هذا نص طويل يتشكل من ثلاث أقسام: "الدقيق"، اللحم"، "الحلويات"، وهي مكونات أساسية لطعام الفرحة في مصر. نجد أن المذاق يفسّر الناس، الزمن والمكان، ويرسم جغرافيا موازية، جغرافيا بشرية وما صنعه الإنسان في الوديان والصحارى والأطراف البعيدة، ليفرح وينسجم مع الكون.
*****
عندما تظهر الأواني الكبيرة في عمق الحارة، ومواقد الغاز العملاقة يخرجونها من مخازن العائلة، نعرف جميعاً أن لدينا فرحاً لقبائل العرب الذين هجروا أماكنهم على حدود مصر وليبيا في غرب البلاد، واستوطنوا مدينتنا الصغيرة جنوب القاهرة، المعادي.
كانت الحارات التي تضم منازلهم متلاصقة، ينظفونها جيداً، يغسلون المصاطب التي تتصدّر واجهة كل بيت بالماء والصابون، يحملون الأوساخ بعيداً ويفرشون الأركان بالجريد والحصير، استعداداً لعمليات طبخ تستمر لأيام في الحارات التي تتحوّل الى مطبخ عمومي مفتوح. يستخدمون أحد المحلات الصغيرة لتشغيل مواقد الغاز، وعمليات سلق اللحوم وإعداد الأشياء الدقيقة التي لا يصلح طبخها في الشارع.
الخلية تعمل في نظام ودأب شديدين، وسط لهو الأطفال الذين يتطوّعون بشغف لمساعدة "ستات العيلة" في هذه المهمة.
في قرى الريف المصري، شمال البلاد، تنصب الشوادر الكبيرة قبل موعد الفرح بيومين، توضع فيها كل المعدات الطبخ اللازمة: شوايات، مواقد كبيرة، موائد طويلة وممتدّة، هذا إعلان عن قدوم إحدى العائلات المتخصّصة بطبخ الأفراح في قرى الريف، لتتولّى عملية إطعام ما يزيد عن 1000 شخص على مدار يومين متواصلين. هناك مهنة يتوارثها أجيال بعض عائلات دلتا النيل، وتلفّ الريف المصري بسيارات النقل التي تحمل معدات الطبخ المتحرّكة، لتحط الرحال أينما طلب منهم ذلك. موائد الريف ملونة وغنية بالخضروات والأفكار المتجددة.
وفي سيناء، شمال شرق البلاد، يختار رجال القبائل قطعة أرض واسعة، تقترب من ساحة الفرح، يتم تسويرها وتنظفيها بعناية لتكون مستقرّ مسلخ اللحوم وعيون النار العميقة في الرمال الساخنة في الأرض، وهى فجوات مبطنة الجوانب بالصاج، وترقد أسفلها فوهة من الحطب، يدفن فيها اللحم بعد تتبيله، لينضج على نار هادئة لساعات. لا يزال "الردم" طريقة سحرية يستخدمها المطبخ الصحراوي لطهى اللحوم.
في القرى في الريف المصري، تنصب الشوادر الكبيرة قبل موعد الفرح بيومين، توضع فيها كل المعدات الطبخ اللازمة: شوايات، مواقد كبيرة، موائد طويلة وممتدّة، هذا إعلان عن قدوم إحدى العائلات المتخصّصة بطبخ الأفراح
وفي صعيد مصر، جنوب البلاد الصاعد الي فرع النيل، يتصدّر أثرياء الجنوب المشهد، تنصب شوادر ذبح اللحوم ومواقد النار والأفران الكهربائية الحديثة في الأراضي الزراعية، بجوار منازل وجهاء القرى الذين يتعاقدون مع طباخين كبار معروفين بالاسم في الجنوب، وتتبادل أسماءهم العائلات الكبيرة كنوع من المنافسة، فالطباخون الآن لا يقدمون الطعام فقط، بل ينتجون فيديوهات إعلانية أثناء إعداد ولائم "أكل الفرحة"، ويشرحون فيها طريقة الطبخ وأجواء الفرح.
خلف كل هذه الطقوس الاجتماعية الاستعراضية الكثيفة للأعيان من الرجال، تقاوم الوصفات الأصلية للمجتمعات المحلية، تكافح أن تندثر وتطمر كلياً، فقبل إعداد الولائم المصورة التي ينفّذها الآن الطباخون الرجال فقط، وربما أثناءها أيضاً، تراوغ من أجل البقاء، بعض الوصفات النابعة من مطبخ محلي صغير قامت على جهد النساء بالأساس، مطبخ النساء لا يتحدّث عن الكميات، لكنه يركّز على الجودة و التفاصيل، وهذا ما يجعل الولائم الصغيرة في حدود الأسرة أو العائلة الواحدة أكثر ثراء، وربما أكثر أصالة، لأنها تحافظ على أنواع تتوارثها الأجيال، ويضيفون إليها من جهدهم وخبراتهم وظروفهم الاقتصادية مع مرور الوقت.
من كل هذه الأنواع والأطعمة والأمكنة، تتشكّل خريطة واسعة لما نطلق عليه "أكل الفرحة في مصر"، هذا العنوان الكبير الذي يحمل بداخله خريطة أكبر، للناس وعاداتهم، مكانهم وإمكاناتهم الاقتصادية في لحظات مختلفة، لا يملك إلا قلة من الناس في مصر الأموال لتنفيذ هذا النوع من الموائد الاستعراضية الباذخة، لكن من المؤكد بالنسبة لي الآن، أن الغالبية من المصريين امتلكوا القدرة على صناعة طعام أفراحهم وطبخ المباهج بقليل من الطحين والماء، وهذه هي معجزتهم الخاصة.
*****
الأفراح والاحتفالات في مصر، مثلث تحمله ثلاثة أضلاع "الأكل، الغناء، الكيف"، ففي بعض الأفراح يمكن الاستغناء عن الكيف في العلن، ويمكن استهلاكه على نطاق ضيق، ولكن لا يستوي الفرح أبداً دون الطعام والغناء، وظل الغناء الشعبي والأكل المحلي المنتج بوصفات قديمة تم تطويرها مع مرور الوقت، السبيل الأخير لصنع البهجات المؤقتة.
كانت السباحة في المطبخ المصري مقلقة وغير متوقعة. أنا ابنة مدينة، عاصمة هذه البلاد التي تتعامل بنكران وجحود مع المأكولات التي لا تعرفها، تندهش الغالبية من أبناء العاصمة أن وجباتهم لا يعرفها أهل الأقاليم الأخرى. يتصورون أن المدنية هي ما تقدّمه القاهرة وأن الطعام الحديث هو ما تقدّمه المطاعم الفاخرة في الفنادق أو المطاعم الشعبية الرائجة، وأن الطعام الذي يُصنع داخل البيوت البعيدة، في جنوب البلاد أو غربها أو مناطقها الحدودية، هو طعام قديم ولا يصلح للتداول العام، لكن هذا النوع من الوصفات والطبخات، يتم تداولها على نطاق المجتمع المحلّي في الأفراح والأعياد والاحتفالات الشعبية المرتبطة بالأساس بالمكان وناسه، ورغم سطوة الأكلات السريعة على إيقاع الطعام في المدن المصرية، إلا أن أعماق القرى الصغيرة تتذكر الوصفات والطبخات الأصلية، وتتعمّد العودة إليها في المناسبات الخاصة، وكأنها جزء من بطاقة التعريف.
وفي حقيقة الأمر، ظلّت المرأة هي الحاضنة لذاكرة الطعام المحلّي دائماً، حتى عندما ذهب الرجال لإنتاج الكميات الهائلة من طعام الأفراح، وتحويل الفكرة الى نمط تجاري يستخدم الوجبات والأكلات الأكثر رواجاً في عموم البلاد دون أي خصوصية تذكر، لا تزال المرأة المصرية تقدم وجبتها الفريدة في الأفراح والأعياد، ولا تحتاج للدعاية المفرطة، لأنها تحصل على التقدير الأصلي عندما تربط الأرض بالطعام بالناس، لتبقى هذه الطبخات حية الآن.
من العسير أن يعطينا نصّ واحد صورة عن خريطة "أكل الفرحة" في مصر، يحتاج الأمر إلى حلقات متصلة لترسم جزءاً من المشهد الحقيقي، ولكن يمكننا أن نجد بعض الخيوط، نرسمها بعرض الفكرة ونمرّرها على اتساع خريطة القطر المصري، نستخدمها مثل كشّاف ضوئي لرؤية ماذا يعني استخدامهم في كل مكان.
بحثت عن منتج أساسي يلازم طعام الأفراح في أرجاء البلاد، وجدت البحث يقودني إلى واحد من أهم مكونات حياة المصري القديم، وكان القمح هو النقلة الكبرى لتطور شكل الغذاء في الشرق ومنطقة الهلال الخصيب، وغيابه يعني الموت المحقق للناس.
إن أفراح المصريين تبدأ بعد موسم حصاد القمح، في الربيع، بداية الخير والنماء، ولا يزال الناس في الريف المصري يتبعون نفس المواقيت في اتفاقات الزواج، كما أن العيد المصري القديم " شمو"، أي "شم النسيم"، يعتبر مركزاً محورياً في الأعياد، ويحتفل به الشعب بجميع ألوانه، ومع لحظات تحول عيدان القمح في الغيطان إلى اللون الذهبي، يتفاءل الجميع، الخير آت والفرح آت.
ماذا فعل القمح بطعام الفرحة؟!
في البدء كانت الحبوب، القمح والشعير والذرة. يخلطهم الإنسان بالماء، تتغيّر الخواص وتلين المكونات، تصير طيّعة في اليد، ثم يتشكل الطعام ويتغير وجه الحياة.
وقف القمح على قمة هرم الحبوب لزراعته في مصر منذ آلاف السنين، اهتمّ به المصريون القدماء بشكل احتفالي، ألّفوا له الأغاني والأهازيج، رسموا مراحل زراعته وحصاده على جدران المعابد، قدّسوا لونه الذهبي، وجعلوا من "رنوتت" إلهة التغذية والحصاد، صوّرت على جدران المعابد، امرأة برأس الثعبان الكوبرا.
كانت الكوبرا تحمي مخازن الغلال من الفئران، والصوامع أو مخازن الغلال كانت من أهم المنشآت الحيوية في مصر القديمة، بل كان المصريون حين يتمردون على أوضاعهم الاقتصادية أو فساد الحاكم، يذهبون للتظاهر أمام صوامع القمح والحبوب، باعتبارها مركزاً للحياة، فالقمح واحد من مفاتيح الفرح والثورة أيضاً.
الآن، لا يجد البلد الزراعي القديم قمحهظ، حرثها الفساد على مدار عقود وجفّفت الديكتاتوريات العسكرية المتتالية كل إمكانات الاكتفاء الذاتي من المنتج الاستراتيجي الأول للمواطنين، بل يزرع فلاحو مصر أراضيهم بالقمح والشعير لشركات متعددة الجنسيات أو خليجية، ثم تشتريه الحكومة منهم مرة أخرى! تعتبر مصر المستورد الأول للقمح في العالم، متفوقة في الاستيراد الآن كما كانت متفوقة في الزراعة، مع تبدل المواقع!
مطبخ النساء لا يتحدّث عن الكميات، لكنه يركّز على الجودة و التفاصيل، وهذا ما يجعل الولائم الصغيرة، في حدود الأسرة أو العائلة الواحدة ،أكثر ثراء، وربما أكثر أصالة، لأنها تحافظ على أنواع تتوارثها الأجيال، ويضيفون إليها من جهدهم وخبراتهم وظروفهم الاقتصادية مع مرور الوقت
قمح الفرحة الصعيدي
يتصور الزائرون أن القاهرة هي عاصمة مصر التاريخية الوحيدة، لكنها عاصمة حديثة نسبياً إذا قورنت بالعواصم القديمة المنحوتة من قبل الميلاد و عصور المصريين القدماء، والتي كانت أغلبها في جنوب مصر، فالجنوب ظل واحة كبرى للحيوات المصرية القديمة، للآثار والعادات وأسرار الحياة ما بين ضفتي النهر والبحر الأحمر، حيث عاش الناس وصنعوا الحياة تحت درجة حرارة مرتفعة ومكونات طبيعية محدّدة، ولُقّب الجنوبيون جميعاً بـ "الصعايدة" نسبة إلى "صعيد مصر" أي يعني المنطقة العليا في الوادي، وظلت لقرون تسمى "مصر العليا".
أفراح الصعايدة وطعامهم مرتبط بحرارة الشمس المرتفعة في أغلب شهور السنة، وبما تجود به الأرض من حبوب وخضروات، وما يجود به النيل من أسماك، لكن القمح هو سيد هذه المكونات جميعاً.
احتفظ الجنوبيون بعدد كبير من عادات المصريين القدماء في الطعام والاحتفالات، من يملك قطعة صغيرة من الأرض يزرع بعضها قمحاً، ليس بهدف التجارة، ولكن بهدف تأمين أهم عنصر غذائي للطعام طوال السنة، سواء لأهل البيت أو للحيوانات التي تأكل دريس القمح، كما جاء على أحد الجدران في مقبرة في جنوب الوادي: "ادرسي أيتها الثيران، فالتبن سيكون علفاً لك، والحب من نصيب أسيادك".
تعلم الجنوبيون أصول تخزين الحبوب وحافظوا عليها كثروة لا تقدر بثمن، وحتى الفلاح الذى لا يملك أرضاً، يقايض فلاحين آخرين يزرعون القمح، أو يحصل على نصيبه من التموين الحكومي كدقيق من الجمعيات الزراعية المنتشرة حديثاً، فلا تستوي حياة بيوت الصعيد دون القمح.
الأفراح والاحتفالات في الصعيد تستمر لأيام، سواء كانت أفراح عملاقة للأعيان من العائلات وأصحاب النفوذ، أو أفراح شعبية بسيطة، يتخللها ظهور بعض الوصفات الشعبية القديمة، كما أن فلسفة الاحتفال عند الصعايدة مرتبطة بالطعام دائماً، فهناك أكلات لا تدخل البيوت في حالة الحداد التي تستمر لسنة، كما أن هناك وصفات تطهى من أجل الفرح، وطبخها يعني أن البيت عامر بالسعادة.
طبخات صعيدية للفرحة
العيش الشمسي
يملك الصعايدة خبزهم الوطني القديم الذي يظهر بقوة في الأفراح الشعبية على وجه الخصوص، وفي المناسبات الدينية والحفلات وهو " العيش الشمسي"، وهو نوع من الخبز يحتاج لجهد عدد من السيدات، فمن الصعب أن تقوم سيدة واحدة بكل المراحل التي تشمل "العجن، التخمير الأول، التقريص، التخمير الشمسي، التشقيق، الخبيز"، لذلك فخبزه يحتاج إلى اجتماع لنساء العائلة أو الحي، وهو ما يحدث بسهولة في التحضير للأفراح مثلاً.
العيش الشمسي الأصلي يعتمد على خميرة منزلية تصنع من اليوم السابق للعجن، أو يتم اقتراضها من سيدات البيوت المجاورة، والآن البعض يستخدم الخميرة الجاهزة، ولا يكتمل نضجه إلا بعد فرش كرات الخبز فوق مقارص، وهى عبارة عن طبق مستدير يصنع محلياً من روث الحيوانات، وحالياً يصنع من ورق الكرتون المقوّى، تصنعه السيدات أيضاً، توضع كرة الخبز فوقه ويرقد تحت أشعة الشمس لساعات، في هذه المرحلة، ينكشف وجه الخبز إذا كان جيداً أو متواضعاً، إذا فرشت كرة الخبز نفسها فوق المقارص، يعني اختماره ونجاحه.
بعد الاختمار تأتي مرحلة "التشقيق" أي يتم تشقيقيه من وسطه ثم ترسم دائرة في منتصفه، هذه الدائرة ترمز إلى قرص الشمس الذي قدّسه المصريين القدماء على هيئة الإله رع، وكانوا يحضرون له الخبز الشمسي كقربان للآلهة لتمنحهم الرضا، ولا يزال عدد كبير من سيدات الصعيد القبطيات، يرسمون الخبز الشمسي بأربعة أجنحة، وهو يشبه القرابين المكتشفة في مقابر المصريين القدماء.
يأخذ الخبز الشمسي شكل القرص المنفوش الذي يحتوي قلبه على لبابة سميكة ذات مذاق طري تصلح للتغميس مع نوع الطبخات الصعيدية السائلة، تغمس اللقمة داخل طبق الملوخية أو أطباق الطبيخ المخلوط بالصلصة مثل البسلة والفاصوليا.
الأدوسية
هي أكلة منتشرة بقوة في صعيد مصر لدرجة أنها تحمل اكثر من اسم في كل مدينة صعيدية مختلفة، ومن أسمائها "الرشتة" و"المخروطة"، فالصعايدة يستخدمونها كطبق حلو أو حاذق مصنوع منزلياً، البعض يشتريه جاهزاً من فلاحات أخريات، لا ينتج داخل مصانع أو محلات صغيرة، تصنعه السيدات في نهاية الأمر.
الأدوسية بالسكر أو الحليب تقدم في الأفراح الصعيدية للمعازيم، وتقدّم للعرسان في صباحية الفرح، وأحياناً توزع على الجيران في صباح اليوم التالي للفرح، وتقدّم في سبوع الطفل حديث الولادة، وتصنعها الجدات للأطفال في ليالي الشتاء لتدخل عليهم السرور أثناء صناعتها وأكلها.
تصنع الأدوسية الصعيدية من ثلاثة مكونات فقط "الدقيق، الملح، الماء"، حيث يتم خلط المكونات الثلاثة بنسب محددة على مرتين، مع إضافة الدقيق بشكل مستمر أثناء العجن، حتى تصير العجينة لينة تماماً للفرد بالنشابة أو عصا خشبية، وهنا تتركز قدرة ودأب المرأة الصعيدية التي لاتزال تصرّ على فرد العجينة باليد مراراً وتكراراً دون اللجوء إلى ماكينات حديثة، أجد أيضاً أن التعامل المباشر مع العجين، واستخدام اليد كأداة حساسة لتطويعه كما رأيت مباشرة أو في فيديوهات منقولة عن ستات الصعيد، يجعل العجين أكثر مرونة وقريباً من صانعته.
الأفراح والاحتفالات في مصر، مثلث تحمله ثلاثة أضلاع "الأكل، الغناء، الكيف"، ففي بعض الأفراح يمكن الاستغناء عن الكيف في العلن، ويمكن استهلاكه على نطاق ضيق، ولكن لا يستوي الفرح أبداً دون الطعام والغناء
إنها تلمس بيدها وتختبر موطن قوته وضعفه، ثم تلفّ العجين المفرود على العصا بحيث يتخذ شكل أنبوب طولي، وتحضر سكينة حامية وتبدأ في تقطيعه إلى شرائح رفيعة جداً، وترش الدقيق عليها حتى لا تلتصق.
وفي زاوية أخرى، يتم تحضير حلة من الماء المغلي ويعلوها مصفاة ويتم وضع شرائح الأدوسية الطرية لتنضج على بخار الماء، وفي أحيان أخرى يتم وضع الأدوسية مباشرة في الفرن لتتحمص وتخزن لفترة أطول، وبعد النضج، يتم فركها بالسمن البلدي ورش السكر المطحون مع إضافة الحليب في بعض الأحيان.
قمح الفرحة الريفية
تعيش قرى الريف المصري في تناقض كبير، ما بين صورة الخير الواسع والوفرة لأعيان البلاد والفقر الشديد لأغلب الفلاحين العاملين في تلك الأراضي، وبينهما يعيش سكان البنادر والمراكز المتعلمين والمهنيين الذين يعانون من ظاهرة تآكل الطبقة الوسطى، والذين يقتربون الآن من الفقر، بفعل التضخم الاقتصادي الهائل الذي شهدته مصر في السنوات الأخيرة.
ربما يرضى الفلاحون أن يعيشوا حياتهم اليومية بالحدود الدنيا للإنفاق، بل أحياناً لا يستخدمون النقود كعملة بقدر ما يستخدمون المقايضة بالمحاصيل وتبادل المنافع، وفي الأفراح الريفية الشعبية أو الأعياد الدينية، لابد أن يكون الأمر معكوساً.
تقوم السيدات بالادخار طوال السنة من أجل الإنفاق على الفرح، يتم ادخار السمن والزبد ودقيق القمح الأبيض "الزيرو" لعمل كحك الفرح والكسكسي، وكل المأكولات التي تصنع في المنازل ولا يصلح شراؤها من المحلات، ولا يمكن فعل ذلك في القرى، لأنها تصبح من الأمور المعيبة في حق العائلات.
ينتشر في الريف الخبز المصنوع من الذرة والقمح الكامل، لكن الدقيق الزيرو، الدقيق الناصع البياض، هو الأغلى سعراً، يستخدم في الحلويات فقط، وأحياناً يصنع منه الخبز المخصوص ولكن في حالات نادرة.
تتنوع استخدامات القمح في الأفراح والاحتفالات في الدلتا، يضم الريف المصري أكبر مساحات مزروعة بالقمح في البلاد، وتتنوع الخضروات والفاكهة على موائد الميسورين، لكن البقية الباقية من الفلاحين، يعتمدون في غذائهم على المكونات الأساسية: الطحين، الحليب، فهناك ضرورة أن يملك الفلاحون بقرة أو جاموسة، تساعدهم في حرث الأرض، ومن خلالها يخرج الحليب يومياً، ومنه يصنعون الزبد والسمن للتجارة او للتخزين للمناسبات الاجتماعية والأفراح.
انقسمت الاحتفالات في الريف إلى أفراح الفلاحين وأفراح الأعيان، حتى لو تزوج أحد من أعيان البلاد، وتمت دعوة الفلاحين للفرح، فأنهم لا يحتفلون في نفس المكان، يحتفل الفلاحون وحدهم ويطبخون ما لا تقدمه مطابخ الأعيان، ربما يذهب الأعيان لبعض أفراح الفلاحين، ولكن لا يحدث العكس بسهولة.
وصفات ريفية للفرحة
الكحك
الكحك المصري وصفة للاحتفال، رسمت على جدران المعابد منذ الدولة القديمة، في شمال مصر وجنوبها منذ آلاف السنين، وسجّل المصريون مكونات صناعة الكحك وطقوسه، فهو مرتبط بالأعياد المصرية القديمة، وكان يقدم للآلهة كقرابين أيضاً، صورت الحضارة المصرية القديمة النساء يحملن جرات من الكحك، كما تفعل السيدات المصريات حتى الآن أثناء الذهاب للفرن لتسوية الكحك، في احتفالية عائلية يشترك فيها الأطفال في الأعياد والأفراح، فلا يمكن أن يقام فرح ريفي دون أن تجتمع سيدات العائلة والجيران في دائرة عمل كبيرة، لعجن الكحك ونقشه وتسويته ليصبح جاهزاً لتقديمه لأهل العروس وللعروس في بيتها يوم الصباحية، ولا يمكن زيارة أهل العروسين للمباركة دون أن يقدموا للضيوف طبق الكحك بالسكر وبسكويت النشادر، فالكحك الفلاحي من الأنواع المشهورة في الكحك المصري، ربما هو الأفضل نظراً لنقاء مكوناته، مثل استخدام الدقيق المحلي المزروع في أراضيهم، والسمن البلدي المصنوع بمعرفتهم، وبالطبع الحليب من أبقارهم.
ظلّت المرأة هي الحاضنة لذاكرة الطعام المحلّي دائماً، حتى عندما ذهب الرجال لإنتاج الكميات الهائلة من طعام الأفراح، لا تزال المرأة المصرية تقدم وجبتها الفريدة في الأفراح والأعياد، ولا تحتاج للدعاية المفرطة
يعجن الكحك بكميات هائلة من السمن المذاب في وعاء كبير، كل كيلو دقيق يضاف إليه نصف كيلو من السمن البلدي. يضاف الدقيق بالتدريج مع الحليب وقليل من الملح وبعض السوائل العطرية، مثل الفانيليا وحبوب السمسم، وتعجن الكمية مع بعضها، وتظل السيدات يعجن لفترة حتى يشعرن أن العجينة ناعمة وطرية بما يكفي، ثم يجلسن جماعة فوق الطلبية الخشبية القريبة من الأرض، لتقسيم العجينة إلى كرات، يحشونها بالبلح والفواكه والمكسرات، ثم ينقش الكحك على هيئة أشكال.
يستمر هذا الطقس لساعات متواصلة، ثم يرصّ في الصاجات ويذهب الأطفال به للأفران الكبيرة، ينتشر الكحك في عدد كبير من الدول العربية حالياً، بلاد الحجاز وحضرموت وكذلك منطقة الهلال الخصيب، ويأخذ أسماء مثل "كعك، معمول".
جريشة القمح
هي أكلة عابرة للثقافات العربية، موطنها القدس في فلسطين، لكنها انتقلت إلى عدد كبير من الدول المجاورة التي تعتمد على القمح في غذائها. القمح له عدة أشكال وألوان، طبقاً لطريقة الطحن والجرش، وهناك فرق كبير بين الاثنين، فالطحن هو ما يجعل حبات القمح دقيقاً أبيض ناعماً، ويسمي حينها "طحين" والجرش هو فرم القمح دون أن تهلك حبة القمح كاملة، و كانوا يستخدمون للجرش آلة بدائية من الحجارة، حتى ظهرت آلات كهربائية حديثة تقوم بتكسير الحبة فقط.
ويعود استخدام القمح كبديل للأرز في كثير من الأحيان في المطبخ العربي، فالقمح يتحول إلى "برغل- فريك- جريش"، وهي أطباق تطهى بجوار طبق البروتين أو الخضار، حيث لم يعترف سكان القرى في مصر بطبق المكرونة إلا حديثاً جداً، وفي الحقيقة، يعتبر رمزاً للفقر وضيق اليد، ومن الصعب اعتماد المكرونة كوجبة أساسية في دلتا النيل وصعيد مصر في الأعياد والأفراح أو المناسبات الدينية والاجتماعية.
تطبخ الجريشة بطريقتين، الحلو والحاذق، لكن الطريقة الأكثر رواجاً تقدم كونها وجبة أساسية، يقدمها المطبخ الفلسطيني والأردني والشامي بطريقتهم، مضافاً إليها المكسرات والزبيب، وربما تأخذ وقتا طويلاً في مراحل الإعداد. وفي مصر، يقدمها الفلاحون في بعض قرى دلتا النيل في الأفراح، باعتبارها أكلة سريعة التحضير، تطهى في حلّة واحدة كبيرة، يضع البصل مع البهارات للتقلية البسيطة أولاً، ثم يوضع القمح المجروش فوقها ويضاف لها الملح، ثم يتم سقي المجروشة بحساء اللحم المعد سلفاً بالتدريج مع التقليب المستمر، ينضج القمح المجروش ويضاف إليه القمح الناعم حتى ينضج كله و يتماسك، وتقدّم فوقها قطع اللحم. تطهى الجريشة الفلاحي على نار هادئة، وتطهى أحياناً في الشارع ويأكل الناس منها مباشرة.
يُتبع...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...