شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"المنزل الذي لا يحتوي على مونةٍ فقير"... عادات الأجداد تعود إلى حمص

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 7 يوليو 202203:12 م

على سطح منزلها، في ريف حمص الشرقي، تمد أم مصطفى قطعةً كبيرةً من القماش على الأرض، وتضع عليها ما تريد تجفيفه من مواد للمؤونة الشتوية، وتجد هذه الطريقة "صحيةً أكتر" من وضعها في الثلاجات.

وبالرغم من أن طريقة تجفيف المواد تُعدّ قديمةً، اعتمدت عليها الجدات في الماضي، اليوم عادت هذه الطريقة مرّةً أخرى مع بدء الحرب السورية، وازداد الاعتماد عليها أكثر، خاصةً خلال السنوات القليلة الماضية، بسبب ساعات التقنين الكهربائي الطويلة التي تتبعها الحكومة السورية في مناطق سيطرتها.

مثل عقد اللؤلؤ

تقول المرأة الخمسينية، لرصيف22: "اليوم عدنا إلى الماضي الجميل الذي كانت تعمّ فيه البركة. تعلّمت طريقة تجفيف المؤونة، أو ما يعرف محلياً باسم "التيبيس"، من والدتي وجدتي ولم أستغنِ عنها منذ زواجي قبل ثلاثين عاماً، بالرغم من أن الكهرباء في ذلك الوقت كانت متوفرةً 24 ساعةً يومياً، ولكن حالياً الوضع اختلف بشكل كبير، فالكهرباء تأتي نصف ساعة مقابل ست ساعات قطع، وهو ما دفع بكثيرات من السيدات في منطقتنا إلى الاعتماد على تجفيف المواد".

بالرغم من أن طريقة تجفيف المواد تُعدّ قديمةً، اعتمدت عليها الجدات في الماضي، اليوم عادت هذه الطريقة مرّةً أخرى مع بدء الحرب السورية وانقطاع الكهرباء المستمر

اشترت أم مصطفى علبة إبر، والعديد من الخيوط السميكة، وقامت بتعقيمها ووضعها في علبة بلاستيكية صغيرة كُتب عليها ممنوع اللمس، فهي مخصصة لتحضير عناقيد البامية والباذنجان والتين لتجفيفها في الشمس، فهي ترى منظر العناقيد المتدلية على جدار المطبخ مثل عقد اللؤلؤ الذي تتباهى به بعض النساء ضمن حفلاتهم الفاخرة.

ولا تعتمد الحكومة برنامجاً ثابتاً في تقنين الكهرباء، ولكن ساعات التغذية تقلّ أكثر خلال فصلي الصيف والشتاء، وتحتاج المؤونة إلى التبريد ضمن الثلاجات بكهرباء متواصلة حتى لا تتلف، ولكن برنامج التقنين "الجائر" كما تصفه أم مصطفى، جعل خيار التجفيف هو الحل المناسب عوضاً عن تفريزها في الثلاجات.

اختلفت العادات

كان تموين المواد الغذائية سابقاً، وسيلةً اقتصاديةً وعمليةً لحفظ الطعام وتوفير تكاليفه خلال الشتاء، مع استغلال موسم نضج الخضار وانخفاض أسعارها في الصيف. واختلفت عادات حفظ الطعام عموماً في ظل ظروف الحرب والوضع الاقتصادي الصعب الذي يعاني منه جميع السوريين، مؤيدين ومعارضين. ومع انقطاع الكهرباء وارتفاع الأسعار، اتجه الناس إلى أساليب الحفظ القديمة، من تجفيف البازلاء والملوخية والبامية والمقدد وهو "الباذنجان المجفف" وحفظ ورق العنب بالماء والملح.

وبالرغم من أن "المونة" تُعدّ خزّان العائلات في فصل الشتاء، لكنهم قللوا من الكميات المعتادة، كحال سناء، إذ قامت بتجفيف 10 كيلوغرامات من البازلاء، و5 كيلوغرامات من الثوم، و8 كيلوغرامات من الفول، و20 كيلوغراماً من الملوخية ونحو 30 باقةً من النعناع وهذه تُعدّ من أبرز المواد التي يتم تجفيفها.

عمل منفرد

بلهجتها القروية، تتحدث المرأة الأربعينية إلى رصيف22، عن ذكريات بيت المونة الذي كانت تتفاخر به جدتها، فهو يشبه "المول الصغير" الخاص بالعائلة، تجد فيه ما لذ وطاب نتيجة العمل الجماعي لنساء القرية أو الحارة القديمة، "ففي الماضي كان هناك يوم للفول، ويوم للبازلاء، ويوم للملوخية، ويوم للمربّى، ويوم لتنظيف البرغل، ويتحول البيت إلى خلية نحل تلعب الجدة فيها دور الملكة، فتحصل العائلة على العسل طوال السنة".

كنا نجتمع جميعاً في أرض الديار لتفصيص الفول والبازلاء في مطلع أيار/ مايو، وتقطيع الفواكه لصنع المربّى صيفاً، ونجتمع حول المدفأة في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر لتجريح الزيتون، وكلها عادات اندثرت مع الحرب

"اليوم عادت النساء إلى هذه العادات القديمة، ولكن بشكل عمل منفرد وبكميات قليلة جداً بسبب ارتفاع الأسعار، فتحضير المؤونة يحتاج إلى أكثر من مليون ليرة سورية، وهذا الرقم يصعب تأمينه في ظل الظروف الاقتصادية المتردية، لذا فإن أكثر من 50% من نساء القرية لم يجهزن أي نوع من المونة، بسبب الفقر وتقتصر المونة في الوقت الحالي على الضروريات"، بحسب سناء.

وتُقسم المونة في ريف حمص إلى أنواع عدة، أهمها: المونة الحامضة والمالحة، كالألبان والأجبان والمخللات على أنواعها، والمونة الحلوة كالمربيات بمختلف أنواعها (تين، عنب، قرع، تفاح، خوخ، مشمش، وكرز)، والخضار المجففة مثل الباذنجان، الملوخية، القرع، البامية، والبندورة.

بين الصيف والشتاء

مع تدهور الوضع الاقتصادي، خفّض أهالي ريف حمص من كميات المونة التي يضعونها في البرادات، لأن هذا التدبير لا ينجح مع انقطاع التيار الكهربائي

"كنا نجتمع جميعاً في أرض الديار لتفصيص الفول والبازلاء في مطلع أيار/ مايو، وتقطيع الفواكه لصنع المربّى صيفاً، ونجتمع حول المدفأة في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر لتجريح الزيتون"، تستذكر منيرة لمّة عائلتها استعداداً للمؤونة في كل موسم.

تقول الستينية، وهي أم لسبعة شبان لرصيف22: "المنزل الذي لا يحتوي على مونةٍ فقير، لما تُحققه لهم من اكتفاء ذاتي في الشتاء، فهي من العادات القديمة المتوارثة جيلاً بعد جيل، يحرص عدد من السيدات السوريات على المحافظة عليه بالرغم من ظروفهن الصعبة، فالبرادات لا تعمل، ولا تحتفظ بالثلج في الثلاجات، وهذا يحولها إلى ما يشبه النملية، التي كانت تُستخدم قديماً في حفظ الطعام لحمايته من الحشرات".

تضحك، وهي تخبرنا بأنه لا فرق بين ارتفاع درجات الحرارة في سوريا وانخفاضها، "فمشكلة انقطاع التيار الكهربائي ذاتها، أنه في فصل الشتاء يغيب بسبب زيادة الأحمال على الشبكة باستخدام المدافئ الكهربائية وسخانات المياه، أما في الصيف فإن ارتفاع درجات الحرارة يجعل المحطات والمحولات الكهربائية عرضةً للانفجار، عدا عن نقص الفيول والغاز وهذا ما نسمعه منذ عشر سنوات، لذلك أصبحنا نشبه التماسيح لأننا سمعنا الكثير من الأكاذيب من المسؤولين في بلدي".

كان للمونة السورية طعم خاص، لكن الحرب المشتعلة لم تبقِ لأي شيء نكهةً، بعد أن اندثر الكثير من العادات والتقاليد السورية بسبب الهجرة والنزوح والفقر الذي بات يخيم على ما يقارب 80% من الشعب السوري، حسب منظمة الإسكوا. ومع تدهور الوضع الاقتصادي للسوريين في الصيف الحالي، خفّض أهالي ريف حمص من كميات المونة التي يضعونها في البرادات، لأن هذا التدبير لا ينجح مع انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، ما يؤدي إلى تلف مونة الأهالي، ويسبب خسائر ماليةً لم تكن في حسبانهم، وكان الحل البديل استغلال الشمس والاستعانة بطرق الأجداد في الحفاظ على ما يسد رمقهم في أيام البرد.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image