شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
غزو مسلح وعادي في قلب ضاحية بيروتية محررة

غزو مسلح وعادي في قلب ضاحية بيروتية محررة

سياسة نحن والتاريخ

الجمعة 28 يوليو 202312:49 م

بعد ظهر نهار مسلح ومقامر، السبت في 15 تموز/ يوليو، غزت جماعة مسلحين ينتسبون دماً أو ولاءً إلى آل دمشق، ويقيمون في حي المصبغة، من أحياء الشياح التي كانت مسرح اشتباكات وجبهة ساخنة طوال "حروب" لبنان الداخلية، الأهلية والسياسية، جماعةً مسلحة أخرى، من آل الخليل، تقيم غير بعيد من الجماعة الأولى. وقصد الغزاة محل "تسلية"، على قول لبناني رائج، يتردّد إليه الشباب، من فتيان أهل الحي والأحياء المجاورة.

وأمر الغزاة من يغزونهم، وهم الحاضر في لغة القبائل، أصحاب محل التسلية بغلق محلهم الذي يتستر على أعمال محرّمة، على زعمهم، ومنهي عنها ديناً وأخلاقاً، تصنّف في باب الميسر والرهان والقمار، الإلكتروني واليدوي الآلي. وأرفقوا الأمر المتوقع، وهو سبقته قبل "عشرة أيام" على قول إحدى الصحف اليومية، مفاوضة على الخراج الذي ينبغي أن يؤديه "آل" الخليل، أصحاب مصلحة التسلية ومنتجو العوائد النقدية الكبيرة والمشتهاة، إلى "آل" دمشق، أصحاب السطوة والشوكة والمتربعين في قمة من قمم النفوذ.

والخليليون، وفرعهم الشَّيَّاحي على وجه الدقة- على خلاف فرعهم البرجي (من برج البراجنة القريبة، والأبعد قليلاً إلى الجنوب بمحاذاة مطار رفيق الحريري الدولي)- أعرق عائلات الشياح إقامة، وأكثرها عدداً، وصاحبة منصب رئاسة البلدية تقليدياً، والأسبق إلى التعليم ومهنه مع عائلات محلية أخرى مثل آل كزما وكنج وفرحات، والأوسع تملكاً للعقارات وتغلغلاً في الأنشطة المحلية ومرافق الحياة الاجتماعية. وعلى هذا، فهم "مادة" أولية لأهل القوة والسطوة، على مثال علاقة الرعاة المحاربين، وأهل "الدولة" عموماً، بأهل الزرع.

وصادف أن آل دمشق، وهم مقيمون في حي أو شارع المصبغة وخليطه السكني ونزاعاته الداخلية القديمة، هم من أهل الدولة، على المعنى العثماني. وعميدهم، على دلالتي اللفظة الأسرية (هم "البيت" في الجماعة) والمرتبية العسكرية (الجنرالية)، هو قائد حرس رئيس حركة "أمل" منذ تنحي حسين الحسيني، خالف موسى الصدر بعيد "اختفائه" في ليبيا معمر القذافي وعبدالله السنوسي، ورئيس المجلس النيابي اللبناني منذ 1992 من غير انقطاع. والقرب من "ذي الرئاستين"، والضرب بسيفه، ولو ثلم بعض الشيء منذ انفراد "سماحة السيد" (أمين عام "حزب الله" وخطيبه حسن نصر الله منذ 1992، لحسن المصادفة) بـ"المقاومة" وعسكرها وأمنها ومواردها، هذا القرب في مثابة "سمسم" يفتح أبواباً كثيرة، على الخصوص، إذا كانت الأبواب هذه مدخلاً إلى حدائق خلفية في "بلدة" مثل ضاحية الشياح.

الولاء والجباية

والحق أن موضوع المفاوضة العتيدة التي سبقت الاشتباك المسلح، و"جرم إطلاق النار وإرهاب الناس الآمنين وفتح مكاتب مراهنات من دون ترخيص قانوني" (على ما جاء في بيان بلدية الغبيري- "الشياح")، هو هذا، أي ما يحق لأهل "الدولة"، وهم، في إحصاء صحيفة الأخبار العليمة والمحايدة (في 17 و19/7/2023)، عامر محمد دمشق ويحيى محمد دمشق ويوسف عباس دمشق، تقاضيه من خراج أو عشر الأرض التي "يفلحها" أبناء نمر خليل وشقيقاه، وعليهم عرفاً وربما "ديناً"، اقتسامه مع أبناء أخوي قائد المرفق الأمني والسياسي والشخصي البارز.

وعلى ذمة الصحيفة نفسها، غير مكذَّبة ولا متَّهمة، أن المفاوضة تناولت الأتاوة أو "الجامكية"، في مصطلح مماليك مصر عشية الحملة الفرنسية البونابرتية، وعدد "الأكياس" التي على أهل الزرع من آل الخليل تسديدها أو أداءها إلى الرعاة المسلحين من آل العميد، ولا يطعن في الأمر، أو الحال والعلاقة، أن الفريقين ينتسبان، شأن المنطقة التي يقيمان بها وينزلانها إلى حزب واحد. والأدق القول، بناء على نفي رئيس الهيئة التنفيذية في حركة "أمل"، مصطفى فوعاني، "علاقة" الدمشقيين والخليليين التنظيمية بالحركة، وبراءتها من أفعالهما، أنهما ينتسبان إلى ولاء واحد وليس إلى حزب أو تنظيم أو كيان حركي.

تظلّم أحد "ضحايا" علي نمر خليل، وهو زميل في مهنة المراهنة، للرجل الذي يشكو منه، عند العميد، وهو "أبو علي" كذلك، وطلب "حمايته" من منافسة زميله وغريمه. وبذل في هذا السبيل، ولقاء الرعاية المنشودة، "مبلغاً مالياً كبيراً"

ولا يحول الولاء المشترك دون ضبط حسابات الجباية، واستيفاء "الحقوق" على أصول الاستيفاء. فأجاب الفريق الخليلي طلب الفريق الدمشقي بالنزول له عن ألفي دولار في الأسبوع، يؤديها الأول إلى الثاني عن "أعماله" أو تصريفه المراهنات على الشبكة. ولا تعرب الصحيفة عما دعا الفريق الدمشقي الآن أو اليوم، في منتصف تموز/ يوليو، إلى المبادرة إلى طلبه. ولا توضح ما إذا كان آل العميد يتقاضون، من قبل، الألفي دولار، ويريدون اليوم زيادتها إلى ثمانية آلاف في الأسبوع، أم أن الألفي دولار هي اقتراح أولي من آل خليل، استقله الدمشقيون ورفعوه إلى مستوى يليق بهم ويناسب تقديرهم للعوائد التي يجنيها الخليليون من تجارتهم أو "زراعتهم".

بنية المؤاخاة

وتغمز الرواية المترفعة عن الهوى الحزبي، التي تسوقها الصحيفة، غمزاً متوسط الخفاء من مصادفة طلب آل دمشق اليوم حصة من العوائد تفوق أربعة أضعاف ما ينزل عنه آل خليل، جباية هؤلاء "أموالاً طائلة" من "رواج لعبة الرهانات الإلكترونية، وتحول شركتهم التي تدير وكالة حصرية لشركة مراهنات أجنبية إلى مركز رئيسي للمراهنات الإلكترونية على مستوى لبنان، وليس فقط الضاحية".

ويسهم في العلم بما يعنيه اليوم، أو الحاضر المالي، ما تنوّه به الصحيفة من تعاظم أرباح الخليليين من "مصلحة القمار". وحملهم هذا التعاظم على "(تشغيل) جزءٍ من أموال القمار في أعمال المضاربات على الدولار أخيراً". ويفترض الخوض في المضاربة على العملة الوطنية "أموالاً طائلة"، تعود على المضاربين الحاذقين بأموال طائلة فائقة، على نحو ما يفترض، من "شراكة مع أمنيين ونافذين". فهذا النشاط جزء أو فرع من شبكة حزبية وأهلية تتولّى تزويد مصرف لبنان بدولارات حيوية تشترى من السوق السوداء لقاء عمولة مرضية. فلا يبعد، على هذا ومن باب التخمين، أن الداعي إلى طلب آل دمشق، وعلى رأسهم ومن ورائهم الأمني الكبير، زيادة في الحقوق هو تعاظم مواز في العوائد.

واضطلع عامل ظرفي، في إطار بنية سياسية وحزبية واجتماعية عامة (هي بنية "المؤاخاة" العشائرية، ومقايضة الحماية، من النفس غالباً، بثمن يسدد عداً ونقداً)، بدور في توقيت الفريضة. فيقال إن أحد "ضحايا" علي نمر خليل، و"الضحية" على هذا المقلب أو الوجه زميل في مهنة المراهنة، للرجل الذي يشكو منه، تظلَّم عند العميد، وهو "أبو علي" كذلك، وطلب "حمايته" من منافسة زميله وغريمه. وبذل في هذا السبيل، ولقاء الرعاية المنشودة، "مبلغاً مالياً كبيراً"، على ذمة الراوي.

فاستنهض التظلّم حمية أو فروسية الدمشقيين. فقصدوا المحل الموبوء في شارع المصبغة وأرادوا الاقتصاص من الظالم بيدهم بعد لسانهم، فحطموا المحل و"دارت المواجهات"، بالبنادق الهجومية الروسية، وببعض القذائف المضادة للدروع وقنابل صوتية مدوية. وهذه كلها من ميراث الحروب التي خاضتها الأحزاب والفصائل والشخصيات "الوطنية" على التقسيم الاستعماري للمشرق، وعزل المشرق عن المغرب من طريق إقامة كيان صهيوني أعمل تجزئة في كلّ وجميع عضويين ومتصلين تبعثهما اليوم حركة "أمل" في الشياح. والشياح هو حصن الحركة الأخير في ضواحي جنوب بيروت، بعد أن خسرت معظم معاقلها الأخرى وكل عسكرييها، في حرب أهلية مع "حزب الله" في 1987- 1988، داخل "حرب المخيمات" التي دارت على المخيمات الفلسطينية، والقضاء على نفوذ "فتح" وياسر عرفات فيها، وعلى اجتثاث معارضة القبضة السورية (الأسدية) عليها، وعلى لبنان "السوري- اللبناني".

أمراء الريوع

وتصف الحادثة الفاقعة والعابرة، والشبيهة بحوادث سابقة لا تُحصى وبعضها يومي في حي منكوب آخر قريب هو حي صفير- الليلكي على ضفة طريق صيدا (أو الشام) القديمة، ويخلف قتلى في العشيرة الكبيرة الواحدة- أحوال ما تلبسه هتافات الحزبين الشيعيين حلة الضاحية الواحدة، ويقرن بعض الهتاف وحدتها بوحدة الذات الإلهية ("الله ونصر الله والضاحية كلها"). فإذا بها، في مرآة الحزب الخميني والحرسي المحلي ومرآة صحيفته "الجماهيرية"، "مقمرة"، أي ميدان ألعاب القمار على صورها الكثيرة: مكاتب مراهنات، وصالات باروليه وبينغو، ودكاكين صرافة، ووكالات تحويل عملة أجنبية ومضاربة في البورصات...

العقد الذي عقده الأمراء والمرجعيات ينص، ضمناً وربما علناً، على مقايضة أو مبادلة مزدوجة: يوالي الأولون، ووحداتهم العائلية والبلدية، المرجعيات- أي ينتخبونها، ويستظلون لواءها العصبي والعسكري، ويرضون بتوسطهم بين الجمهور والمرجعيات لقاء "لملمة ملفاتهم الأمنية الكثيرة"

وتينع، على ما كان الحجاج بن يوسف الثقفي قال، في الميدان الذي "لا تزال آثار معركة السبت (15/7، على ما مر) ماثلة على سيارات الناس وبيوتهم" فيه، رؤوس "أمراء الأحياء". وتتغذى هذه من "الاستفادة الأمنية والاستخبارية"، كناية عن الموظفين المختلطين، في المراتب التنظيمية الحزبية وفي المراتب الإدارية معاً، ومن "محاباة المرجعيات السياسية". وتعني هذه الولاء الشخصي والعادي "الطبيعي" الذي يربط ويلحق "الأخ"، المجاهد حتماً إذا وافاه الأجل، وشطراً من أسرته وبلدته الأصلية بـ"الأخ" المسؤول الأعلى رتبة.

وهذا الولاء، وترجمته العامة والشاملة هي "(الوقوف) مع المقاومة كمشروع، بصرف النظر عن التنظيم واسمه"، يؤاخي مؤاخاة قوية بين وجوه العلاقة، الوجه التنظيمي الحزبي، والإداري المعيشي، والريعي المتكسب من المكانة. ومهنة "الأمراء" هي "الصراع على النفوذ والخوات". و"(تقاسم)... الموارد والأهالي". وهم يتوارثون المهنة المتجددة هذه. فمنذ العقد العاشر من القرن الماضي، "يسيطر" آل دمشق، على رواية الصحيفة المتسرعة والمبتسرة بعض الشيء، على "مشهد" الشياح. وهم، رغم قِدَمهم، "أحدث ظاهرة تشهدها الشياح". وبروز "المقاومة كمشروع" في الأثناء لم يبتر سلسلة الأمراء، ولا قطع توارثهم التقاسم ولداً عن والد أو عم. ولا عكّر صفو ولائهم من يوالون.

والعقد الذي عقده الأمراء والمرجعيات ينص، ضمناً وربما علناً، على مقايضة أو مبادلة مزدوجة: يوالي الأولون، ووحداتهم العائلية والبلدية، المرجعيات- أي ينتخبونها، و"يحشدون" لها (على معنيي الجمع والانتصار)، ويستظلون لواءها العصبي والعسكري المسلح، ويرضون بتوسطهم بين الجمهور والمرجعيات لقاء "لملمة ملفاتهم الأمنية الكثيرة"، وتوسيعهم أنشطتهم وجباياتهم إلى المرافق التي انكمشت عنها ذراع الدولة و"مصالحها". وهذا باب عريض بل أبواب تشمل الكهرباء (المولدات، وأسعارها، وأوقات تغذيتها، واحتساب التغذية من طريق العدّاد الفردي والاستهلاك أم من طريق القسمة "المقطوعة"...)، والاتصالات الهاتفية ورسومها وأجهزتها، وقنوات التلفزيون، وتعرفة النقل الخاص، والتعرفات الجمركية، والرسوم على "الميكانيك"، وإجازات البناء ومعاملات السوق العقارية عموماً، ورخص الاستيراد، ومواقف السيارات المرخصة أو المأذونة، ورخص المرافق المقننة مثل محطات المحروقات والصيدليات والمستشفيات، إلخ.

الحصة والدولة

وهذه كلّها كانت مادة خصبة للوساطات والتخمينات، على ما يقال في تسعير التبغ، المتحركة، والتقديم والتأخير. ورسا شطر راجح من دور من سموا "نواب الأمة"، في هذا المعرض على سبيل السخرية، على التوسط في هذه المسائل، والكيل فيها، بمكاييل النفوذ والأحلاف المتلونة. وأدخلت الحروب أبواباً من الريوع وجبايتها، مبتكرة، وغير مقيدة بنصوص قانونية، على الخوات السابقة. فلم يبق "استثمار" في مرفق من المرافق، أكان المرفق حرفة تتولى طائفة الحرفة الإشراف عليها أم عملاً مرسلاً لا قيد عليه، إلا وألحق في الباب المتسع هذا.

ويقتضي التوسيع والتعميم هذان، المرابطة على سبل أو عُقَد المراجعة، ومفترقات الرقابة. وتولى الأمر "ضباط كبار وقضاة و(نافذون) في الدولة"، على زعم الصحيفة، يتقيدون بإشارة أمرائهم ومرجعياتهم التي كانت نافذة في تعيينهم، ولا تزال نافذة في تدرجهم، وتوزيع الولايات والمناصب عليهم (التشكيلات)، وفي تهميشهم وربما تأديبهم. وهذا ثمرة تشابك عريض وعميق بين المنظمة العصبية (الطائفية) وجماعتها الأهلية و"الشعبية"، والإدارات والمرافق المشتركة. فتكتب الصحيفة، بحياء وخفر، أن "حركة أمل والرئيس بري (هما) حصة المنطقة من الدولة".

وينبغي ترجمة العلاقة إلى علاقة مساواة ومكافأة: "أمل" وبري= "المنطقة" (الجماعة الشيعية)= "الدولة" أو موارد تجديد الحياة والمرتبة. ولكن فصل "أمل"- بري عن "أمراء الأحياء" و"زعران من آل الخليل وآخرين من آل دمشق"، وتمييز كيان المنظمة وهرمها و"كوادرها"، على ما يقول الأمليون باعتزاز وانتخاء، من مائها الأهلي الذي تسبح فيه، يخالف أحكام النشأة، والاستواء الجسمَ الأهلي و"الشعبي" الكبير والثقيل، والدوام، التي رعت "أمل"، على نحو ما رعت وترعى قيام منظمات أخرى (على وجوه خصوصية في كل مرة) ودوامها.

ويشبه الفصل هذا، وتبرئة الزعيم الحاكم من التبعة عن أوزار حكمه، أعذار الأنظمة الاستبدادية والفاسدة وأجهزة تضليلها التي تحمّل المسؤولية عن سياساتها للحاشية، أو لجهل الحاكم بالوقائع. فتنسب الصحيفة إلى "أهل الشياح" "(شخوص) عيونهم إلى الرئيس نبيه بري"، من ناحية، و"(تغييبه) عن أحوال منطقتهم"، من ناحية أخرى. وعلى هذا، فـ"من أولاهم مسؤولية متابعة شؤونهم لا ينقلون له حذافير ما يجري بأمانة".

الحركة الكثيرة والحزب الواحد

والحق أن تناول الأخبار الواقعة في عددين متتابعين، وتكلفها الإدلاء بأوسع خبر عنها قبل إهمالها، بينما أغفلت معظم الصحف اللبنانية الأخرى الأمر، أو اقتصرت على ذيل ينحي بالنقد والتنديد على سيطرة "أمل"، ومن ورائها "حزب الله"، هذا التناول جزء من حسابات معقدة تجمع القطبين الشيعيين وتفرق بينهما. فرواية خبر اشتباك الشياح في 15/7، و"تحليله" السياسي، خلطت الأعذار والبراءات بالمسؤوليات، وفصلت الفاعلين من أحوال الجسم الأهلي، على ما مرَّ تناوله.

"أمل" وبري= "المنطقة" (الجماعة الشيعية)= "الدولة" أو موارد تجديد الحياة والمرتبة. لكن فصل "أمل"- بري عن "أمراء الأحياء" و"زعران من آل الخليل وآخرين من آل دمشق"، وتمييز كيان المنظمة وهرمها و"كوادرها"، من مائها الأهلي الذي تسبح فيه، يخالف أحكام النشأة

ونواة الرواية والتحليل المضمرة هي مقارنة حادة بين حزب الصحيفة، "حزب الله"، وبين الجماعة المذهبية الأخرى. فـ"مفتاح" التناول والرأي، على قول المقدمة الافتتاحية التي سبقت، من غير توقيع، المقالين هو "الاستدارة إلى حركة أمل ودواخلها، ومراكز القوى المتعددة التي تنبت تباعاً على هامشها". والأمراء والزعران هم ولائد "صراع الأجنحة والنفوذ داخل الحركة". ويلي التشخيص السريري، البنيوي الصارم والقاصر الذي يدعو القارئ إلى معارضته بانتفاء نظيره أو مثيله في الحزب الخميني والحرسي، نداء إلى رأس الجبل الأملي يدعوه إلى المعالجة.

ويؤيد التشخيص الداعي إلى المقارنة خبر سريع، في العدد الثاني (19/7)، عن عراك "تخلله ضرب بالسكاكين" بين أعضاء شعبة "أمل" في بلدة بنت جبيل الحدودية- "عروس تحرير" العام 2000، ومهبط "خطبة بيت العنكبوت"، على قول الحزبيين والأنصار في احتفال أعقب الجلاء الإسرائيلي، وتوعّد فيه أمين "الحزب" العام الدولة العبرية بتوهينها وتقويضها-. ويقول الخبر إن ثلاثة حركيين لا يزالون في المستشفى ويعالجون من جراحهم. فيعزو الاشتباك إلى "خلافات داخلية متراكمة بدأت منذ الانتخابات النيابية الأخيرة (...) بعد قرار عين التينة (نبيه بري) إعفاء النائب السابق علي بزي من تمثيلها..." (تمثيل... عين التينة؟).

ويستثني إحصاء المناطق والأحياء التي تشكو نبات "صراع الأجنحة والنفوذ داخل الحركة"، وهي الشويفات وحي السلم والليلكي والمريجة و"حدود" الجناح، أي دوائر نفوذ "أمل" الانتخابي وصمودها في وجه "الحزب" منذ 1987- 1988- برج البراجنة، "جوهرة تاج" "الضاحية"، وكتلتها الراجحة، ومعقل القيادة الحزبية.

وتغفل الملاحظات المتفرقة والغامزة هذه الفرق بين نشأة الحزبين الشيعيين. فنشأة "أمل" لبنانية، داخلية واجتماعية. ومدارها على "الحرمان" من "الدولة"، والتفاوت بين الموقع السياسي الضعيف وبين تعاظم الموارد الاجتماعية، وعلى التفاوت الآخر بين التمثيل السياسي المرتبي والتقليدي وبين "صعود" العامة أو العاميين، عدداً وقوة وموارد. وسطت السياسة السورية، الأمنية، على الحركة الوليدة، وزجت بها في صراعاتها المحلية والإقليمية، ورجحت بناء النموذج الحزبي و"النضالي" الأملي على المثال الاستخباري والمصلحي النفعي الذي جرت عليه.

وأُنشئ "حزب الله" على مثال مختلف قريب من "النومانكلاتور" المحترفة (اللائحة الحزبية المنظمة) السوفياتية قبل ترهلها. فنواته مركزية، وهي جزء من هرم إداري وعسكري متماسك. ولا شأن لشاغلها السياسي العام، الإقليمي والدولي، بهموم الداخل وشؤونه ونزاعاته، على رغم بنائها على محصلة العوامل التي ولدت "أمل" منها. ومشكلتها السياسية الداخلية الأولى هي تقويض أركان الدولة، والحؤول بينها وبين اضطلاعها بالعمومية الحقوقية القانونية أو السيادية التي تنصبها مرجعاً أخيراً في مجتمعها وإقليمها. وعصم استقلال "حزب الله"، السياسي والمالي، المنظمة عن اليد السورية، من التعيش على "أمته" وأهله وجمهوره ولبنانه. وهو اليوم يدل بهذا على تتمته، "أمل"، التي تؤاخي بين غرابته وبين "الوحل" اللبناني الذي تسبح هي فيه، وتقرب بينه وبين مجتمع أدار له ظهره، وهو يتحكم بأساساته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image