بعد غروب شمس اليوم الأخير من سنة 1986، تنادى طلبة في المدينة الجامعية، أغلبهم من كلية دار العلوم معقل التيار السلفي في جامعة القاهرة، داعين إلى "صلاة رأس السنة". لم يسمّوا الصلاة بذلك الاسم، وهي غير واردة في القرآن أو السنة، ولم يوص بها أحد الأئمة الأربعة، والإمام المصري الليث بن سعد لا يحتاج إلى ذكرها؛ لما عهد على المصريين من جعل العبادات طقسا مبهجا، يتقربون إلى الله بالحب.
أقيمت "صلاة رأس السنة" قبيل منتصف الليل، وبها استقبلوا السنة الجديدة، وابتهلوا إلى الله ألا ينزل عقابه، بسبب نصارى في الكنائس سيطفئون الأنوار، في منتصف الليل تماما، وينخرطون في ممارسات ماجنة يتصورها الخيال الفقير قبلات ساخنة. كما ذهب الخيال الفقير إلى أن خارج الكنائس، في أمكنة خفية أو معلنة، مسلمين عصاة تطربهم "المعازف"، ويشربون الخمر ويعربدون، فيضايقون الله ويعكّرون صفو مُلكه. وفي وقت لاحق سنكتشف أن الخمر تجعل شاربها أكثر تسامحا وتصالحا مع الناس، وأن المتشنجين، "الخائفين على الله"، كارهون للحياة، مستعدون للقتل، وفيهم يصدق ما ذكره إنجيل يوحنا "تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله".
لا تنهى "صلاة رأس السنة" عن منكر. كانت اعتذارا إلى الله عما تصورناها إساءات يرتكبها مسلمون عصاة، ونصارى نراهم ضالين. تلك صلاة تنطوي على الظن بأن الله فقير، فنجتهد في إغنائه. وأن الدين هشّ يستحق إعلاننا عن التمسك به، والتبرؤ من سلوك آخرين ولو لم يتعرضوا لأحد بأذى. ملاك الحقيقة ينوبون عن الله، يمسكون معيارا لقياس منسوب إيمان الآخرين. ولا أدري إلى متى استمرت تلك الصلاة، ولكن مفتاح رحمة الله لا يزال بأيدي مسلمين قال عنهم ابن سينا: "بُـلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم". أعصابهم عارية، يسري فيها تيار كهربائي، كلما رأوا كنيسة أو علموا بتوجّه مسيحيين، في صمت، إلى الصلاة في بيت أحدهم حيث لا توجد كنيسة.
حمَـلة مقياس الإيمان
أتذكر "صلاة رأس السنة" وحمَـلة مقياس الإيمان سنويا، كلما نشر اللاعب المصري محمد صلاح صورة مع أسرته احتفالا بعيد الميلاد. قبل فتنة محمد صلاح، وبعد خلع حسني مبارك، جرت دماء الاستقواء والصلف في شرايين إخوانية وسلفية، فتأسست "الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح"، بعضوية خيرت الشاطر وصفوت حجازي وحازم أبو إسماعيل ومحمد عبد المقصود ومحمد حسين يعقوب ومحمد حسان وياسر برهامي. وفي نهاية عام 2011، واستبَـقت الهيئة أعياد الميلاد بفتوى عدم جواز تهنئة المسيحيين بأعيادهم الدينية، إذ "المسلمون الذين لا يعتقدون في صلب السيد المسيح عليه السلام لا يحل لهم بحال التهنئة بقيامته المدعاة".
لا تنهى "صلاة رأس السنة" عن منكر. كانت اعتذارا إلى الله عما تصورناها إساءات يرتكبها مسلمون عصاة، ونصارى نراهم ضالين. تلك صلاة تنطوي على الظن بأن الله فقير، فنجتهد في إغنائه. وأن الدين هشّ يستحق إعلاننا عن التمسك به، والتبرؤ من سلوك آخرين ولو لم يتعرضوا لأحد بأذى
سقط المشروع السياسي الإخواني السلفي مؤقتا، وروحه تنبض مؤسسيا وشعبيا. ففي 29 كانون الأول/ديسمبر 2015 أعلنت دار الإفتاء الليبية أن الاحتفال برأس السنة الميلادية "محرم شرعا؛ لما فيه من إقرار لما عليه النصارى من شعائر الكفر، ورضى به، ويحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنئ بها غيره؛ لأن الله تعالى لا يرضى بذلك، قال تعالى: (إِن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر)". وقالت دار الإفتاء المصرية: "لا يجوز لأحد من المسلمين مشاركة أهل الكتاب في الاحتفال بعيد الكريسمس (أول السنة الميلادية) ولا تهنئتهم بهذه المناسبة لأن العيد من جنس أعمالهم التي هي دينهم الخاص بهم، أو شعار دينهم الباطل، وقد نهينا عن موافقتهم في أعيادهم، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار". وجرى التراجع في مصر.
يجيز الطبيب ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية الاستمتاع الجنسي بالزوجة المسيحية "الكافرة"، بشرط كراهيتها، فليس "كل من يغتصب امرأة بيحبها؟! يعاشرها من أجل جسدها فقط ولا يحبها في الحقيقة
تراجعٌ لا اعتذار. لم أنتظر اعتذارا إلى المسيحيين، وإنما عن تغييب العقل. ولا أملك إلا صوتي فأرفعه قائلا: السلام عليكم يا أهل الكتاب. السلام والتهنئة، رغم أنف الطبيب ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية الذي يجيز الاستمتاع الجنسي بالزوجة المسيحية "الكافرة"، بشرط كراهيتها، فليس "كل من يغتصب امرأة بيحبها؟! يعاشرها من أجل جسدها فقط ولا يحبها في الحقيقة... مأمور هو كما ذكرنا بأن يبغضها... يقول لها إنه يبغض دينها بلا شك... يبغضها من أجل أنها كافرة... لو دخل البيت لا يبدؤها بالسلام، لو له أولاد مسلمين يقول: السلام عليكم، وهو يقصد المسلمين. لا يبدؤها بالسلام". الشذوذ النفسي جعل برهامي يفتي بجواز زواج الطفلة قبل البلوغ. سلوك يجرمه القانون، وينفُر منه التطور الأخلاقي البشري. أولى بهؤلاء أن تتعهدهم مؤسسة تؤهلهم إنسانيا، وتعالجهم من هلاوس الاستعلاء الديني، وتنظف قلوبهم من شوائب حفظوها خارج سياقها التاريخي.
محمد صلاح وشجرة الكريسماس
في 24 كانون الأول/ديسمبر 2022، عشية الاحتفال بعيد الميلاد، نشر محمد صلاح صورة في بيته، مع أسرته، وخلفهم شجرة الكريسماس، وحظيت بالآلاف من التعليقات. صورة مفرحة، تفاعلا مع طقس كوني أكبر من دلالته الدينية. لكنها أطلقت وحوشا كامنة في قلوب من يدّعون المعرفة بالشريعة، ويقسمون رحمة ربك. تسلحت الفيالق بترسانة من الكتب القديمة، وأحضروا أرواح ابن تيمية وابن القيم وكتابه "أحكام أهل الذمة"، ومحمد الشعراوي بمقطع فيديو يستعيذ فيه بالله أن نكون "من أهل الكتاب محلّ الرضا".
بعد تمهيد المدفعية السلفية جاء دور الأفراد المساكين. أحدهم نصح اللاعب بتغيير اسمه: "ما عدت محمد صلاح، أنت مايكل ستيفن". واتهمه الكثيرون بالانبطاح والخنوع، "وتمييع الدين والتجرد من القيم.. وتأكد أن العزة بالتمسك بهذا الدين وما سواه مذلة"، وعلق أحدهم: "أنت تافه وتابع لملة ليست بملتك ودين لم يكن دينك وتسعى وراء الجدل وإرضاء الغرب". ونصحه أحدهم بتغيير اسم ابنته "من مكة إلى فاتيكان"، واستعان آخر بمقطع فيديو لشيخ يستر كل شيء إلا وجهه وكفيه، اسمه الدكتور عثمان الخميس، ينهى عن تهنئة المسيحيين "على الكفر. لا تجوز التهنئة على دين باطل". ويحتج بأن رأي ابن تيمية "واضح"، في كتابه "الصراط المستقيم في الرد على أصحاب الجحيم".
الشذوذ النفسي جعل ياسر برهامي يفتي بجواز زواج الطفلة قبل البلوغ. سلوك يجرمه القانون، وينفُر منه التطور الأخلاقي البشري. أولى بهؤلاء أن تتعهدهم مؤسسة تؤهلهم إنسانيا، وتعالجهم من هلاوس الاستعلاء الديني، وتنظف قلوبهم من شوائب حفظوها خارج سياقها التاريخي
عنوان كتاب ابن تيمية تضليل، افتئات على الله. ينص القرآن على أن لغير المسلمين "شرعة ومنهاجا". ويقول في سورة البقرة "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وعن أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث وغيرهم جاءت آية سورة الحج أكثر شمولا "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة، إن الله على كل شيء شهيد".
ماذا يضر المسلم في احتفال مسلم آخر بعيد لغير المسلمين؟ هناك نكتة دالة عن محكوميْن بالإعدام، وعدتهما إدارة السجن بتلبية طلب أخير لكل منهما، قبل تنفيذ الحكم. الأول طلب رؤية أمه. ولم يطلب الثاني إلا أن يحرم الأول من رؤية أمه. الساديون يسرّهم أن يروا غيرهم في الجحيم.
ورثة الفردوس
السلفيون لا يكفيهم اليقين بأنهم ورثة الفردوس. لا يتحقق لهم اكتمال النعيم إلا بعذاب المسيحيين. وينسون أنهم يطلقون هذا الوعيد عبر منصات من ثمار جهود مسيحيين وبوذيين. كانت المرارة تحتمل الحويني الكبير أبا إسحق، المحرض على غزو غير المسلمين لإنعاش الاقتصاد الإسلامي، فجاء ابنه الحويني الصغير معلنا: "أنا مسلم لا أحتفل بالكريسماس" بالعربية والإنجليزية والفرنسية.
هل دعاه أحد إلى الاحتفال؟ لماذا لا يخترع المتنطعون وسيلة لمخاطبة أتباعهم، بعيدا عن وسائل اخترعها مسيحيون؟ ساعتها يكونون أكثر إقناعا واتساقا مع المنطق. ليقل الحوينيان، الكبير والصغير، وعثمان الخميس ما يشاءون. وليس لنا أن نسألهم: ماذا تشتغلون طوال السنة، بعد انتهاء موسم تجريم الكريسماس؟ السادية مهنة سخيفة.
ماذا يضر المسلم في احتفال مسلم آخر بعيد لغير المسلمين؟
الهراء السلفي الشعبوي ظل يطارد محمد صلاح حتى اليوم التالي، إذ نشر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر تغريدة لتهنئة القيادات المسيحية "والإخوة المسيحيين في الشرق والغرب بأعياد الميلاد، وأدعو الله أن يعلو صوت الأخوّة والسلام، ويسود الأمان والاستقرار في كل مكان"، فتعقبه العارفون بعقاب الله. سخروا منه، وزايدوا على دينه وعلمه. لم يسلم الشيخ الطيب من التطاول، ووصفه البعض بالضلال والنفاق.
واستعان البعض، كالعادة وبديلا عن العقل والإنسانية، بتراث ابن عثيمين، الصوتي والمطوي في قصاصات صحفية، وفيه يؤكد بيقين أن "تهنئة النصارى بأعيادهم محرمة. محرمة بالاتفاق. المهنئ لهم هنأهم بشعائر الكفر". وأخرجوا من الأضابير تصريحات مشابهة لابن باز والألباني.
خطاب أهل الذمة يقترن بقضايا الجزية، وتحريم إلقاء السلام على الزوجة المسيحية. ذهب الإخوان وبقي سلفيون يحملون أفكارا إخوانية. في عام 1997 نشرت صحيفة "الأهرام ويكلي" تصريح المرشد العام للإخوان آنذاك مصطفى مشهور: "لا يجوز دخول الأقباط إلى الجيش المصري؛ لأنه سيكون مشكوكا في ولائهم، وأنه بدلا من ذلك يجب أن نلزمهم بسداد الجزية". فتوجه محام إلى المحكمة، وجرت محاولات للصلح لكي يتنازل المحامي عن الدعوى. وقال مشهور للوسطاء: "قولوا في الصلح ما تشاءون، ولكن هذا لا يغير من الأمر شيئا، فالنصارى يجب أن يدفعوا الجزية.. كيف يدخلون الجيش، ويدافعون عن مشروعنا الإسلامي وهم لا يؤمنون بالإسلام.. هذا تشريع الله، هل نغير تشريع الله؟... لا يجوز أن نلقي عليهم السلام".
في عام 2016 سألت خالد داود، الصحفي في مؤسسة الأهرام والقيادي في حزب الدستور، الذي أجرى تلك المقابلة الصحفية مع مرشد الإخوان عن الواقعة، فقال إن المرشد شدد على أنه لا يحق للمسيحيين المصريين الالتحاق بالجيش، لأن جيش "الأمة المسلمة" يهدف إلى "إعلاء كلمة الله".
البارود الديني طاقة هائلة، لغمٌ متعدد الانفجارات، يستحق جهودا لتفكيكه إلى عناصره الأولى، ليصير رمادا، أو حجارة للبناء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع