لم يتعامل التيار الإسلامي مع نجيب محفوظ بصورة واحدة، تمثلت في الهجوم والتكفير، كما في كتاب "كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا" للشيخ عبد الحميد كشك، أو محاولة اغتياله بناء على فتوى لزعيم الجماعة الإسلامية الشيخ عمر عبد الرحمن.
هنالك صورة أخرى تعاملت بها جماعة الإخوان المسلمين معه، ومهَّد لها عبد المنعم أبو الفتوح بزيارته، في كانون الأول/ ديسمبر 2004، لمحفوظ، في إحدى جلساته مع المثقفين، لتهنئته بعيد ميلاده الثالث والتسعين، وللتخفيف من الـ"جفوة" التي ظهرت بين الأدباء والمبدعين وبين الإسلاميين منذ محاولة اغتيال محفوظ في تشرين الأول/ أكتوبر 1994.
اعتمدت هذه الصورة الأخرى مقاربة التفافية بغرض استثمار ما كتبه محفوظ لصالحها، لما في هكذا مقاربة من مكاسب تفوق ما يمكن كسبه من معاداته وتكفيره.
وتعود جذور هذا التوجه إلى نصيحة قدمها سيد قطب لجمال النهري، أحد أعضاء الجماعة وابن أخت نجيب محفوظ، وحاول الأخير استثمارها بعد عدة سنوات من لقائه قطب، ثم أعاد عبد المنعم أبو الفتوح إليها رونقها، بما يتلاءم مع سياقات عصره.
وهذا التوجه باركه المرشد العام السابق للجماعة محمد مهدي عاكف، إذ أصدر بياناً نعى فيه محفوظ بعد وفاته، وأوفد مندوبين هما أبو الفتوح والصحافي محمد عبد القدوس للمشاركة في الجنازة التي شارك فيها أيضاً نواب من كتلة الإخوان حينذاك.
في مقال له بعنوان "اختطاف نجيب محفوظ"، يعتبر الكاتب والناقد الأدبي محمد سليم شوشة أن مكاسب الإسلاميين من وراء التقرب من محفوظ تتمثل في "اكتساب رونق ثقافي ورونق حداثي وأدبى وإنساني ليس لهم على وجه الحقيقة، فالتحلق حوله أو الاتصال باسمه يساعدهم على ادعاء هذه الحال المثالية، كما يساعدهم على التخفي تحت شعارات أدبية وإنسانية هى جزء أساسي من منجز نجيب محفوظ، فيتخفون تحت شعارات مثل العلم والتوافق التام بين العلم والدين، ويقصدون بهذا الصورة الدينية الخاصة بهم، وليس الدين فى مجمله أو بطابعه الإنساني المنفتح".
إعادة تعريف نجيب محفوظ
بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري جمال عبد الناصر في حادث المنشية عام 1954، أُلقي القبض على جمال النهري بصفته عضو خلية منوط بها تنفيذ اغتيالات، وأُدين أمام المحكمة بالسجن 15 عاماً مع الأشغال الشاقة، ونظراً لأن شقيقه حازم كان صديقاً شخصياً لوزير الحربية المشير عبد الحكيم عامر، إذ تزاملا في مراحل التعليم الأساسي والثانوي، حصل جمال على إعفاء طبي من المشاركة مع المساجين في صعود الجبل وتكسير الصخور، ونال حق زيارة المستشفى لإجراء الكشف الطبي. وفي المستشفى تمكن النهري من رشوة باشجاويش الإدارة الطبية لتمكينه من زيارة سيد قطب والاستماع لأحاديثه، وكان قطب يقضي فترة سجنه في قسم أمراض الصدر في المستشفى. وتكررت زياراته لقطب لنحو ثلاثة أشهر، انتقل النهري بعدها إلى مستشفى عسكري، بناءً على توصية من شقيقه حازم.
وثَّق جمال النهري تفاصيل المرحلة في فيديوهات نشرتها الجماعة على موقع "إخوان تيوب". وبحسب حديثه، فإن قطب "هو الذي أعاد تعريف نجيب محفوظ لي، رغم إن نجيب محفوظ خالي"، ولم يستطرد في شرح ما قاله له قطب، بل حكى أنه كان يقرأ الأعمال المهداة من خاله لأمه وأنها لم تكن تنال إعجابه، وكانت "بعض تفاصيل يقولها في قصصه أبقى مش راضي عنها"، لكن حالة عدم الرضا عن أدب خاله تبدلت: "المهم إن الأستاذ سيّد شجعني على قراءة أدب نجيب محفوظ، وقالي نجيب محفوظ ده هيبقى أعظم أديب في مصر وربما على مستوى العالم".
المغزى الأخلاقي والديني
بين عامي 1944 و1948، ولم يكن وقتها قد انتسب إلى جماعة الإخوان، كتب سيّد قطب أربعة مقالات في مجلة الرسالة عن روايات محفوظ: "كفاح طيبة" و"خان الخليلي" و"القاهرة الجديدة" و"زقاق المدق". في نفس تلك الفترة، نشر كتابه "التصوير الفني في القرآن" عام 1945، وهو توسعة لمقالين نشرهما في مجلة المقتطف عام 1939، بما يعني أن رؤيته الإسلامية كانت قد بدأت بالتبلور.
بخلاف الهجوم على نجيب محفوظ وأعماله، ظهرت مقاربة إسلامية التفافية بغرض استثمار ما كتبه لصالحها، لما في هكذا مقاربة من مكاسب تفوق ما يمكن كسبه من معاداته وتكفيره
ويشير الكاتب والناقد المصري جابر عصفور، في مقال بعنوان "قراءة في نقاد نجيب محفوظ"، نشره في مجلة فصول في نيسان/ أبريل 1981، إلى أن "سيد قطب يمتدح نجيب محفوظ للمغزى الديني الخلقي الذي تقدمه خان الخليلي". ويضيف أن قطب "اقتنص عرضاً من أعراض رواية واحدة واستنطقها قيمة خلقية هي نفس القيمة التي جعلته يقول عن كفاح طيبة ‘لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وكل فتاة ولطبعتها ووزعتها في كل بيت بالمجان’ وستدفع هذه القيمة سيد قطب إلى أن يؤكد ‘أن الناقد في الشرق العربي لا ينهض لتصحيح مقاييس الفن وحدها، ولكنه ينهض لتصحيح معايير الأخلاق’".
ملامح إعادة التعريف التي تحدث عنها النهري يمكن استنتاج أنها كانت محاولة لـ"استنطاق" أدب نجيب محفوظ بما يفيد المغزى الديني والأخلاقي.
استثمار نصيحة سيّد قطب
بعد خروجه من السجن، قرر النهري الهجرة إلى الخليج، وفي الكويت عمل مدير تحرير لمجلة "البلاغ" وقدم فيها عدة ملفات. ودفعته رغبته القوية في استثمار نصيحة قطب إلى أن يطلب من الناقد الأدبي والأستاذ في جامعة الكويت حينذاك محمد حسن عبد الله أن يشارك بسلسلة مقالات عن الإسلام في أدب محفوظ. اندهش عبد الله من طلبه وأخبره أنه لا يوجد شيء اسمه الإسلام في أدب نجيب محفوظ، واقترح عليه أن يكتب في "التوجهات أو البنية الأخلاقية في أدب نجيب محفوظ"، فأجابه النهري: "لا مينفعش"، وفقاً لحديث حسن عبد الله في برنامج "أعز الناس"، الذي تبثه قناة "المصرية".
من هذه الرواية، يتضح إصرار النهري على صبغ أعمال محفوظ بالصبغة الإسلامية. وبعدما رفض أن تكون المقالات عن التوجهات الأخلاقية بدون حشر كلمة الإسلام، عاد ووافق عندما أخبره عبد الله بأن المقالات ستكون عن الإسلامية والروحية.
ويحكي عبد الله أن هذه المقالات كانت بذرة لكتابه "الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ"، ويضيف: "كتبت له بضعة مقالات وانتهت العلاقة، لكن أنا لم أتوقف واستمريت في الكتابة في هذا التوجه، وبخاصة إنني بقراءة أدب نجيب محفوظ من منظور الأخلاق الإسلامية والنزعة الروحية، وجدتها متحققة في شخصيته بقوة، وفي كل رواية تقريباً وأحياناً هي الحاكمة للرواية".
وبالرغم من أن حسن عبد الله لا يهدف إلى "وضع نجيب محفوظ بين الكتاب الإسلاميين بالمعنى الضيق لهذا المصطلح"، وفقاً لمقدمة كتابه المذكور، فإن جابر عصفور يعتبر أنه يستكمل خط سيد قطب، وفيه "سنعود لنستمع إلى أقوال هي استمرار للعناصر التكوينية الكامنة عند سيد قطب ولكن هذه المرة بعد عمق واتساع"، لافتاً إلى أنه "بمثل هذه المحاولة يعود نجيب محفوظ إلى حظيرة الإسلام بعد أن كاد يخرج منها".
محفوظ يكذّب النهري
في حديث لجريدة الدستور في آب/ أغسطس 2018، تحدث جمال النهري عن أن شقيقه الأكبر حازم تدخل لاحتواء غضب عبد الحكيم عامر من رواية محفوظ "ثرثرة فوق النيل"، وذلك "بسبب تناولها الأوضاع البوليسية فى البلاد آنذاك"، وقال: "شقيقي حازم كان صديقاً مقرباً من عامر، وتدخل لمنعه من اعتقال نجيب محفوظ، فضلاً عن تدخل الرئيس جمال عبد الناصر نفسه وقوله: إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟".
حاول عبد المنعم أبو الفتوح الإيحاء بأن نجيب محفوظ كان يرغب في التنصّل من روايته "أولاد حارتنا"، وفي تعليقه على أعماله، يظهر أسلوب بديل عن لغة التكفير أساسه الترويج لتراجع محفوظ عمّا أثار حنق الإسلاميين، أي بمعنى آخر: توبته
ولكن نجيب محفوظ كان قد تطرّق إلى المسألة في أحاديثه مع رجاء النقاش التي صدرت في كتاب "نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته"، وشرح أن ثروت عكاشة هو الذي أنقذه من غضب المشير، وأن عكاشة "أكد للرئيس أنني أنبه إلى أخطاء موجودة وليس لدي سوء نية في مهاجمة نظام الحكم، ثم قال له: إن من الضروري أن يتوافر للأدب قدر من الحرية لينقل صورة واقعية حقيقية عن المجتمع وإذا لم يجد الأدب هذا القدر من الحرية مات واضمحل تأثيره، واستطاع الدكتور ثروت عكاشة إقناع عبد الناصر بأن حرية الأدب هي أفضل دعاية للنظام في الخارج، وبالفعل اقتنع عبد الناصر وقال للدكتور ثروت عكاشة: اعتبر المسألة منتهية".
وأيضاً، أبدى محفوظ دهشته من تهديد عامر له وقال: "مصدر دهشتي من تهديد المشير هو أنه لم يراع صداقته القوية بابن أختي وكنت أظن أن هذه الصداقة ستشفع لي ولو قليلاً"، ما يخالف تماماً الرواية التي قدّمها النهري.
مصالحة المثقفين وتلميع الجماعة
لنعد إلى زيارة عبد المنعم أبو الفتوح لمحفوظ ومعايدته بعيد ميلاده. تلك الزيارة لا يمكن فصلها عن سياقات عصرها الذي شهد عقد مؤتمر صحافي لجماعة الإخوان في نقابة الصحافيين لطرح مبادرة سياسية عام 2004 بعد أشهر من تولي مهدي عاكف منصب المرشد العام.
التغيرات التي واكبتها الجماعة حينذاك كانت مرتبطة بتحولات عالمية تجاه المنطقة، لا تعارض وصولها إلى السلطة، خاصة أنها حصدت بعد عام عدداً كبيراً من المقاعد البرلمانية في الانتخابات المصرية.
ويبدو أن أبو الفتوح خطط جيداً لزيارته الخاطفة لمحفوظ والمثقفين، خاصة أنها أتت في ظل ما سمّاه "الجفوة" بين المثقفين والإسلاميين، والتي أعقبت محاولة اغتيال الأديب عام 1994، "فكانت فرصة زيارة الرجل الطيب وتهنئته بيوم ميلاده والحمد لله فرصة كريمة لإزالة غبار كثير نثره المتطرفون العلمانيون والدينيون على السواء"، بحسب مقال له نشره موقع "إخوان أونلاين" في 5 أيلول/ سبتمبر 2006.
في مقاله، أشاد أبو الفتوح بمحفوظ بطريقة تحاول السطو على أدبه، وتسعى إلى الفصل بين جزء حلال منه وآخر حرام. فمن ناحية، حث القراء على إهمال رواية "أولاد حارتنا" وعدم التوقف عندها والنظر إلى روايات أخرى وصفها بأنها "من أعمق وأقوى ما كتب في التوصيف والنقد الاجتماعي للواقع المصري في عصوره المختلفة والتي بها يستحق أن يُوصف بأنه (فيلسوف بلا أعمالٍ فلسفية)".
ومن ناحية أخرى، حاول أبو الفتوح الإيحاء بأن محفوظ كان يرغب في التنصّل من روايته "أولاد حارتنا"، فكتب أن أحد الحاضرين سأل الأديب عن الرواية "فرفض الرجل الطيب بإصرار غريب أي حديثٍ حولها"، ثم نقل عن "أحد الإخوان" أنه "قرأ حواراً للأستاذ نجيب يقول فيه عن هذه الرواية تحديداً: ‘ربما أصبحتُ أكثر نضجاً وأكثر فهماً للحياة، فكل رواية كتبتُها ارتبطت بظروف معينة ومرحلة معينة’". وهنا، بدلاً من لغة التكفير، يظهر أسلوب بديل أساسه الترويج لتراجع محفوظ عمّا أثار حنق الإسلاميين، أي بمعنى آخر: توبته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...