قبل ثلاثة وعشرين عاماً، اتّصل بي الأستاذ الأديب حسين العودات، وقال: "الأستاذ طلال سلمان يريد رقمك".
"طلال سلمان؟ طلال سلمان ما غيرُه؟"، من أنا ليكلّمني طلال سلمان وأنا ما أزال في مطلع حياتي المهنيّة؟
اتّصل الأستاذ طلال -وكنت شديد الارتباك في حديثي معه- ودعاني للكتابة في جريدة السفير قائلاً إنّه قرأ بعض مقالاتي باللغة الإنكليزيّة في جريدة الديلي ستار اللبنانية. شكرته واعتذرت فوراً، لأنّني شعرت أنّ لغتي العربيّة آنذاك لا تليق بصحيفة عريقة مثل السفير، كتب على صفحاتها عمالقة كبار من سوريا والوطن العربي.
قلت في نفسي آنذاك: "بكّير عالسفير"، وقلت للأستاذ طلال: أنا مالي جاهز". رد بمنتهى اللطف قائلاً: "لمّا بتحسّ حالك جاهز، السفير بالانتظار".
كان ذلك عشيّة اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أيلول/سبتمبر 2001. مرّت أربعة عشر سنة على تلك المكالمة، واتّصلت به في تشرين الأول/أكتوبر 2015 وقلت: "هل ما زال العرض قائماً؟". أجاب أنّه "قائم، أهلاً وسهلاً بك في السفير".
تعاون سلمان مع نخبة الكتاب من قوميين عرب وناصريين وشيوعيين وليبراليين، وتصدرت أسماء سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف صفحات جريدته، ومعهم الرسام الفلسطيني الكبير ناجي العلي
كان عملي في "السفير" ولادة جديدة بالنسبة لي؛ تحوّلت بالكتابة من الإنكليزيّة إلى العربيّة. كانت السفير أوّل مطبوعة عربيّة نشرت بها بانتظام، قبل مجلّتَي "الصيّاد" و"المجلّة"، وصحيفتَي "الوطن" و"الأهرام". وظللت أكتب للسفير مرّة كلّ أسبوعين، إلى أن جاء قرار الأستاذ طلال التاريخيّ بإغلاق الصحيفة يوم 31 كانون الأول/يناير 2016. أراد أن تكون افتتاحيّة العدد الأخير هي افتتاحيّة العدد 20 من سنة 1974 نفسها: "يحقّ لنا أن نلتقط أنفاسنا لنقول ببساطة وباختصار وبصدق: شكراً". وأنا أيضاً أقول: "شكراً".
من كمال جنبلاط إلى جمال عبد الناصر
قبل أشهر من اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية ولد طلال سلمان في بلدة شمسطار البقاعية على السفح الشرقي لجبل صنين سنة 1938. كان والده ضابطاً في جهاز الأمن الداخلي اللبناني، وكان عمله يتطلب منه التنقل باستمرار بين المدن والبلدات اللبنانية، ما عرّف ابنه على كل أرجاء الوطن اللبناني الذي كان لا يزال يومها يقبع تحت حكم الانتداب الفرنسي.
إحدى تعينات الأب كانت في قرية المختارة في الشوف، حيث شاهد طلال سلمان زعيمها كمال جنبلاط في إحدى خطبه الجماهرية وأعجب ببلاغته ودفاعه عن القضايا العربية الكبرى، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي أخذت جزءاً من قلب طلال سلمان وعقله، وظلّ مؤمناً بها ومدافعاً عنها حتى الممات.
ناصرياً
بدايات سلمان الصحافية كانت في مجلّة "الأنباء" التي كانت تصدر عن حزب جنبلاط –الحزب التقدمي الاشتراكي– قبل انضمامه إلى جريدة "الشرق" سنة 1956. تأثر بثورة جنبلاط ورفاقه على رئيس الجمهورية بشارة الخوري، احتجاجاً على تمديد ولايته الدستورية في مطلع عهد الاستقلال.
كان في الرابعة عشرة من عمره يوم استقالة بشارة الخوري سنة 1952، وكان مثل كمال جنبلاط شديد التأثر والإعجاب بالثورة العسكرية التي أطاحت بملك مصر، فاروق الأول في تموز/يوليو من العام نفسه، أي قبل استقالة الخوري بأشهر معدودة، وجاءت بعدها بسنتين بجمال عبد الناصر رئيساً لمصر.
شارك في المظاهرات الطلابية التي خرجت في شوارع بيروت تأييداً لعبد الناصر عند تأميمه قناة السويس سنة 1956، وفي العام 1958 شارك جنبلاط وهو في العشرين من عمره في ثورة جديدة، هذه المرة ضد رئيس الجمهورية كميل شمعون -خليفة بشارة الخوري- الذي أغضب مسلمي لبنان بقربه من الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تعتبر يومها العدو رقم واحد للفلسطينيين وللرئيس عبد الناصر.
لم يحمل سلمان السلاح في حياته، واختصرت مشاركته في ثورة عام 1958 بالتظاهر ضد شمعون، احتجاجاً على وصول البوارج الأمريكية إلى شواطئ بيروت لنصرته. وفي هذه السنة المفصلية من تاريخ لبنان والشرق الأوسط، تعرّف سلمان إلى الصحافي الكبير سليم اللوزي، المؤيد أيضاً لعبد الناصر، وانضم إلى أسرة مجلته الشهيرة "الحوادث".
بدأ عمله مع اللوزي مصححاً لغوياً، ثم مسؤولاً عن بريد القراء، قبل تخصيص عمود ثابت له بعنوان "شطحة"، وقيل إن عبد الناصر شخصياً كان يقرأه. عُيّن بعدها سكرتيراً لتحرير "الحوادث". وفي شباط/فبراير 1958 شد الرحال إلى دمشق لمقابلة عبد الناصر عشية ولادة الوحدة السورية المصرية، وكان هذا اليوم التاريخي مفصلياً في حياته، وظلّ يعتز به ويذكره بابتسامة كبيرة حتى الممات.
بين الحوادث والاعتقال
وبعد تجربته الناجحة مع "الحوادث"، انتقل سلمان إلى مجلّة "الأحد" سنة 1960 وعُيّن مديراً لتحريرها، ولكن الأمن اللبناني –المعروف يومها بالمكتب الثاني– قام باعتقاله في شهر آب/أغسطس من العام 1960 بتهمة تهريب السلاح إلى ثوار الجزائر. قضى عشرين يوماً في المعتقل، وخرج ليجد نفسه مفصولاً من العمل، ولكنه سرعان ما حصل على فرصة جديدة في الكويت، عند دعوته لتأسيس مجلّة "دنيا العروبة" التي أصدر عددها الأول يوم 25 شباط/فبراير 1963.
إطلاق السفير سنة 1974
عاد بعدها إلى بيروت مديراً لتحرير مجلة "الصيّاد" العريقة، وبعد نضوج تجربته الحياتية والصحافية قرر الاستقلال والانفراد بصحيفة خاصة به، بدعم مالي مع العقيد الليبي معمر القذافي. ولدت جريدة السفير من رحم كلّ هذه التجارب الزاخرة بالأحداث والمواقف، وصدر عددها الأول من بيروت في صباح يوم 26 آذار/مارس 1974.
ظلّت جريدته تصدر طوال سنوات الحرب الأهلية دون انقطاع إلى أن أجبرت على التوفق لأسباب مالية، ومع ذلك، رفض المحارب العتيق التقاعد أو السكوت، وظلّ يكتب مدافعاً عن القضايا الكبرى التي أمن بها طوال حياته
تضمن العدد الأول مقابلة مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وكان شعارها: "جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان". ومن يومها الأول اتخذت السفير خطاً عروبياً واضحاً –لم يتغير طيلة حياتها وحياة صاحبها–؛ خطّ للشعب الفلسطيني ومناهض لإسرائيل. كما أنها عارضت أنور السادات الذي خلف عبد الناصر في رئاسة مصر سنة 1970 وعنونت عددها الصادر بعد زيارته إلى القدس سنة 1977: "الساقط عند المغتصب".
مع ناجي العلي
تعاون سلمان مع نخبة الكتاب من قوميين عرب وناصريين وشيوعيين وليبراليين، وتصدرت أسماء سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف صفحات جريدته، ومعهم طبعاً الرسام الفلسطيني الكبير ناجي العلي –صديق طلال سلمان وصاحب شخصية حنظلة– الذي اغتيل في أحد شوارع لندن سنة 1987.
وعند إنتاج فيلم سينمائي عن حياته سنة 1992، ظهرت شخصية طلال سلمان على الشاشة ولعب دوره الممثل اللبناني ماجد الأفيوني. وفي ذكره استشهاد العلي قبل عام من وفاة سلمان، يوم 29 آب/أغسطس 2022، كتب الأخير على صفحته على الفيسبوك: "تحية لرفيق سلاح لا يموت. ناجي العلي معنا: الأمس، اليوم، وكل يوم".
لم يكن مقتل ناجي العلي مفاجأ بالنسبة لطلال سلمان، فهو كان يعرف ثمن الدفاع عن القضية الفلسطينية، وقد دفع ثمن قبله عندما تعرضت مكاتب السفير في منطقة الحمرا لتفجير إرهابي سنة 1980، وبعدها بعام، نجا هو من محاولة استهداف منزلة وفي تموز/يوليو 1984 أصيب بجروح في محاولة اغتيال فاشلة.
كل ذلك لم يسكت طلال سلمان، لا بل زاده تصميماً وجرأة، وظلّت جريدته تصدر طوال سنوات الحرب الأهلية دون انقطاع إلى أن أجبرت على التوفق لأسباب مالية –مثلها مثل كبرى الصحف والمجلات العالمية– نهاية العام 2016. ومع ذلك، رفض المحارب العتيق التقاعد أو السكوت، وظلّ يكتب باستمرار في مدونة إلكترونية حملت اسمه، مدافعاً عن القضايا الكبرى التي أمن بها طوال حياته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...