رسمي لم ينله صاحب مذهب قط، ولم يعد بحاجة إلى ظهير سُلطاني يدعم وجوده الذي امتزج بطين مصر حتى اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون