شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عندما عملت في كي إف سي... تعرفت على العبودية العصرية في أوروبا

عندما عملت في كي إف سي... تعرفت على العبودية العصرية في أوروبا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الأحد 27 أغسطس 202303:01 م


منذ مطلع العام الحالي، قررت التوقف عن الكتابة والبدء بالبحث عن عمل مختلف وخاصةً أنني وأخيراً قد وصلت إلى أوروبا، ولم لا أقوم بخوض التجربة الأوروبية فأبدأ من الصفر كعامل في مقهى إلى أن أصبح مليونيراً وأموت فأورث ما لدي لابن ابن أختي الذي لم يسمع بي من قبل!

في بداية الأمر، جلست على مكتبي وجهزت سيرتي الذاتية ورسالة الدافع وبدأت بتصفح مواقع ووكالات العمل المتواجدة في دولة هنغاريا، وبدأت ألقي بهم هنا وهناك آملاً أن أحصل على أية فرصة قد أجدها غير آبه بصعوبة العمل أو ظروفه، فمن خرج من سوريا لا تهمه الظروف بعد اليوم.

هذا ما ظننته! لكنني لم أكن أعلم أنني على موعد مع نظام استعباد جديد.

قررت أن أخوض التجربة الأوروبية، فأبدأ من الصفر كعامل في مقهى إلى أن أصبح مليونيراً وأموت فأورث ما لدي لابن ابن أختي الذي لم يسمع بي من قبل!

بعد ستة آلاف وأربعة وستون إيميل رفض، أتى الفرج!

إيميل يحتوي على موعد مقابلة مع مديرة أحد أفرع المطاعم الأمريكية الشهيرة كي إف سي..

لبست أفضل ما لدي وذهبت للمقابلة وبالفعل حصلت على العمل. بعد أن قرأت المديرة سيرتي الذاتية وسألتني لثلاثة مرات متتالية إن كنت متأكداً من رغبتي في التقديم على مطعم وجبات سريعة وأنني بكامل قواي العقلية!

حصلت على العمل ووقعت العقد مع أن الأجر يكاد يكون معدوماً وبعد دفع الضرائب سيصل إلى ما دون الحد الأدنى للرواتب! ولكن من يهتم فقد وعدتني هذه المديرة بأنه مجرد عمل بسيط في مطعم وجبات سريعة.

في أول يوم عمل، استلمت ملابسي التي تكاد تشبه ملابس عمال السكك الحديدية وباشرت بالعمل في المطبخ الذي يلقبه العمال بالكابوس.

ثمانية ساعات متواصلة من العمل تخللتها استراحة غداء غير مدفوعة، حصلت فيها على وجبة كي إف سي تكاد لا تشبع عصفوراً، تتضمن ثلاثة قطع "ستريبس" وكيس صغير من البطاطس المقلية فقط لا غير. وقد تناولتها عند الساعة التاسعة صباحاً مجبراً لأنه من غير المسموح أخذ استراحة غداء ضمن فترة الغداء لأنها تعتبر من الساعات المزدحمة في المطعم وعلى جميع العاملين الاستنفار.

ثمانية ساعات من العمل، تخللتها استراحة غداء غير مدفوعة، حصلت فيها على وجبة كي إف سي، تتضمن ثلاثة قطع "ستريبس" وكيس  من البطاطس فقط لا غير.

وبعد أن انتهت وردية العمل كنت قد استنزفت كامل طاقتي وتوشحت بالأبيض من رأسي إلى أخمص قدمي من الطحين الممزوج بعصارة الدجاج والذي بات قوامه على جسدي كالاسمنت.

استبدلت ملابسي وتوجهت لأسلمهم لإدارة المطعم كي يتم غسلهم وتجهيزهم لوردية الغد، لكنني فوجئت بأن مهمتي أن أغسل ملابسي في المنزل.

عدت للمنزل وغسلت ملابسي، وعلقتهم على منشر الغسيل مصلياً أن تجف  قبل مجيء صباح الغد فنحن في الشتاء والحرارة تقارب الصفر.

وكما توقعت، استيقظت في الصباح وملابسي لا تزال رطبة، خرجت في ذلك البرد القارص أتقوقع على نفسي لا أريد سوى الوصول إلى ذلك المطبخ عل جحيمه يدفئني قليلاً.

ولكن حين وصلت حدث ما لم أتوقعه، أخبرتني المديرة أن اليوم هو دوري في غرفة البراد! لأقضي بعدها ثمانية ساعات في غرفة البراد في درجة حرارة سبعة تحت الصفر، أحمل صناديق الدجاج التي يبلغ وزنها قرابة الخمسين كيلو غراماً.

وبما أنهم يتبعون نظام " فيرست إن فيرست آوت"، أي أن البضائع التي تدخل أولاً عليها أن تخرج أولاً، فكان علي ترتيب صناديق الدجاج على الأرفف مجدداً، وبما أن كل رف يستطيع حمل سبعة صناديق فكان علي إنزال سبعة صناديق لترتيبها ورفعها مجدداً بالترتيب! أي علي أن أحمل الصندوق بدل المرة أربعة عشرة مرة.

وكل ذلك ضمن درجة حرارة سبعة ما تحت الصفر وعصارة الدجاج التي تتسرب من الصناديق تنزل على رأسي.

أخبرتني المديرة أن اليوم هو دوري في غرفة البراد. لأقضي بعدها ثمانية ساعات في درجة حرارة سبعة تحت الصفر، أحمل صناديق الدجاج التي يبلغ وزن واحدها قرابة الخمسين كيلو غراماً

أنهيت عملي ذلك اليوم واضطررت للعمل لساعة إضافية كي أنظف عصارة الدجاج اللزجة عن الأرض، وأنظف ما خلفته من آثار أقدام نتيجة العمل المتواصل لثمانية ساعات، لتأتي المديرة وتوبخني بعد أن اكتشفت وجود بعض الأوساخ في الزوايا العميقة دون أن تتذكر أنهم لا يملكون في جميع مطاعم كي إف سي، سوى ممسحة ومكنسة ضخمتين للغاية غير مناسبتين لتنظيف الزوايا والأرضيات الضيقة! لكن على العمال أن يتدبروا أمرهم في التنظيف والعديد من المهام الأخرى.

عدت يومها إلى منزلي ولا أذكر سوى أنني خلعت ملابسي وخلدت للنوم دون حتى أن أغتسل أو أغسل ملابسي، فلم أكن يومها قادراً حتى على رفع يدي.

لأستيقظ في منتصف الليل أرتجف برداً وحرارتي تقارب الأربعين، بوضع يكاد يرثى له، والكارثة أنني أعيش وحيداً ولم أكن قادراً حتى على الوصول لخزانتي كي أرتدي ما أستطيع من ملابس إضافية.

كل ما استطعت فعله هو أن أمسك هاتفي وأرسل إيميلاً يتضمن اعتذاري عن العمل غداً لشدة مرضي، ليأتيني الرد في الصباح الباكر بالموافقة ولكن مقابل خصم خمسة آلاف فورنت من راتبي!

وخمسة آلاف فورنت هي تقريباً تعادل 55% من أجرتي اليومية والتي تبلغ تسعة آلاف فورنت، والتي تعادل 24 يورو تقريباً، وقد يبدو لكم هذا المبلغ كبيراً لكن من يعيش في أوروبا عموماً وفي هنغاريا خصوصاً يعلم جيداً أن هذا المبلغ لا يكفي شيئاً، مع العلم أنني قانونياً لا يحق لي بالعمل أكثر من ثلاثة أيام في الأسبوع.

كانت هذه هي القشة التي قسمت ظهر البعير بالنسبة لي، وحينها علمت أنني لست مناسباً لهذا النوع من الأعمال، مما دفعني للذهاب بعد ثلاثة أيام وتقديم استقالتي، والذي أدى إلى خصم خمسة آلاف فورنت أخرى! بحجة أنني لم أعطهم مهلة مسبقة، والذي يعتبر أمراً غير قانوني، فبصفتي طالباً يحق لي بالقانون المجري أن أترك أي عمل دون أن أعطي أية مهلة.

وهذا ما يدفعني للتساؤل، أن شركة مثل كي اف سي التابعة لمجموعة آمريست المالكة لكل من كي إف سي وستاربكس وبيتزا هوت وغيرها من الشركات، وتبيع منتجاتها بأسعار موحدة ضمن كامل أوروبا، ومع أنها تستفيد من اختلاف أسعار العقارات واختلاف الضرائب بين البلدان، فمثلاً هنا في هنغاريا، أسعار العقارات والأراضي تعتبر منخفضة جداً مقارنة بغيرها من البلدان كما أن ضرائبها تعتبر متوسطة نسبةً لغيرها من البلدان الأوروبية، عدا عن أن القانون الهنغاري يعفي أي شركة من ضرائب استيراد الأجهزة والمواد والمعدات إن كانت للشركة بهدف التشغيل، فلماذا لا تعطي هذه الشركة أجوراً عادلة؟


هل من العدل أن أكون مضطراً للعمل لثلاثة ساعات كي أستطيع جمع سعر وجبة واحدة من المطعم الذي أعمل فيه؟

هل من العدل أنني مضطر للعمل لثلاثة ساعات كي أستطيع جمع سعر وجبة واحدة من المطعم الذي أعمل فيه، كي أستطيع متابعة العمل في ذات المطعم! أليس من حق الموظف أن تكون استراحة غدائه مأجورة؟ أليس بإمكانهم توظيف عمال تنظيف؟ ألا يمكنهم توفير غسالة ملابس ومجففة ملابس للعمال؟

أم أن مثل هذه الشركات بنيت واستمرت وستستمر على نظام العبودية طالما الحكومات صامتة عن هذه التصرفات؟

لا يسعني إلا أن أقدم تعاطفي الشديد وتضامني الكامل، مع كل إنسان مضطر للعمل في مثل هكذا شركات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

"نؤمن في رصيف22، بأن متابعة قضايا العرب خارج العالم العربي، في المهجر/ الشتات/ المنفى، هي أيضاً نظرة إلى أنفسنا، وإلى الأسباب التي اضطر -أو اختار- من أجلها الكثيرون إلى الهجرة بحثاً عن أمانٍ في مكانٍ آخر، كما أنها محاولة للفهم وللبناء وللبحث عن طرائق نبني بها مجتمعات شاملةً وعادلةً. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image