شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أبو يعرب المرزوقي...

أبو يعرب المرزوقي... "الغرب الكافر" وأفكار بطعم الإسلام السياسي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الاثنين 28 أغسطس 202312:42 م

فلسفة بطعم الإسلام السياسي؛ هكذا تتجلى صورة الفلسفة في مشروع المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي (مواليد عام 1947)، إذ عكف خلاله على تقديم نوع من الكتابات الوعظية، والطائفية، أو التي تحتوي على مغالطات منطقية، أو ذات توجهات سلفية، تكريساً لأفكار كان السبق فيها للإسلاميين، لكنها حملت معه ملامح الطرح البحثي والفلسفي.

ركّز المرزوقي على تحرير الفكر الإسلامي من الجهل المتمثل في استعادة البعض للأفكار البالية والميتة من التراث، على غرار من يتمسكون بعقلانية ابن رشد الأندلسي (ت 595 هـ)، أو روحانية محيي الدين بن عربي (ت 638 هـ)، أو من يتأثرون بالأفكار الأكثر موتاً المستمدة من الحضارة الغربية. وجهده هنا يعدّه "مجرد إعداد للأرضية، تمهيداً كانساً من أجل الشروع في العمل الإيجابي، وأعني الذي يؤسس لشروط استئناف الفكر الإسلامي"؛ بحسب ما ذكر في مقدمة كتابه "فلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي".

بعيداً عن كل التأثيرات المرفوضة، سعى المرزوقي إلى وضع تصوراته حول النهضة الممكنة وسمّاها بـ"الاستئناف"، مركزاً على معتقدات تعزز الانعزال عن العالم المحيط، بل شحنه بالمشاعر العدائية تجاه الآخر، بالترسيخ المستمر لفكرة التفوق الإسلامي، والتنظير لصعوده وهيمنته السياسية على العالم، والإشادة بمشروعين قديمين، أحدهما يُعدّ أعتى خصوم الفلاسفة وهو تقي الدين ابن تيمية (ت 728 هـ)، والهجوم الحاد على المنجز الفلسفي للغرب، والتطاول على الأفكار المختلفة عنه.

الهيمنة القرآنية

فتّش المرزوقي عن النهضة الفكرية داخل الذات العربية، عادّاً التأثير الخارجي، الغربي تحديداً، عاملاً من عوامل الانحطاط، إذ افترض التفوق الإسلامي على كل الحضارات، مُطالباً بالعودة إلى تراثه لاستعادة التفوق المنشود.

في كتابه "فلسفة الدين"، وضَّح المرزوقي طريقة تعامل الإسلام مع الحضارات والأديان السابقة، مستخدماً "غربال التصديق والهيمنة القرآني"، في إشارة إلى الآية: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه" (المائدة: 48). أما استخدامه لمصطلحَي "الجاهلية والتحريف" فجاء من منطلق نقده للأديان، فـ"التحريف مفهوم نقدي للسنن اليهودية والمسيحية وهو مفكك لنصيهما، ومفهوم الجاهلية مفهوم نقدي للسنن العربية اليونانية وهو مفكك لقيمهما، وإذاً فنص الإسلام نص نقدي للتراث الديني الشرقي وللتراث الفلسفي اليوناني".

القرآن في نظره نص نقدي، يحيط بكل الجوانب السياسية والاقتصادية والجمالية والعلمية، وبحسب المرزوقي فإن "القرآن لا ينبغي أن يؤول في ضوء العلم الوضعي، لكونه ما بعد العلم والعمل، والذوق، والرزق، والوجود، ما بعدها القيمي والخلقي"، فالقرآن هنا "ما بعد" كل شيء.

لسنا أمة الوسط بالمعنى القيمي فحسب، بل إننا أمة الوسط الجغرافي والوسط التاريخي. جغرافياً نحن الآن وكما كنا وسنظل إلى الأبد... الجسر بين الشرق الأقصى المنبعث والغرب الأقصى الآفل

ويؤكد هذا التفوق، بأن العلوم التي أنتجها الإسلام فاقت ما أنتجه الغرب، فـ"كل ما عمله الغرب بعد الإصلاح عامةً، ومنذ القرن التاسع عشر خاصةً من نقد للنصوص وتحقيقها علمياً تمييزاً بين الصحيح والمنحول، وسعياً لفهمها، كان قد تم ما يجانسه عندنا في نهاية القرن الأول للهجرة-السابع الميلادي بالنسبة إلى نص القرآن الكريم"، و"حصل نفس العمل بالنسبة إلى السنّة الشريفة في نهاية القرن الثالث للهجرة-القرن التاسع للميلاد عندما صُنّفت الصحاح وتم الاستدراك عليها"؛ وفقاً لما ذكره في "فلسفة الدين".

ولإثبات الهيمنة القرآنية، ادّعى المرزوقي احتواء القرآن على نظام لغوي يشمل كل اللغات البشرية، مكون من نظام توليف نحوي ونظام توليف صرفي، ووفقاً لكتابه المشار إليه سابقاً فإنه "لا يمكن أن يكون القرآن كتاب الدين الخاتم إذ هو بلسان قوم بعينه، لا بلسان البشرية كلها، ولا بد إذاً أن يكون وراء لسان القوم المعيّن وفي ثناياه لسان البشرية كلها، بل لسان كل المخاطبين به من البشر ومن غير البشر، إذ هو للإنس والجن". أما عدم اكتشاف النظامين فلأنه "قد يكون علمهما المعين من العلم بالغيب"، و"لا يمكن للإبداع البشري أن يحصل في أي مجال إذا لم نفترض مثل هذا اللسان الكوني سواء اعتقدنا في وجود نظيره في القرآن أو لم نعتقد".

هذا اللسان الكوني الموجود في القرآن، يأتي زيادةً في مساحة الغيبيات التي من المفترض أن تقلصها الفلسفة، لكن محاولة المرزوقي هنا إما محاولة للتوفيق بين لغة القرآن العربية ودعوته العالمية، فللهروب من محلية النص لجأ إلى اختراع اللسان الكوني غير المكتشف، وإما من قبيل الأفكار الجزئية المعززة لعالمية الإسلام وتأهيله للهيمنة.

الكونية أو العالمية اللتان يلحّ عليهما، ظهرتا أكثر عند تفسيره لمفهوم "الأمة الوسط"، وبحسب المرزوقي في كتابه "فلسفة الدين"، "لسنا أمة الوسط بالمعنى القيمي فحسب، بل إننا أمة الوسط الجغرافي والوسط التاريخي. جغرافياً نحن الآن وكما كنا وسنظل إلى الأبد... الجسر بين الشرق الأقصى المنبعث والغرب الأقصى الآفل. وتاريخياً نحن الجسر بين الحضارات القديمة التي ماتت والحضارات الحديثة التي تتماوت، لأننا سنكون ما بعد ما بعد الحداثة، أي المستقبل المفتوح إلى الأبد"؛ وهنا لا تخفى نبرة الاستعلاء الدينية التي يمارسها.

إذاً، الإسلام هو صاحب التفوق في العلم والقيم، والمستقبل المفتوح إلى الأبد، وأمته هي الوسط تاريخياً وجغرافياً، ولا ينقصه شيء لقيادة العالم، ولا يتبقى للمرزوقي إلا رفع شعار حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين "الإسلام دين ودولة"، وهو ما فعله بالضبط عندما ذكر أن "الإسلام يفقد كل معناه ويتحول إلى وثنية عبادات إذا فقد ثمرته التي هي الجمع بين التعمير والاستخلاف"، و"العرب الذين لا يفهمون ذلك هم من نكص منهم إلى الجاهلية"، بحسب مقاله "مما يعاني العرب؟".

النكوص إلى الجاهلية، وصف متكرر للمخالفين في كتابات المرزوقي، سبقه إليه الباكستاني أبو الأعلى المودودي وطوره المصري سيد قطب في كتابه الشهير "معالم في الطريق".

ضد عقلانية ابن رشد والمعتزلة

خلافاً لدارسي الفلسفة الإسلامية المعجبين بعقلانية ابن رشد أو المعتزلة، اصطف المرزوقي مع أبي حامد الغزالي (ت 505 هـ)، في الهجوم على الفلاسفة، وكما أشرنا فقد اعتبر ابن رشد في عداد الأفكار الميتة والبالية، أما المعتزلة فقد وضعهم مع الخوارج في خندق الأعداء، في مقالات عدة بعنوان "المعتزلة والخوارج: أعماق الظاهرتين ودورهما في محاربة الإسلام".

مع الغزالي، تجنّب المرزوقي التعليق على تكفير الفلاسفة مبرراً موقف الأول، بأن نفي الفلاسفة للبعث الجسدي طعن في بيان القرآن وحوّله من نص واضح، يظهر الحقائق، إلى نص غامض، وبحسبه فإن "نفيهم يعني أن نصوص القرآن لا تبين الحقيقة بل تكفرها (تخفيها)، فيكون النص المقدس أدباً أو حلماً وليس وحياً"؛ كما ذكر في "فلسفة الدين"، وهذا التبرير يبدو كأنه إسقاط موقفه الشخصي على موقف الغزالي، والأقرب إلى الأخير أنه رأى نفي البعث نفياً لمعلوم ومتكرر ويقيني عند الفقهاء والمتكلمين، أما تحويل النص المقدس إلى حلم غامض فيبدو جلياً أنه إقحام من المرزوقي على موقف الغزالي.

وفي موضع آخر، وصف المرزوقي الخصومة بين الدين والفلسفة بأنها وصلت في كتاب "تهافت الفلاسفة" إلى "صيغتها المثلى عند الغزالي".

مثل السلفية الوهابية، رفع المرزوقي من شأن ابن تيمية وعدّه ذروة التطوير، متجاهلاً هجومه الحاد على الفلاسفة في كتابه "درء تعارض العقل والنقل"، وأشرك معه عبد الرحمن بن خلدون (ت 808 هـ)، ووصفهما كعلاج أسماه بـ"الحل الخلدوني التيمي".

رأى المرزوقي أن تأثر المسلمين بالفلسفة اليونانية الوافدة مع الترجمات كان انحطاطاً، لكن ابن خلدون وابن تيمية تخلصا من هذا التأثير، وفضّلا عليه التأثير القرآني، لذا وصفهما بـ"مؤسسي حركة الاستئناف التاريخي"، وبأن غاية تطور الدراسات القرآنية وأصولها بلغت مستواها عندهما، وبحسبه فإن "التفسير وعلم مناهجه لم يتقدما قيد أنملة بعد فيلسوفينا لتوقف طلب العلم لذاته وتحوله إلى مجرد أداة في الصراع السياسي"، وفقاً لما ذكره في "فلسفة الدين".

الآخر الكافر... عداء الغرب

يتلخص موقف المرزوقي من الحضارة الغربية في وصف منجزها الحضاري بالخرافات، وأنها تحتاج إلى هداية الإسلام، وأنها ذاهبة إلى الأفول، لينفتح المستقبل أمام صعود الإسلاميين الذين يمثلون في رأيه الصلح المثالي بين الأصالة والحداثة.

"آيلة إلى الإسلام لا محالة في مستقبل منظور"؛ هكذا نظر المرزوقي إلى أوروبا الغربية التي تُشكل في تقديره استكمالاً لموقع الأمة الوسط من الناحية الجغرافية، فلكي تكتمل لديه صورة الأمة الوسط جغرافياً لجأ إلى التبشير بتحولها إلى الإسلام.

يتلخص موقف المرزوقي من الحضارة الغربية في وصف منجزها الحضاري بالخرافات، وأنها تحتاج إلى هداية الإسلام، وأنها ذاهبة إلى الأفول... وهي "آيلة إلى الإسلام لا محالة في مستقبل منظور"

انتظار تحول دول إلى الإسلام فكرة تنطوي في جوهرها على شيء من الاستعلاء الديني والإقصاء، لأنها، أي هذه الدول، طالما بقيت غير مسلمة فهي لا تتمتع بمميزاته، وتظل في نظره صاحبة أديان فاسدة، ورأى المرزوقي أن "البشرية باتت حاجتها للرسالة الإسلامية تتزايد بقدر تفاقم هذين التحريفين"، ويقصد بهما مشروع ماركس السياسي ومشروع هيغل المعرفي، وكلاهما تحريف يبرز مدى حاجة البشرية إلى الإسلام، كما ذهب في كتابه المشار إليه.

قارن المرزوقي بين صورة الإنسان في القرآن وصورته في الثقافة الغربية، لتصب المقارنة في صالح القرآن، هكذا "كل التخريف عن تقديس الإنسان في الثقافة الغربية، دون ملاحظة أن هذا التقديس مشروط بأن يكون الإنسان غربياً، كما يفهم طغيانه لإفساد العالم كله من أجل سد حاجاته بل كمالياته، فينتقل من راعي العالم في القرآن إلى مفسده في هذه الأيديولوجية التي آل إليها التصور المسيحي".

المدهش أنه وضع المنجز الثقافي الغربي كله في سلّة واحدة، ووصفه بالتخريف، وعدّه منطلقاً ومرتبطاً بالدين المسيحي، مخالفاً بذلك ما هو معروف عن المنجز الفلسفي الحديث المتنوع وغير المرتبط بالتصورات الدينية أصلاً.

وبغض النظر عن النظرة الطائفية العدائية إلى الغرب، لجأ المرزوقي إلى مزيد من التحصين وضمان عدم وقوع أتباعه وتلامذته تحت تأثير الثقافة الغربية، فنجده أعاد سبب انحطاط الفكر الإسلامي إلى تأثره المباشر بالثقافة الغربية. وبحسب المرزوقي فإن "انحطاط الفكر الإسلامي مع التأثر المتأخر بالتحريف الذي طرأ على الإصلاح الديني والإصلاح الفلسفي في الغرب الحديث حال دون المسلمين وفهم الحل التيمي والخلدوني في محاولات الصحوة والنهضة".

العقل الهجائي

لم يجد المرزوقي ضالته في ابن خلدون وابن تيمية واستحسان موقف الغزالي فقط، بل إعجابه بالماضي وصل إلى امتثال العقل العربي الهجائي القديم في مواجهته للآراء المخالفة، فهو لا يكتفي بالرد عليها مثلاً أو بيان أسبابه في عدم الاقتناع بها، بل يذهب أولاً إلى الهجوم على أصحابها بصورة هجائية وكأن وجهات النظر لا علاقة لها بالمناقشات العقلية، بل بقدرة صاحبها على التسفيه والسخرية من الآخرين.

مثلاً نراه يناقش مسألة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم فيرفضه، واصفاً إياه بأن "هذا النوع من التفسير من العلامات الدالة على انحطاط الفكر التفسيري"، و"إنه عين السخف والدليل القاطع على أن المتكلمين في هذا الأمر من أجهل خلق الله بعلم التفسير".

وفي جوابه عن سؤال متعلق بنهي النبي عن كتابة الحديث في زمنه، نلاحظه يسفّه كل رأي لا يقبله، ذاكراً أنه "لا يمكن القبول بالحجة السخيفة القائلة لئلا يقع الخلط بينه وبين القرآن، فهذا من السذاجة التي لا يصدقها عقل حتى في أمة بادية وأمية"، وذلك فضلاً عن وصف الآخرين بالجاهلية، والتحريف، والتخريف، وبأنهم أفسد خلق الله.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image