كان الطب حتى القرن التاسع عشر الميلادي، مزيجاً من الطب التقليدي الإيراني والإسلامي، على أساس القرآن وأحاديث أهل البيت، بسبب الأفكار الرجعية والأصولية. ومع دخول سفراء الدول الأوروبية إلى طهران في ذلك القرن، ووجود طبيب خاص في الوفود الدبلوماسية، تعرّف المجتمع الإيراني على الطب الحديث.
وصل الحال إلى أن ظنّ عامة الناس، أن كل فرد أوروبي في طهران طبيب. ثمة صور تاريخية التقطها الأجانب توثّق مشهداً رهيباً لاجتماع المارة في شوارع العاصمة حول السياح والوفود الدبلوماسية، ليستلموا منهم الدواء.
من الممكن القول بأن ظاهرة تفشّي الأوبئة، كانت نقطة البداية لتحديث علم الطب في إيران، ولذلك يمكن التعريف بأن اللقاحات هي بمثابة الثورة التي حدثت في طريقة علاج الإيرانيين.
قام الإصلاحي أمير كبير، حين تقلد منصب المستشار الأول في الدولة القاجارية، منتصف القرن الـ19، بإجراءات كبيرة عدة، عُدّت من ضمن أولى المساعي الحكومية لتحديث الدولة والمجتمع.
ظاهرة تفشّي الأوبئة، كانت نقطة البداية لتحديث علم الطب في إيران، ولذلك يمكن التعريف بأن اللقاحات هي بمثابة الثورة التي حدثت في طريقة علاج الإيرانيين
أسس أمير كبير، أول مشفى في البلاد خاص بالقوات العسكرية، وأنشأ أول صحيفة حكومية ونشر فيها مقالات وتقارير عدة حول ضرورة الإجراءات الوقائية والصحية، كما حثّ الأطباء على نشر رسائل تعليمية حول الأمراض الوبائية.
لقاحات الأوبئة
فرض المستشار الأول، تلقّي لقاح مرض جدري الماء، للأطفال، وهي خطوة أخرى أقدم عليها بحزم وقوة في سنة 1851، ويرى كثيرون أن هذه السياسة كانت أساساً للصحة العامة في إيران.
استخدم أمير كبير، وبراتب جيد، أفراداً لتطعيم الأطفال، وأرسلهم إلى المدن والقرى البعيدة في العاصمة وضواحيها. في بادئ الأمر، قاوم الناس تلقّي أطفالهم اللقاح، لكن عندما قامت الوفود المرسلة بتطعيم أبنائهم، قَبِل الآخرون بذلك.
من أهداف برنامج التطعيم العام، خفض معدل الوفيات بسبب الجدري، إذ كان الكثير من الأطفال سنوياً يصابون بالشلل أو يموتون بسببه.
ومن الخطوات المهمة الأخرى التي أقدم عليها أمير كبير، تأسيس مدرسة دار الفنون، وهي مدرسة حديثة على غرار المعاهد الأوروبية، وقد استطاع بعض الإيرانيين أن يتعلموا الطبابة فيها، بعد أن كانت مهنة الطب تُتوارث داخل بعض الأسر فحسب.
ولمدرسة دار الفنون، الحظ الأوفر في تعليم الطب الحديث داخل البلاد، حتى لمن كانوا أطباء حسب الطب التقليدي، لتتسنى الفرصة لهم كي يقارنوا ما لديهم من علم بما تعلموا من علم حديث.
في منزل السفير الفرنسي
قبل إنشاء مدرسة "دار الفنون"، قام السفير والطبيب الفرنسي إرنست كلوكيه، بتعليم الإيرانيين علم الجراحة. يكتب عنه السياسي اعتماد السلطنة في مذكراته: "الدكتور كلوكيه يقوم بتعليم الجراحة كمقدمة على هذا العلم، في منزله".
لم تكن مدرسة دار الفنون، حرةً في تعليم جميع علوم الطب الحديث، فقط كان تشريح الجثث محظوراً في البلاد برمتها، وهذا ما جعل طلاب المدرسة يسافرون إلى أوروبا كي يستكملوا دروسهم في الجراحة بشكل عملي.
وحين قُتل أمير كبير، في سنة 1852، توقفت الإصلاحات الصحية لفترة مؤقتة، ثم عادت حين تأسيس مجلس "بيت المصلحة" داخل الحكومة، وبدأت مرحلة جديدة من تحديث قطاع الطب. وعند تفشّي الوباء في 1860، تم تأسيس "بيت الاستشارة الطبية" بمشاركة أطباء إيرانيين وأجانب، لاتخاذ خطوات مهمة وعملية للوقاية والعلاج.
مجلس "حفظ الصحة"
استكملت الدولة إجراءاتها بعد تدشين مجلس "حفظ الصحة"، سنة 1868، وكان المجلس على علاقة وطيدة بمدرسة دار الفنون، وتتلخص مهمتهم في الاستشارة الطبية بغية علاج المواطنين، ونشر مقالات وتقارير طبية حديثة، في سبيل إفادة المعنيين والمهتمين في الأمر.
كما قام مجلس حفظ الصحة، بتقريب المسافة بين الطب التقليدي والطب الحديث، وخلق أحياناً تعاوناً ثنائياً في علاج المرضى، إذ عندما عجز الطبيب التقليدي عن علاج والدة الملك، طُلب من الطبيب الفرنسي جوزيف ديزيريه ثولوزان، القيام بذلك.
أنجب هذا المجلس، دائرة الصحة العامة الإيرانية، التي اشتهرت بـ"الصحية"، وكانت مهمتها الحجر الصحي ورقابة المستشفيات، وإصدار الرخص لصنّاع الدواء.
حينما عاد الملك ناصر الدين شاه القاجاري، في سنة 1879، من رحلته الأوروبية، أمر بإنشاء مشفى على الطريقة الغربية، وتم توظيف خرّيجي مدرسة دار الفنون وخرّيجي مدارس فرنسا الطبية في باريس، فيه. بعد ذلك قامت "الصحية" بالإشراف على تأسيس المستشفيات التي بدأت تزداد شيئاً فشيئاً في البلاد.
المدرسة اللقمانية
من ثم بدأت المستشفيات الإرسالية (Christian mission hospitals)، تنتشر في بعض المدن الكبرى الإيرانية، وقد ألهمت هذه الفكرة الكثير من المحسنين الإيرانيين، لإنشاء مدارس ومستشفيات خارج ميزانية الحكومة، إذ دشنت بعض الشخصيات مستشفيات ومدارس للعلوم الطبية، من أشهرها المدرسة اللقمانية لصاحبها الطبيب الإيراني لقمان الدولة (1879- 1950)، والتي ما زالت قائمةً حتى اليوم كمستشفى يقدّم الخدمات الطبية للمواطنين.
"المدرسة اللقمانية تأسست في سنة 1899، برعاية لقمان الدولة، الطبيب الخاص لولي العهد الإيراني. والدكتور لقمان كان قد تخرج من فرنسا، وهو يقوم بتكاليف أكثر من مئة طالب يدرسون الطب باللغة الفرنسية"؛ هكذا شرح السفير الفرنسي يوجين أوبر، في مذكراته.
تتمتع إيران اليوم بقطاع طبي عالي المستوى على صعيد منطقة الشرق الأوسط، زيادةً على أنها تستقطب الكثير من مرضى الدول الأخرى للعلاج بسبب حذاقة أطبائها وأسعارها المناسبة في العلاج
تزامناً مع هذه الخدمات الطبية الحكومية والأهلية، أدى ازدياد عدد السكان ونسبة الأمية بينهم، إلى تشجع الناس على التهافت على الطب التقليدي. وحول ذلك يذكر الطبيب الفرنسي شنايدر: "مجموعة كبيرة من الأطباء الإيرانيين يرتدون زي رجال الدين. إنهم يلبسون العمامة ووشاحاً حول خاصرتهم، ويرتدون نعلين من دون كعب. إنهم أشخاص متعصبون ومقدّسون لدى المجتمع... ينظر هؤلاء إلى الطب الأوروبي نظرة احتقار ويتابعون بِحيرةٍ العلاجَ الغربي الذي يأتي خلافاً لطبع المريض".
خطوات جوهرية
مع انتصار الثورة الدستورية لتحديد صلاحيات الملك وتأسيس البرلمان في سنة 1906، وفي ظل أفكار الحداثة والتنوير، بدأت خطوات أكبر في ظل ترسيخ العلوم الطبية الحديثة.
اهتمت الحكومة بشكل مباشر وأكبر بالصحة العامة، فتم الإشراف على نظافة الحمامات العامة، وإدارة المياه الصحية لتصل إلى جميع المواطنين بالتساوي، كما ازدادت عملية التعليم الصحي للنساء عبر المجلات والصحف.
حينما فرضت الدولة البَهْلَوِية (1925-1979)، التعليم للأطفال، وافتتحت جامعة طهران وكلية الطب، شهدت البلاد قفزةً كبيرةً في مجال الصحة العامة واهتمام الناس بالطب الحديث.
منحت الأجواء السائدة حق الاختيار للمواطنين بين الطب الحديث أو التقليدي، بين المعدات والأدوات والعمليات الجراحية أو الطرق القديمة المليئة بالألم. كما سنحت الفرصة بالتساوي لاختيار فرع الطب أمام جميع الطلاب، وكثرت المؤسسات والدوائر الحكومية التي تعني بالأمر الصحي.
تتمتع إيران اليوم بقطاع طبي عالي المستوى على صعيد منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى أنها تستقطب الكثير من مرضى الدول الأخرى للعلاج بسبب حذاقة أطبائها وأسعارها المناسبة في العلاج.
ويحظى الطبيب الإيراني بمكانة مرموقة في أي دولة ينوي الهجرة إليها. وخلال الأعوام الماضية، ونتيجةً للضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تحمّلها المجتمع، هاجر الكثير من الأطباء نحو الدول الغربية وحتى دول المنطقة. ووصلت وتيرة الهجرة إلى الممرضين/ات، وطلبة العلوم الطبية، إذ تقدّم المستشفيات والجامعات الكندية والأمريكية والأوروبية فرصاً بالمجان لاستقطاب هذه الفئة سنوياً، وذلك لتجربة إيران الفريدة في مجال الطب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع