نجيب محفوظ منح القراء والنقاد حق تأويل النصوص، وقراءة العمل الأدبي، بعيداً عن أيديولوجيا المؤلف، وآرائه المعلنة حتى في العمل نفسه. قاعدة محفوظية تُحتذى، وقلما احتملها آخرون؛ لحساسيتهم المفرطة نحو أعمالهم.
كما أرسى محفوظ قاعدة أخرى، في دائرة أكثر اتساعاً، إذ يمثل النص الأدبي عنصراً في صناعة ضخمة هي السينما، أو الدراما في العموم. ومبكراً أكد مسؤوليته عن النص وحده، وكما صار ملكاً للقارئ، فللسينمائي أن يجتهد، ولو بالتشويه، ما دام يأمن اعتراض الكاتب. مثلٌ محفوظي يجب ألا يُحتذى. وما كان لمحفوظ أن يُطمع السينمائيين في النصوص الأدبية، ويجرّئهم على العشم، ما لم يتسلحوا بوعي علي بدرخان وحساسية محسن زايد.
قررتُ أن يكون 2022 عام محفوظ، بقراءة جديدة تصاعدية لأعماله، كما تلقاها القارئ منذ البداية. المنجز الإبداعي المحفوظي، 55 عملاً، متاح في عشرة مجلدات كبيرة القطع أصدرتها دار الشروق نهاية 2021، وتضاف إليها ترجمة محفوظ لكتاب "مصر القديمة" لجيمس بيكي. يستغرق المجلد شهراً.
نجيب محفوظ منح القراء والنقاد حق تأويل النصوص، وقراءة العمل الأدبي، بعيداً عن أيديولوجيا المؤلف، وآرائه المعلنة حتى في العمل نفسه. قاعدة محفوظية تُحتذى، وقلما احتملها آخرون؛ لحساسيتهم المفرطة نحو أعمالهم
ترتيب الأعمال، حسب التواريخ الأولى لنشرها، يضع القارئ والباحث أمام التطور الفني للكاتب، بدءاً بإيمانه بإعادة كتابة تاريخ مصر القديمة روائياً (عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة)، مروراً بنزعة الوعظ الأخلاقي في "زقاق المدق"، وصولاً إلى النضج الواثق في ثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) التي تحتل مجلداً. هو الأكبر حجماً (976 صفحة)، والأكثر تجانساً عضوياً. ونجحت التجربة.
اقترنت القراءة بمشاهدة الفيلم أو الأفلام التي اعتمدت النص مصدراً. صلاح أبو سيف لمح في محفوظ كاتباً سينمائياً مجيداً، لكن انتباه السينما إلى أدبه تأخر أكثر من عشرين سنة. واعتمدت أدبه، وأدخلته في منافسة مع روائيين يمتاز عليهم باحترافه القديم للسيناريو. وانصرف عن الكتابة للسينما، متفرغاً للأدب، وصار اسمه وأعماله استثماراً، في أفلام فنية وتجارية. وفي القراءة والمشاهدة قررتُ نسيان انطباعاتي السابقة عن النصوص والأفلام. ونجحت خطة القراءة، ولم تكن الأفلام لتنجو من مرآة النصوص كمعيار جمالي يقترب منه الفيلم أو يبتعد، انطلاقا من ندية الرؤية، أو هزيمة أمام النص، أو التوسل باسم الكاتب بعد فوزه بجائزة نوبل عام 1988.
تستعصي كلاسيكيات الأدب على السينما. السينمائي يخشى الهزيمة؛ فيفضل عملاً يمنحه حرية التصرف. وقد أحببت أفلاماً قليلة مأخوذة من أعمال محفوظ: "بداية ونهاية" و"القاهرة 30" لصلاح أبو سيف، "اللص والكلاب" لكمال الشيخ، "ثرثرة فوق النيل" لحسين كمال، "الكرنك" و"أهل القمة" و"الجوع" لعلي بدرخان، "حكاية الأصل والصورة" لمدكور ثابت، "قلب الليل" لعاطف الطيب. يعجبني إيقاع كمال الشيخ المستند إلى خبرته في المونتاج، ورهانه على ذكاء مشاهد يفرض أبو سيف عليه وصاية أحياناً؛ فيكعبل عينيه في رمز سافر، أو شعار على جدار. وأعجبني "اللص والكلاب" أكثر بعد مشاهدة "ليل وخونة"، وفيلم "اعتراف" للمخرج الأذربيجاني جميل علييف (1996) الذي يستلهم الرواية.
فيلم "حكاية الأصل والصورة" لا يزال عملاً طليعياً تجريبياً، يكسر الإيهام، وينأى عن السرد التقليدي في تقصي جريمة قتل ضحيتها فتاة مجهولة عثر على جثتها. وكان نجيب محفوظ قد صرح عقب عرض الفيلم بأنه يسبق زمانه بثلاثين عاماً. ويرى الناقد المصري إبراهيم فتحي أن هذا الفيلم "يكاد يقف وحده على الضفة الأخرى من الأفلام التي ترجمت محفوظ إلى لغة سينمائية تعتمد على توليفة التسلية والترفيه والإبهار". ويصف الناقد التونسي فتحي الخراط الفيلم بأنه عمل كبير، غير تقليدي، ينطلق من ملحمية المسرح البريختي، ويتجاوز تراث السينما المصرية التي يغيب فيها التجريب، حتى "تبدو تجربة مدكور ثابت يتيمة لم تسبقها أي تجربة".
القراءة الجديدة زهّـدتني عن معظم هذه الأفلام، وأذهبت الحب القديم. هناك أجيال اتخذت الأفلام والدراما مصادر لمعرفة عوالم محفوظ، والأنس إلى أبطاله الذين أصبحوا من الحقائق المصرية. هؤلاء الكثيرون فاتهم الكثير. وأصدق ما ألحّ عليه محفوظ أن من يريد معرفة رؤاه فيلقرأ أدبه، وأنه يُحاسب على النص المنشور. أما الأفلام فمسؤولية صناعها. النص المحفوظي لا يمنح نفسه من القراءة الأولى، ولا يستجيب لقارئ متعجل يريد معرفة ماذا يقول الكاتب. نصّ ثري يغوص في كيفية القول، وطبقات الوعي الحاكمة لمسار الدراما ومصائر البشر. النصوص المحفوظية أكثر عمقاً من كل الأفلام التي اقتربت منها. أقول "كل" باطمئنان، على الرغم من الاستثناءات النادرة.
"دنيا الله" من أكثر الأفلام تمثّلاً لفلسفة محفوظ، وتجسيداً للقلق الوجودي، وإثارةً للأسئلة عن السعادة وجدوى الحياة. يناقش الفيلم معنى السعادة، بعيداً عن الوعظ والصراخ.
مسّني فيلم "دنيا الله" عن أول قصة قصيرة تنتجها السينما لمحفوظ، عام 1968. "دنيا الله" (42 دقيقة) أحد ثلاثة أفلام قصيرة ضمها فيلم "ثلاث قصص". والثاني "خمس ساعات" قصة يوسف إدريس، وإخراج حسن رضا، وتمثيل نادية لطفي ومحمود المليجي. والثالث "إفلاس خاطبة" قصة يحيى حقي، وإخراج محمد نبيه، وتمثيل سميحة أيوب وعبد المنعم إبراهيم وليلى طاهر. ولعل "دنيا الله" من أكثر الأفلام تمثّلاً لفلسفة محفوظ، وتجسيداً للقلق الوجودي، وإثارة للأسئلة عن السعادة وجدوى الحياة. القصة من مرحلته الرمزية التي انشغل بعض السينمائيين بظاهرها. واستطاع المخرج إبراهيم الصحن وكاتب السيناريو عبد الرحمن فهمي والممثل صلاح منصور القبض على معنى "دنيا الله".
يناقش الفيلم معنى السعادة، بعيداً عن الوعظ والصراخ. كيف ينتزع الموظف البائس حقه من الفرح؟ يرى العدل أن يسعد شهرين، مهما تكن النهاية ولو في السجن؟ يفعلها إبراهيم الفراش ويهرب برواتب الموظفين إلى المصيف، بصحبة بائعة اليانصيب ياسمينة (الممثلة ناهد شريف). الباحث عن السعادة ليس متهوراً. حكيم رحيم يتذكر المحتاج الوحيد إلى المال، إنه أحمد أفندي الذي يرجع إلى البيت مهموماً، فيفاجأ براتبه تركه الفراش، وإيضاح أن الآخرين لا يحتاجون إلى رواتبهم، وأنه يريد أن "ينبسط" شهرين. الرجل يتأمّل الرسالة المكتوبة على ورقة بيضاء في عمق الكادر، في مشهد قاتم، بالثياب والستارة وجدار الغرفة التي صممها مهندس الديكور حامد مصطفى.
السعادة المسروقة قصيرة العمر، قلقة ومطاردة. وتغادره ياسمينة بما تبقى من المال. وعلى خلفية موسيقى حانية لفؤاد الظاهري يهيم الرجل المسكين، وتلاحقه كاميرا مدير التصوير فيكتور أنطون ماشياً على الأعراف، على يمينه غموض البحر بأمواجه الكابية، وعلى يساره الرمال ببياضها الباهت. على الخط الفاصل بين النور والظلام، يناجي ربه بمحبة اللائم أنه لم يطلب الكثير. استمتع أسبوعين، ويريد أسبوعين آخريْن: "مش كتير على السنين السودة اللي فاتت دي كلها. ده ذنبي أني بحبك يا رب؟ أنا بحبك"، وينتهي المشهد بقطع حاد على قبتي مسجد ومئذنة تعانق السماء، وفي اللقطة التالية ينهي الصلاة، ويحمد الله حمداً لا يخلو من عشم العتاب.
إنه لوم اللائذ بالله الذي خلق الدنيا "حلوة، وحرمتني منها". ويعزي نفسه بأن لا فائدة. ويخرج من المسجد يعطينا ظهره، في مشهد ظلي (سلويت)، يجعله شبحاً، ظل إنسان، يعطينا ظهره في لقطة قريبة يزيد فيها حجم جسده على قباب المسجد، ورأسه في السحاب، ويستسلم للشرطي الذي يسأله: لم فعلت ذلك؟ فيصمت وينظر بأسى إلى السماء. في النص القصصي، يرضى إبراهيم الفراش بالسعادة المسروقة، ويمتن لأيام المسرات، حتى بعد أن غادرته الفتاة، "فليسامحها الله وليسعدها الله". كلاهما وحيد. ثم يصلي ويناجى ربه: أيرضيك هذا؟ ويبكي. ويستسلم للمخبر الذي يسأله: ماذا دفعك إلى تلك الفعلة وأنت في هذا العمر؟! فيتنهد ويجيب: "الله".
فماذا فعل حسن الإمام بدنيا الله؟
عام 1985 أخرج الإمام فيلم "دنيا الله"، سيناريو وحوار عصام الجمبلاطي الذي كان في رصيده فيلم واحد، "أسوار المدابغ" عام 1983 عن رواية لإسماعيل ولي الدين. وكتب ثلاثة أفلام عرضت عام 1986: "التوت والنبوت" و"عصر الحب" من أدب نجيب محفوظ، و"الفريسة" معالجة لمسرحية "عربة اسمها الرغبة" للأمريكي تينيسي وليامز. لسبب رقابي غبي في التلفزيون المصري تغير عنوان الفيلم إلى "عسل الحب المر"، ومن دون تغير العنوان لا ينتمي الفيلم إلى محفوظ. انطلق العمل من ظاهر واقعة السرقة، إلى أجواء تؤكد انتسابه إلى ميلودراما حسن الإمام. وجرى تفريغه من فلسفته، وتلفيق مكائد وأشخاص ليكون كوميديا، فكان حمودة الهجام (الممثل سعيد صالح).
القصة المحفوظية، مع حسن الإمام، فقدت الرهافة والأشواق التي جسدها صلاح منصور، وأصبحت سلسلة من الهروب والمطاردات والاحتيالات لسرقة المال من الفراش الساذج (الممثل نور الشريف)، عن طريق ياسمين (الممثلة معالي زايد) وحبيبها حمودة الذي يعدها بالزواج حتى يسطو على المال، ويتزوج عزيزة (الممثلة إسعاد يونس). يغيب المعنى، فتحتشد المشاهد بثرثرات ومعارك لزوم الأكشن. لم تكن الهزيمة أمام النص الأدبي وحده، وإنما أمام أداء صلاح منصور وناهد شريف. بل إن الشخصية التي جسدها سعيد صالح مستنسخة من شخصية أداها، عام 1984، في فيلم "الخادمة" لأشرف فهمي. والفيلم الأخير معالجة لقصة "زيارة" في مجموعة "خمارة القط الأسود". ولا صلة للفيلم بالقصة.
مع أشرف فهمي والسيناريست مصطفى محرم تصبح "الخادمة" نسخة غير منقحة في سجل الممثلة نادية الجندي، بفجاجة الأداء النمطي لشخصياتها. الخادمة تخدع ابن مخدومتها وتتزوجه، بإيعاز من عشيقها أبو سريع (سعيد صالح) الذي تتآمر عليه؛ لتستأثر بالثروة. ويخرج من السجن ليقتلها. ميلودراما لا علاقة لها بقصة شاعرية عن عجوز وحيدة رهينة برحمة خادمة لئيمة. العجوز المريضة تخاف أن تفارقها الخادمة، ويزورها شيخ أعمى، يقرأ القرآن، وتدعوه إلى زيارتها باستمرار. ويبصّرها بقوتها، وأن نصف عجزها مصدره الاعتماد التام على الخادمة التي تحاول دفعها إلى الجنون، بإنكار أن أحداً زارها، لا شيخ ولا أفندي. وتتمكن السيدة من النهوض، فتصاب الخادمة بالذعر وتهرب.
النص المحفوظي لا يمنح نفسه من القراءة الأولى، ولا يستجيب لقارئ متعجل يريد معرفة ماذا يقول الكاتب. النصوص المحفوظية أكثر عمقاً من كل الأفلام التي اقتربت منها
الاجتراء على قصة "زيارة" تكرر مع قصة "كلمة غير مفهومة"، في مجموعة "خمارة القط الأسود". والجسر بين قصة محفوظ وفيلم "نور العيون" كابوس يفزع المعلم دعبس قاتل حسونة الطرابيشي الذي طمع في الفتونة. حسونة زار غريمه في الحلم، وتوعده بالقتل. يجند دعبس رجاله للبحث عن ابن حسونة، وكان طفلاً عندما قُتل أبوه، ونذرته أمه للثأر، ثم اختفت. يدرج الفيلم ضمن صرعة ما بعد نوبل، واللهاث على إنتاج أي شيء بضمانة اسم محفوظ، النوبلي. عرض الفيلم في نيسان/أبريل 1991، وأولى لوحاته "عملاق الأدب العربي والعالمي نجيب محفوظ". يليها "في"، والعنوان "نور العيون". ولا وجود في قصة محفوظ لبنت اسمها نور العيون.
وحيد حامد اخترع نور العيون التي تعلمت الرقص في السجن متهمة بالدعارة. ويغري الفيلم بطلته فيفي عبده بالمزيد من الرقصات، حين عملت في مصبغة دعبس، وبعد طردها. ويخضع لها دعبس ويتزوجها. فيلم كغيره من أفلام فيفي عبده ونادية الجندي، وكغيره من أفلام حسين كمال، باستثناء بداياته الجيدة: "المستحيل" 1965، و"البوسطجي" 1968، و"شيء من الخوف" 1969. أكاد أقول: "فقط". وأترحم على مديري التصوير: عبد العزيز فهمي وأحمد خورشيد. ويدخر فيلم فيفي عبده مفاجأة للمشاهد، بأن نور العيون ابنة حسونة التي تُوقع بدعبس في قبضة الشرطة. يرى هاشم النحاس أن الفيلم "فقدَ معناه حين تحول إلى قصة انتقام مبتذلة مليئة بالأحداث المفتعلة".
ويقول النحاس، في كتابه "نجيب محفوظ في السينما المصرية"، إن الفيلم "من ناحية التنفيذ في أدنى مستويات مخرجه حسين كمال". قصة محفوظ أعمق من هذا التسطيح والابتذال؛ فالمعلم لا يطمئن لقول رجاله إن أحدا لم يسمع عن ابن حسونة ولا أمه. ويؤرقه الحلم، ويبلغه شيخ ضرير أن ابن حسونة حي، فتبدأ رحلة البحث والتفكير في خيارات بين قتله، أو إرهابه فلا يفكر في الانتقام. أرشدهم الأعمى إلى البيت، في نهاية درب مظلم. وقرروا الانقضاض. وقال المعلم بوحشة: "وينتهي الحلم!"، فإذا به يصرخ ويسقط. نادوه في الظلام، "ولكنهم لم يروا إلا العمى". جاءوا بفانوس العربة، وأنصتوا إلى أنين المعلم: "قُتلتُ... بينكم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...