زنزانة ضيقة مظلمة، محاطة بجدران رمادية باردة، تُلهب دواخلي بالعزلة والفراغ. ظلامٌ دامس يلتف حولي كالأفاعي، وصمت مريب يضرب الأذن كالأموات، ملامح وجهي تبدو متعبة للغاية، بينما أحاول جاهداً التفكير في أي شيء يمكن أن يوهمني بأن هناك حياة أخرى خارج هذه الأسوار، وحدي محاصر بين تلك الجدران كالقبر، بينما تغزوني المشاعر المتضاربة بلا هوادة، فالحزن يتسلّل إلى قلبي ويسكنه، والغضب يسري في جسدي، وبينما أبحث عن النجاة والحياة، لا أجد سوي الأنين والألم.
"عنبر.. عنبر.. عنبر.. كله يسمع، أنا أنور المسجون في الايراد، عنبر 4، بسلّم على كل الناس، وبقول لهم كل سنة وانتو طيبين، ويلعن أبو اللي يزعلكم"، بهذه الكلمات وبنبرته الاستثنائية، اعتلى عم "أنور" سلم العنبر، ووقف يخطب في جميع النزلاء، مهنئاً إياهم بقرب حلول شهر رمضان المبارك. بعضهم وقف ليستمع إلى كلماته بابتسامة زائفة مكسورة، بينما انفضت الأغلبية من حوله سريعاً، ربما لأن هذا الموقف قد تكرّر كثيراً خلال فترة تواجدهم بالسجن، وأصبح عم أنور، رغم استثنائية شخصيته، شخصاً معتاداً بكل تصرفاته المفاجئة والغريبة والشاذة.
هنا، الأيام تمرّ ببطء شديد، فالعالم يفتقر إلى التفاؤل، عنبر السجن يمتلئ بالأصوات المتعَبة والهمسات الخافتة، تنقل الأبواب الحديدية صوتاً قاسيا مرتفعاً عند إغلاقها، وصدى الصوت الذي ينتشر كالنار في الهشيم بجميع أنحاء السجن يعبر عن صدي الألم واليأس الذي ينتشر في ذوات النزلاء، وتشير الأصوات المبعثرة بين هنا وهناك مع تناغمها الرتيب، إلى حجم المعاناة المستمرة في النفوس، ولكن النزلاء اعتادوا نسج خيوط الأمل عبر روايات متعدّدة، حتى يتمكنوا من مقاومة آفات اليأس والأنين والألم.
"عنبر.. عنبر.. عنبر.. كلّه يسمع، أنا أنور المسجون في الايراد، عنبر 4، بسلّم على كل الناس، وبقول لهم كل سنة وانتو طيبين، ويلعن أبو اللي يزعلكم"... مجاز
أيمن عبد المعطي يتجول مع كريم في منتصف العنبر بحثاً عن أحد النزلاء، حيث يدّعي كثيرون أن اسمه ضمن قائمة مرتقب صدورها بإخلاء سبيلها. مصطفي فقير يؤكد هو الآخر أن هناك ثلاث قوائم للعفو تم اعتمادها، وسوف تصدر أولها خلال أيام، ليقضي أصحابها العيد مع أهلهم وأحبائهم، بينما ستصدر القائمتين الأخريين تباعاً بعد عيد الفطر. يارب! الجميع يبحثون عن إجابات لأسئلة كثيرة تدور في أذهانهم، علّ حصولهم علي بعضها يفتح لهم أبواب الأمل من جديد، علي أي أساس تم اختيار هذه القوائم؟ ومن هي الأسماء بها؟ وما فكرتها؟ ومن الذي دعا لها؟ أسئلة كثيرة، لا توجد إجابة لواحدة منها.
إبراهيم والي يوقظ الرديني النائم منذ أيام ربما: "قوم يابن الكلب.. شكلنا هنروح". يقفز الرديني أعلى فرشته على غير عادته التي تعشق النوم والهروب من الواقع، متسائلاً بعيون جاحظة، تبحث عن معجزة، عن سبب مناكفة والي له، ليتدخل ثائر عزت بهدوء: "مفيش الكلام ده ياعم، متصدقش، اشتغالة، معاك سجاير ولا أجيب لك علبة؟".
شريف صبره يقف وسط مجموعة من النزلاء يتلو على مسامعهم رسالته لوالدته، التي صاغها في أبيات شعرية، لتوثق وجع وأنين التجربة، والحلم والأمل والعشم في مستقبل أفضل. تلك القصيدة التي ظلّ يتلوها يومياً بصوت عال من خلف "نضارة" زنزانته عقب منتصف الليل، حتى حفظ الكثيرون عدة أبيات منها، وأصبحوا يرددونها دوماً بوجع الاقتدار.
بقدر سعادتي التي يصعب وصفها حينما تبصرت كلمات الرديني عن "جنتي" على الحائط، كان الوجع يدقّ كل تفاصيلي بقوة، لكن سرعان ما طالعت الرسائل الحقيقية بين سطور الأبيات، لأدرك أن ذكريات ما قبل السجن هي كل أسلحتي بداخله، تلك الذكريات التي تعتلي جدران الزنزانة وتلتصق بالأرضية الباردة، فتحاوطني وتصبح بمثابة أدوات تعزيز صمودي وحمايتي من هواجس اليأس والضياع، رغم الأفكار الكئيبة التي تتدفّق كالسيول المتلاطمة في عقلي، أشواقي إلى دفء العائلة تتحوّل إلى شعلة داخل القلب، لتحرق كل أشكال اليأس والألم، وتمنحني القوة لأعتلي صخرة الصمود. لكن، ماذا عن أبي؟!
لم يحبّني أبي، والا فلماذا يصرّ أن يتركني كطائر حائر بين الآفاق، وسط عتمة الأفكار وضبابية المشهد؟! لماذا يجبرني بغيابه أن أبحث في الأعماق عن نافذة نور يمكنني من خلالها التلصّص على مشاهد من تاريخ جمعني به؟! لماذا تنهمر دموعي لتشكل بركة أغوص فيها كلما شعرت بالحنين تجاهه ولم أجده؟! لم يحبّني أبي.
في ساحة "معانقة الذكريات" بالعنبر، تجمّع النزلاء من كل صوب مع أول أيام شهر رمضان المبارك، بابتسامات زائفة وأشواق حارّة للحرية، تحمل بين كلمات التهنئة بالشهر الكريم دعوات العودة للأهل والأحباب بالخارج. اكتظّت الساحة بالعشرات من مختلف الاتجاهات السياسية التي يحتضنها عنبر 4 بسجن القاهرة للمحبوسين احتياطياً. البعض يستعدّ لتدشين دورة رمضانية لكرة القدم، وآخرون يبدؤون بتجهيز "العرقسوس" و" التمر هندي" و "السوبيا" لتوزيعها على الزنازين قبل انتهاء ساعات التريّض، والعديد منهم يقضي رمضانه الثاني والثالث والرابع خلف الأسوار، بينما أخوض تجربة رمضان الأول بعيداً عن "جنتي".
رغم كل هذا الألم والوجع، كان الله رؤوفاً بي حينما ألقت قوات الأمن القبض عليَّ قبل أشهر، كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، كنت أستعدّ للاحتفال بالساعات الأولى لذكرى مولدي، قبل أن يتحوّل منزلي إلى معسكر تدريب لقوات الأمن التي اكتظت بهم كل أرجاء المنزل، أكثر من خمسين شرطياً بمختلف إدارات وزارة الداخلية، داخل شقتي المتواضعة، حيث أعيش مع زوجتي و"جنتي"، بينما اصطف عدد منهم على السلالم المؤدية إلى الدور الأرضي بالمنزل، حيث تقيم والدتي وأختي.
طلب الضابط المسؤول عن القوة الشرطية أن يدخل كل غرف الشقة، بينما كانت إحدى الغرف مغلقة، أخبرته أن هذه الغرفة يوجد بها طفلتي النائمة قبل سويعات، وبما أنني مطلوب القبض عليَّ، فلا داعي لإحداث بلبلة وايقاظ طفلتي الصغيرة. طلب مني أن يراها دون إزعاج. فتحت له الباب، دخل، أسهب النظر في عيونها النعسة، تأمل ملامحها بشكل غريب، ابتسم، أدار وجهه نحوي، ابتسم لي، طلب مني أن أغيّر ملابسي لأتوجّه معهم.
كان الله رؤوفاً بي لدرجة جعلتني أشعر دوماً بالامتنان والمحبة الصادقة تجاهه، فصغيرتي النائمة لم تشعر بشيء، أي شيء، إلا بعد أن خرجتُ تماماً من المنزل، وبعد أن انهارت والدتها التي كنت أحاول تعظيم مقاومتها حينما كانت القوة الأمنية في المنزل. أحمد الله دوماً أنّه قرّر ألا يفتح الباب لمشاعر الخوف والرعب لتتسلل نحو أبجديات حياة وذاكرة "جنتي"، والتي جاهدتُ دوماً أن أزرع بداخلها أسس القوة والصلابة والجرأة، لتستطيع معايشة عالم أصبح غير مناسب تماماً للجبناء.
الواحدة ظهراً، أول أيام شهر رمضان 2019، موعد انتهاء الزيارة اليومية. المهندس يحيى يعبر باب العنبر مبتسماً متباهياً، تحمل تفاصيل وجهه ملامح الرضا والتفاؤل، بينما تبحث عيناه بين جموع النزلاء عن أحدهم، أشاهده من بعيد. يسأل هذا ويقترب من ذاك، بينما أتحمّس لمعرفة أسباب هذا الفيض الإلهي الذي يسمو بروحه، ويجعله طائراً في الآفاق، وإن كان داخل الأسوار العاتية.
وبعد عودته مع "مصر" الجميلة لأحضان والدها المتشوّق لها، وحين سؤاله عن أسماء إخوتها، يتفاجأ مجدّداً بأن الولد الأكبر ذا العشرة أعوام اسمه "جمال"، وأخيه الأصغر اسمه "عبد الناصر"، يبتسم المهندس يحيى، ويشير: "عاوزين يموتوه ومش بيموت يا عبعزيز، عبناصر مبيموتش"... مجاز
لقد وجدني وكأنه رأى ضالته!
- "عبعزيز، انت فين، بدور عليك، من ساعة ما خرجت م الزيارة، وأنا بدور عليك!
خير ياباشمهندس؟
– خير، خير أوي، خير أوي أوي أوي ، الواد اسمه جمال، وأخوه اسمه عبد الناصر، والبت اسمها مصر!
مش فاهم حاجة يا هندسة
– تعالي أفهمك
نحو ساحة معانقة الذكريات، يتكئ على كتفي المهندس يحيى صاحب السبعين عاماً، مبتسماً كعادته، يروي لي تفاصيل موقف عايشه قبل دقائق خلال الزيارة، ساحة الزيارة تتسع لاستقبال بضع مئات من الزوار، الذين يفترشون عدة "مصاطب" لاستقبال ذويهم من نزلاء السجن، الذين يدخلون الصالة تباعاً بعد إجراءات التفتيش والتسجيل المعقّدة.
تبدأ القصة حين أبصرت عيناه طفلة جميلة أتت مع والدتها وأخويها لزيارة الأب الذي يسكن أحد عنابر السجن قبل عامين، قبل أن يتفاجأ بوالدها يناديها "مصر". ارتسمت علامات الدهشة على وجه المهندس يحيى، ليقطع حديث الرجل مع أهله: "البنت الجميلة دي اسمها ايه؟". "مصر"، بكلمة واحدة أجاب الأب المبتسم.
بحب واعجاب وتقدير، احتضن المهندس يحيى مصر، واستأذن والديها ليأتي لها ببعض الحلوى من "كانتين" الزيارة، وبعد عودته مع مصر الجميلة لأحضان والدها المتشوّق لها، وحين سؤاله عن أسماء إخوتها، يتفاجأ مجدّداً بأن الولد الأكبر ذا العشرة أعوام اسمه "جمال"، وأخيه الأصغر ذا السبعة أعوام اسمه "عبد الناصر"، يبتسم المهندس يحيى، ويشير: "عاوزين يموتوه ومش بيموت يا عبعزيز، عبناصر مبيموتش".
تأخذني تفاصيل "مصر" إلى "جنتي"، حيث نلعب معاً فوق شاطئ رملي أبيض، نبني قلاعاً من الرمال، ونرسم خرائط لأراض مجهولة، نصيد أسماكاً بخيالنا ونطهيها لنتقاسمها مع الطيور، ثم نمسك أيدينا معا لنرقص وسط أشعة القمر التي تنير دربنا إلى مغارة تختبئ خلف النخل، فندخلها وننام دون أن يشعر أحد بوجودنا.
هذه "جنتي" في عالمنا الخاص، نطوي الأزمنة ونستبدل بها عهوداً أخرى، نخلقها بما نقرأ ونحلم، "جنه" التي علّمتني وحدها فن الحياة، نور عيني وحبة قلبي السجينة في قفصي، "جنه" هي اسمي الحقيقي، حيثما أوجد وحينما يذكرني أحد، ولا أستطيع أن أحيا بدونها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...