حين يستغنون عن خدماتك في العمل، وهو مرادف حضاري ملطّف لكلمة "يطردونك"، حتى وإن أرفقوا القرار برسالة شكر واعتذار، وأكدوا أنه وليد حسابات الربح والخسارة، فلن يخفّف الكاتو الرخيص الذي اشتراه الزملاء السابقون، بحسب التسمية الرسمية الجديدة، من أقرب سوبر ماركت، ألم الرضّ الذي تخلّفه فكرة انضمامك الفجائي إلى جماعة كنت تظن نفسك في منأى عنها، جماعة العاطلين عن العمل، ولا حتى زجاجة النبيذ التي تكرّم المدير شخصياً بجلبها. إنها صدمة الاقتران المباغت بمفهوم العطالة نفسه، بـ "القصور الذاتي"، حسب تعريف علم الفيزياء. لقد أصبحت عاطلاً، لا نفع يرجى منك، ولا حتى ضرر.
صدمة، غضب، ثم خيبة، ثم شعور ثقيل بالغبن، ثم نقمة لئيمة، ثم اقتراب حرج من الدخول في النفق الخطير لرثاء الذات. مشاعر اختبرتها بالتفصيل وبعمق كما يجدر بي، لكنها ليست إلّا استسهالاً مترفاً لباقي المترتبات، فهناك البديهيات التي يعرفها الجميع: أقساط المنزل والسيارة والتأمين، المدارس، النادي، تلاشي حلم سفرة، الإجازة، والانهيار الفوري لخطط مستقبل بوضع مادي مريح، انحدار وعر في الحساب المصرفي والمستوى المعيشي، وعودة غير مظفرة إلى متاهة البحث عن عمل... وهنا لا بد أن مصاريف طارئة ستنقض عليك بالطبع لتلتهم ما انتشلته بصعوبة من أنياب ومخالب عالم مادي متوحش التطلّب.
وإذا كان نظام الضمان الاجتماعي في بريطانيا، حيث أعيش، يحمي من الجوع والتشرد ويقدم العلاج المجاني، فهو بالفعل لا يتعدّى ذلك، وبعد سنوات طوال من دفع ضرائب تشكل ثلث دخلك تقريباً، يكون عليك تسول مساعدات زهيدة بالكاد تكفي لسد الرمق، ثم ليس هناك ما يبهج القلب في وصف "يعيش على المساعدات".
حين يطردونك من العمل، فإنهم يشقّون عنك غلافاً من النايلون، ضيقاً ومفرغاً من الهواء، وكأنك كنت قطعة لحم، وكأن استكانتك إلى الأمان في عملك لم تكن إلا ثلاجة تؤجل تعفّنك
خلال الأشهر الأولى عليك التوقيع أسبوعياً في مركز العمل، ثم كل أسبوعين، وطبعاً مع تقديم البراهين في كل مرة عن بحثك الجاد عن عمل، وهو أمر أكثر مما أحتمل شخصياً. وسرعان ما تقرّر التضحية بالمبلغ الضئيل على أمل كسبه بطريقة أخرى ما أقل إيلاماً، وبالطبع هذا لفترة مؤقتة وقصيرة فقط، قبل فوزك بوظيفة جديدة بمرتب أعلى وشروط أفضل، كما يوسوس لك شيطان أحلامك. لكن شيطانك للأسف، مثل سائر أقرانه، مضللٌ أفّاق.
حسناً، لابد من جوانب إيجابية للأمر، لمَ لا نقول مثلاً: حين يطردونك من العمل، فإنهم يشقّون عنك غلافاً من النايلون، ضيقاً ومفرغاً من الهواء، وكأنك كنت قطعة لحم، وكأن استكانتك إلى الأمان في عملك لم تكن إلا ثلاجة تؤجل تعفّنك، مؤكدة في الوقت نفسك افتقارك إلى الحيوية والحياة، أو إنهم يطلقون سراحك من سجن في غرف سيئة التهوية، وخلف أبواب لا تفتح إلّا ببطاقة إلكترونية، تُسجل عليكَ لحظة دخولك وخروجك، وعدد مرات استجابتك لنداء الطبيعة.
حسنا، يمكنك الآن أن تفرد ظهرك الموجوع جراء جلوسك الطويل على كرسي غير مريح خلف الكومبيوتر، وقد تقول وداعاً لآلام الرقبة وتصلّب الكتفين، ومسكنات وجع الرأس، وفيتامين سي الفوار الذي يفترض أن يبقيك صاحياً حين يداهمك نعاس لجوج.
ستمنحك الطبيعة والحدائق من جمالها المجاني (الكلمة التي أصبحت أقدرها كثيراً) بلا حساب. ستتسكع في دروب اشتقت إلى صباحاتها. مقاهي الرصيف ستصبح مرتعك، لم تعد ملتزماً بوقت استراحة الغداء، يمكنك أن ترتشف قهوتك بتمهل في حضور شمس الخريف الغالية، بل وشمس الشتاء الأغلى، وشمس الربيع، وشمس الصيف... كل الشموس لك. وسيخيل إليك بعد أن بت حراً من قيود (عطية) آخر الشهر، أنك ستزور كل المدن التي حلمت بالسفر إليها ومنعك عنها شحّ الإجازات. مدن أصبحت تعرف شوارعها ومتاحفها ومعالمها، وتكاد تقول ناسها، لولا أن صديقك الأقرب غوغل مجبر على تمويه وجوه العابرين حماية لخصوصياتهم.
ثمة فرصة في اللا فرصة، فرصة للقاء مرتقب منذ زمن طويل مع نفسك.
أنت حر! هل يستهان بهذا؟ عقلك لك... يلهو، ينام، يغني، يطير، يحلق…. إنه لك، لقد فُسخ العقد بينك وبين الشركة التي تدفع لك مقابل الاستحواذ على عقلك وأفكارك.
الأصدقاء، والحياة الاجتماعية الغنية، وربما العاطفية. كل ما سرقته منك ساعات العمل الطويلة والإجهاد الذي كان يتركك خائراً كشجرة مفرغة من النسغ، ستستعيده الآن. لكن عليك التحرّك ضمن بيئة حاضنة، وهي مجتمع العاطلين مثلك. ولكن ثمة طبقات: الأغنياء، وهم الذين كنت تتعلّل بالعمل حين تأتيهم في اللقاءات المتباعدة ببنطال جينز وحذاء قديم مريح، بينما هم يرفلون في أناقتهم، فما هو عذرك اليوم وقد اتسعت الهوة؟ أو الذين يعيشون على إعانات الحكومة، وهؤلاء هم الساخرون بمرارة، أخصائيو التشكي ولوم الأيام. وهي صورتك أنت أيضاً وإن كابرت في إنكارها.
هناك أيضاً الأمهات المشغولات دائماً، وإن خرجن فبرفقة أحباب الله، أطفالهن، المستعدين دائماً للانفجار بالصراخ كقنبلة موقوتة.
الأصدقاء الذين كنت تعتبر أن بينك وبينهم وحدة حال، ما زالوا في وظائفهم، ولقاءاتهم كالعادة عقب الدوام، وفي مكان قريب من مكاتبهم، وغالباً بدون تخطيط مسبق، فهل تلومهم إن نسوا إخبارك؟ ونشاطاتهم الأخرى غالباً ما يخطط لها خلال لقاءات ما بعد العمل والتي لم تعد تحضرها. ليس من قصد سيء في إغفال دعوتك. يمكنك أن تبادر وتتصل بهم، وبحديث سريع مقتضب سيحدّدون الموعد والمكان، طبعاً القريب من مكان عملهم، والبعيد عن سكنك، فهم الفقراء إلى الوقت، وأنت الغني بامتلاكه كله.
ستمنحك الطبيعة والحدائق من جمالها المجاني بلا حساب. ستتسكع في دروب اشتقت إلى صباحاتها. مقاهي الرصيف ستصبح مرتعك، يمكنك أن ترتشف قهوتك بتمهل في حضور شمس الخريف الغالية، بل وشمس الشتاء الأغلى، وشمس الربيع، وشمس الصيف... كل الشموس لك
ثمة مهارات مكتسبة سيتيح لك وضعك الجديد تطويرها، من قبيل التكهن بلحظة تحرك النادل حاملاً فاتورة الحساب، فتنهض بسرعة لإجراء مكالمة ضرورية، أو تذهب بالصدفة إلى الحمام. لكن، ولأن الحماقة أعيت من يداويها، مرّة ما ستقفز فجأة كجندب رشيق، وتخطف ورقة الحساب، وتحلف بكل ما تعرف من أنبياء، أن الدفع اليوم عليك، رغم كثرة عدد المجتمعين، وتماديهم اليوم خصيصاً بالطلبات، رافضاً ولو على دمك، فكرة تقسيم المبلغ على الجميع. من الذي دفعك لتمدّ يدك لتخطف الفاتورة؟ من وضع الكلام على لسانك؟ لماذا لم يردعك محب؟ أسئلة مفتوحة، ولا من جواب يقيك السقطة. إنه الكبرياء! قبّحه الله.
من لديه مشاريع بقدر مشاريعك المؤجلة من حسن حظه أن يترك العمل. ستقرأ، ستكتب، ستنهي القصائد المبتورة، ستمارس الرياضة، ستعيد إنتاج حياتك، ستبحث عن المعاني التي فاتتك… ستعتني بمن تحب، سترتب البيت، ستصلح قطع الأثاث بنفسك، ستطلي الجدران، وستحول الحديقة إلى جنة... لو فقط يتركك حرف (السين) الطويل الذي يقف كالعصا في دواليب كافة أفعالك!
سيتصل بك الأوفياء من الأصدقاء لإعلامك بوظيفة شاغرة، وقد تكون في مكتب عقاري، أو كمحاسب في شركة، أو في قسم الموارد البشرية، وظائف لا تمت لخبراتك بصلة، بل إن أحدهم قد يخبرك وجهاً لوجه، وبدون أن يبتسم، عن وظيفة شاغرة كسائق قطار، وستنقلب عربة مزاجك على السكة، وتموت في حلقك الكلمات، ولا تعرف أن ترد سوى بضحكة مجلجلة ساخرة، ليس منه بالتأكيد، وإنما من نفسك.
من الاكتشافات الجديدة بفضل وضعك الجديد، هي أن كل من تعرف من المدراء في مجال عملك لديهم حاسة شمّ ممتازة، شمّ استباقي، وعن بعد، إذ يكفي لأحدهم أن يرى اسمك على شاشة هاتفه، حتى يشمّ رائحة عطالتك، ويتجنّب الرد. وإذا كان أحدهم مصاباً بما منعه من التقاط الرائحة، وقرّر منحك كرم مقابلته بعد الاطلاع على سيرتك المهنية، أو في الحقيقة كان لديه ما يجعله يتظاهر باختبار موظفين جدد، قبل أن يعيّن صديقه/ صديقته (أو أي صفة أخرى مناسبة) الذي اختاره مسبقاً، فقد يطلب منك العمل كتجربة، ولن يشرح لك شيئاً عن طريقة تسيير الأمور، ولن يخبرك ما هو المطلوب منك، سيتركك لتخميناتك، ولن يقول لك أحد إنك أخطأت في ذلك، والصواب هو هذا… وثم، سيختفي هو الآخر، ولن يرد على اتصالك للاستفهام عن قراره، ولن يدفع لك أجر الأيام التي اشتغلتها، ولن يهمه بالطبع أن ميزانيتك المحدودة تنهكها أجرة المواصلات. لا بد أن رائحة عطالتك المزعجة هي السبب، لأنك وأنت تستعيد لعشرات المرات تفاصيل ما فعلته، لن تجد أبداً ما يتلاءم مع هذا الرد - اللارد.
لكن ملكات جديدة أخرى ستتفتح لديك. أهمها الاستغناء. الاستغناء عن الكماليات، ستتعلم تدوير الملابس، وتتخلى عن عادة التزيّن، وستدعك غصن خزامى براحتيك بدل العطر، ستقلع عن شرب القهوة في المقاهي، وتستغني عن عدة أصدقاء في البداية، وثم سيصبحون مجموعة، وإن كنت لن تتمكن من التحديد هنا تماماً من الذي استغنى عن الآخر، وستفكر بالاستغناء عن شريكك العاطفي (استباقياً ودفاعياً)، وستتقبل فكرة إعادة بيتك إلى البنك بعد العجز عن دفع الأقساط، وستباشر بتطوير فكرة العيش البديل، ليصبح العيش افتراضاً كاملاً غير منقوص، إلا من العيش نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...