من البرغر والبيتزا وصولاً إلى الشوكولا والشيبس وغيرها، الكل يعلم أن مثل هذه الوجبات السريعة هي خيار غير صحي على الإطلاق، بخاصة وأن سوء التغذية مرتبط بأمراض القلب والسمنة والسكري وارتفاع ضغط الدم، ومجموعة من المشاكل الصحية الأخرى، حتى أن الدراسات كشفت عن وجود رابط ما بين الطعام الغني بالدهون والسعرات الحرارية بمرض الاكتئاب.
ولكن إذا كان الأمر سيئاً إلى هذا الحدّ، لماذا نستمر في تناول الوجبات السريعة التي تُعرف أيضاً بالـ"جانك فود"؟ وهل يصل شغفنا بهذه الأطعمة إلى درجة الإدمان؟
الإدمان على الوجبات السريعة
في الستينات، أصدرت شركة Lay’s إعلاناً تحفز من خلاله المشاهدين/ات على شراء منتجات رقائق البطاطا الخاصة بها، عن طريق استخدام جملة "لن تستطيع مقاومة أكل قطعة تلو الأخرى".
وبناء على ذلك، قام العديد من الباحثين بمحاولة درس وتفسير العلاقة بين إدمان الوجبات السريعة وإدمان المخدرات.
وللمرّة الأولى، وثّقت دراسة علميّة وجود عوارض إدمانية عند الأشخاص الذين اعتادوا على تناول مأكولات الـ"جانك فود"، بحيث تبيّن أن الذين يقررون الامتناع عن هذه المأكولات المضرّة، يعانون أعراضاً تشبه أعراض الذين يحاولون التوقّف عن مواد إدمانية، وهي تسمّى أعراضاً انسحابيّة Withdrawal Symptoms، تشمل: تقلّبات حادة في المزاج، التوق الشديد لمعاودة استهلاك هذه الأطعمة، التوتر، الصداع واضطراب النوم.
وبالتالي، اتضح أن الوجبات السريعة تتسبب بحدوث "بركان من الفوضى" داخل الجسم، بنفس الشكل الذي تؤثر به المخدرات على أعضاء الجسم الداخلية.
عوامل الإدمان
أجرى الباحثون في كلية الطب في جامعة مينيسوتا، دراسة على 600 شخص ممن يترددون على مطاعم الوجبات السريعة بكثرة، وأبلغ معظمهم عن تناولهم وجبات سريعة 3 مرات على الأقل في الأسبوع، وبعد كل مرة كانوا يقيمون 11 سبباً لتناولهم تلك الوجبة، بالنفي أو الإيجاب، لمدة عام كامل.
أما النتيجة فجاءت على الشكل التالي: 92.3% كشفوا أنهم تناولوا وجبات سريعة لأنها خيار سريع، 80% لأنها أطعمة يسهل الوصول إليها، 69% بسبب مذاقها اللذيذ، 53% وجدوها خياراً أنسب بسبب الانشغال، أما بقية الأسباب تراوحت بين نسب أقل، مثل كونها طقساً عائلياً أو للاستمتاع بالوقت مع الأصدقاء.
وثّقت دراسة علميّة وجود عوارض إدمانية عند الأشخاص الذين اعتادوا على تناول مأكولات الـ"جانك فود"، بحيث تبيّن أن الذين يقررون الامتناع عن هذه المأكولات المضرّة، يعانون أعراضاً تشبه أعراض الذين يحاولون التوقّف عن مواد إدمانية
وعليه، تلخصت النتائج بين من يعتبر هذه الوجبات السريعة خياراً مناسباً لكونها سريعة وتجلب الشعور بالراحة، في حين أن البعض اعتبر أنها تجسد المرح والتواصل مع الآخرين، إلا أن هذه الأسباب ليست دقيقة تماماً.
ففي الواقع، أمضى العالم ستيفن ويذرلي، حوالي 20 عاماً في دراسة ما يجعل بعض الأطعمة أكثر لذة وإدماناً من غيرها.
وفي بحثه الذي صدر بعنوان Why Humans Like Junk Food "لماذا يحب البشر الوجبات السريعة"، أوضح ويذرلي أن هناك عاملان يجعلان تجربة الطعام ممتعة:
أولاً: هناك شعور يصاحب تناول الطعام نفسه، وهذا يشمل مذاقه "مالح، حلو..."، رائحته وكيف تشعرون به في أفواهكم، واللافت أن هذه الميزة الأخيرة المعروفة بـorosensation "الإحساس الفموي" هي ذات أهمية خاصة، وهي التي تجعل مثلاً شركات المواد الغذائية تنفق ملايين الدولارات لاكتشاف المستوى الأكثر إرضاء في "قرمشة" رقائق البطاطا، أو التي تدفع العلماء لاختبار الكمية المناسبة من "الرغوة" في الصودا.
أما العامل الثاني فيكمن في التركيبة الفعلية للمغذيات الكبيرة، أي المزج بين البروتينات والدهون والكاربوهيدرات التي تحتوي عليها هذه الأطعمة.
فبالنسبة للوجبات السريعة، يبحث المصنّعون عن مزيج مثالي من الملح والسكر والدهون التي تثير دماغكم، وتجعلكم ترغبون بالمزيد من هذه الأطعمة، وفق ما أكدته الأخصائية في علم التغذية، أماندا شعلان، والتي أشارت لموقع رصيف22 إلى أن بعض الأطعمة تحتوي على نسبة من السكر المخفي، بالإضافة إلى monosodium glutamate "غلوتامات أحادي الصوديوم"، وهو عبارة عن ملح يُضاف إلى بعض وصفات الأطعمة لتحسين مذاقها، إلا أن تأثير هذه الإضافات مضرّ بشكل كبير للصحة.
كيف تم خلق الرغبة الشديدة تجاه "الجانك فود" على مرّ السنين؟
بعد مئات الآلاف من السنوات التي قضاها الإنسان القديم في الصيد والبحث عن الطعام في البرية، تطور الدماغ البشري وأصبح يولي أهمية للأملاح والسكريات والدهون، وهي أطعمة غنية بالسعرات الحرارية، كانت نادرة أيام أسلافنا.
واليوم، وبالرغم من أننا نعيش في بيئة غنية بالطعام "الدسم"، إلا أن الدماغ البشري لا يزال يتعامل مع الطعام كما لو كان شحيحاً، أما الرغبة في الوجبات السريعة فتزداد، لأن مراكز المكافأة في الدماغ لم تتغيّر على مدى 50 ألف عام تقريباً، من هنا تعتمد صناعة الأطعمة الحديثة على التوسع في غرائز العصر الحجري.
الأطعمة التي تعزز سيل اللعاب، "ترقص" بفرح في دماغكم، ويكون مذاقها أشهى من غيرها
واللافت أن هناك مجموعة من العوامل التي يستخدمها العلماء ومصنعو الأغذية لجعل الطعام أكثر إدماناً، من بينها:
التباين الديناميكي: يشير التباين الديناميكي إلى مجموعة من الأحاسيس المختلفة في نفس الطعام، على غرار القرمشة والقوام.
وفي هذا الصدد، أوضح ستيفن ويذرلي، أن الأطعمة ذات "التباين الديناميكي" تتميز مثلاً بالقوام الطري للجبن الذائب فوق عجينة البيتزا المقرمشة، وهذه القاعدة تنطبق على مجموعة واسعة من الأطعمة التي يجد الدماغ صعوبة في مقاومتها.
الاستجابة اللعابية: يُعد اللعاب جزءاً من تجربة تناول الطعام، وكلما تسبب الطبق في سيل اللعاب كلما "سبح" مذاقه في جميع أنحاء الفم، وأشبع براعم الذوق الخاصة بكم، فالأطعمة المستحلبة مثلاً مثل الزبدة، الشوكولا، الآيس كريم، صلصة السلطة والمايونيز، تعزز استجابة اللعاب وتساعد على إشباع براعم الذوق، وهذا من بين الأسباب التي تجعل الكثير من الأشخاص يستمتعون بالأطعمة التي تحتوي على الصلصات.
والنتيجة أن الأطعمة التي تعزز سيل اللعاب، "ترقص" بفرح في دماغكم، ويكون مذاقها أشهى من غيرها.
الذوبان في الفم: إن الأطعمة التي "تختفي" بسرعة أو "تذوب" في الفم، ترسل رسالة الى دماغكم مفادها بأنكم لا تأكلون بقدر ما تأكلون بالفعل، بمعنى آخر، فإن هذه الأطعمة تخبر دماغكم بأنكم لستم متخمين، على الرغم من أنكم تناولتم الكثير من السعرات الحرارية، والنتيجة: تميلون الى الإفراط في تناول المزيد من الطعام.
في كتابه Salt Sugar Fat، وصف المؤلف مايكل موس مسألة "تلاشي" السعرات الحرارية من خلال سرد محادثة مع ستيفن ويذرلي، فقال: "أحضرت له حقيبتين مليئتين بمجموعة متنوعة من رقائق البطاطا، فركز ويذرلي على الشيتوس وقال: هذا واحد من أكثر الأطعمة التي تم إنشاؤها بشكل رائع على هذا الكوكب، من حيث المتعة الخالصة". وبدأ بالكشف عن اثني عشر من صفات الشيتوس التي تجعل الدماغ يرغب فيها أكثر، لكن أكثر ما ركز عليه هي قدرة هذه الرقائق على الذوبان في الفم، قائلاً: "إذا ذاب شيء بشكل سريع، فإن دماغكم يعتقد أنه لا يوجد سعرات حرارية فيه، يمكنكم الاستمرار بتناوله إلى الأبد".
الاستجابة الحسية: الدماغ البشري يحب التنوع، وعندما يتعلق الأمر بالطعام فإن تجربة المذاق نفسه مراراً وتكراراً يجعل المتعة أقل، من هنا تم تصميم الأطعمة السريعة بشكل يسمح لها بتوفير مذاق مثير للاهتمام بشكل لا يتعب الدماغ من تناولها، وهذا هو السبب الذي يجعلكم مثلاً تبتلعون كيساً كاملاً من الشيبس، ولا تزال لديكم رغبة في تناول كيس آخر، فبالنسبة لدماغكم، إن قرمشة وإحساس أكل هذه الرقائق هو أمر مثير للاهتمام في كل مرة.
ذكريات تجارب الأكل السابقة: هناك دوافع نفسية تدفعكم إلى الرغبة في تناول المزيد من الوجبات السريعة، فمثلاً عندما تتناولون شيئاً لذيذاً كقطعة بيتزا، فإن عقلكم يسجل هذا الشعور، وفي المرة التالية التي ترون فيها هذا الطبق أو تشمون رائحته أو حتى تقرؤون عنه، فإن دماغكم يبدأ في إثارة الذكريات الجميلة والاستجابات التي أتت عندما التهمتم قطعة البيتزا هذه.
التخلص من الإدمان
تنفق شركات الأغذية ملايين الدولارات لخلق حالة من "الإدمان" تجاه الأطعمة المشبعة بالدهون والسعرات الحرارية، وبالتالي فإن السؤال الذي يتبادر إلى أذهان البعض: هل هناك من طريقة للوقوف بوجه عالم صناعة الوجبات السريعة؟
أظهرت الأبحاث أنه كلما انخفض تناول الوجبات السريعة، كلما انخفض الشغف بها.
يصف بعض الناس هذه الفترة الانتقالية بـ"إعادة برمجة الجينات"، والتي تتمثل بالبدء بإيجاد طرق لتناول الطعام الصحي، الأمر الذي يخفف من الرغبة الشديدة في طلب الطعام السريع.
كلمة "جانك" الواردة في مصطلح "جانك فود" تعني في اللغة العربية القمامة والخردة، وهي تسمية يبدو أنها لم تأت عبثاً
إليكم بعض الاستراتيجيات التي يمكن اتباعها للتخلص من الإدمان على الوجبات السريعة والخيارات غير الصحية:
التسوّق بذكاء: أفضل مسار للعمل هو تجنب شراء الأطعمة المصنعة والمعلبة، واستبدالها بالخيارات الصحية "الفواكه، الخضروات، اللحوم والبيض وما إلى ذلك".
هذا ويمكنكم أيضاً اتباع "قاعدة المكونات الخمسة" عند شراء الأطعمة من المتجر، أي في حال كان هناك شيء يحتوي على أكثر من خمسة مكونات، فلا تشتروه.
تناول مجموعة متنوعة من الطعام: كما ذكرنا سابقاً يتوق الدماغ إلى التنوع، ما يعني أنه بالإمكان تغيير النظام الغذائي بشكل مستمر لإبقاء الأشياء مثيرة للاهتمام، كما أن إيجاد طرق لإضافة توابل ونكهات جديدة إلى أطباقكم يمكن أن يجعل تناول الأطعمة الصحية تجربة مرغوبة أكثر.
والواقع أن الأكل الصحي لا يجب أن يكون مملاً، فحاولوا أن تمزجوا الأطعمة للحصول على أحاسيس مختلفة، وهذا يبقى أفضل من تناول نفس الأطعمة مراراً وتكراراً.
اعثروا على طريقة أفضل للتعامل مع الإجهاد: يلجأ الكثير من الناس إلى الأطعمة غير الصحية عند الشعور بالضغط النفسي، إذ إن الإجهاد يتسبب بقيام مناطق معيّنة من الدماغ بإطلاق مواد كيميائية تعزز الرغبة في تناول الأطعمة الدهنية والسكريات، وبالتالي إذا كنتم تعيشون أياماً صعبة، فلا تدخلوا في دوامة الطعام المضر، بل ابحثوا عن طرق من شأنها كسر هذه الحلقة، والتعامل مع الإجهاد بطرق مختلفة، مثل ممارسة الرياضة وتقنيات التنفس.
في الختام، لا بدّ من الإشارة إلى أن كلمة "جانك" الواردة في مصطلح "جانك فود" تعني في اللغة العربية القمامة والخردة، وهي تسمية يبدو أنها لم تأت عبثاً، وفق قول اولئك الذين يميلون إلى الأطعمة الصحية ويجدون في الوجبات السريعة "سمّاً قاتلاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...