في افتتاح ملتقى القاهرة السابع الإبداع الروائي العربي، آذار/مارس 2019، اقترح وزير الثقافة السابق جابر عصفور أن يكون "الرواية والإرهاب" عنواناً للدورة القادمة. وأظن الدورة ـ التي أجّل كورونا انعقادها ـ ستكون أكثر ثراء وفائدة إذا حملت عنوان "الرواية والاستبداد".
الاستبداد متنوع، ومتدرج، ويبدأ بالاستبداد الأسري والوظيفي والديني، وينتهي بالسياسي. نسف دوائر الاستبداد، من أعلى ومن القاعدة معاً، يحسم إلى الأبد قضايا معلقة، ويقطع الطرق على التنطع الديني أو الوصاية الوطنية. وبنزع القداسات، تبوخ مزاعم كهنة الوقائع التاريخية وحماة الرموز الثقافية والوطنية والدينية. اختبار صعب للسدنة؛ لينشغلوا بما ينفع الناس. فلنجرب ترك ما لقيصر لقيصر، أما الله فغني عن العالمين.
قوة الدول تُـكسبها مناعة. دولة العرب في الأندلس، وقبلها صعود الحضارة الإسلامية في الشرق، بغداد العباسيين تحديداً. الازدهار يحتمل التسامح، والتنوع وقبول الآخر، والتعايش مع الاختلاف.
المستمع إلى عبد الفتاح السيسي، في خطب رسمية من دون أن يعرفه، يظنه والياً على إمارة إسلامية لا رئيساً لأقدم دولة في التاريخ
حيوية الدولة لا تخشى شطحات فنية وفلسفية بلا ضفاف، لأبي نواس والمتنبي وأبي العلاء المعري وغيرهم. وفي مراحل التبعية والارتباك والخوف من غضب جماهيري يقوّض واجهة لامعة لبناء يتداعى، تُستثار المشاعر الدينية والوطنية.
كتبتُ كثيراً أن المستمع إلى عبد الفتاح السيسي، في خطب رسمية من دون أن يعرفه، يظنه والياً على إمارة إسلامية لا رئيساً لأقدم دولة في التاريخ؛ لاستبعاده عقلانية التخطيط الاستراتيجي، وانتهاجه خطاباً دينياً فضفاضاً عن حماية الله للبلاد، واختلاط الدعوة بالدولة.
الاستنارة والعقلانية لا بدّ أن تكون مشروع دولة، من الرأس. تأسست المملكة السعودية على خلط السياسي بالدعوي، واستسهال التحريم والتكفير. ابن باز أنكر دوران الأرض، وكفّر القائلين بثبات الشمس. وأفتى بمنع قيادة المرأة للسيارة، "والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية إلى المحرم... وقيادة المرأة من الأسباب المؤدية إلى ذلك، وهذا لا يخفى، ولكن الجهل بالأحكام الشرعية وبالعواقب السيئة التي يفضي إليها التساهل بالوسائل المفضية إلى المنكرات، مع ما يبتلى به الكثير من مرضى القلوب من محبة الإباحية والتمتع بالنظر إلى الأجنبيات، كل هذا يسبب الخوض في هذا الأمر وأشباهه بغير علم". فُرضت الحداثة من أعلى، فابتلعوا ألسنتهم. ودخلت الفتاوى كتب الفولكلور.
وفي مصر أصابتنا هزّتان الأسبوع الماضي. في حوار تلفزيوني، استنكرت الكاتبة سلوى بكر ما وصفته بسرقة طفولة الصغار، بذهاب طفل في السادسة قبل بدء الدراسة، إلى "المقرأة". رأت أن ذهابه إلى الكُتّاب أفضل؛ حيث يتعلم الدين واللغة والكتابة. حديث العقل لم يمس القرآن، وأهاج برلمانيين ومثقفين ومحامين هددوا بمحاكمتها بتهمة ازدراء الدين. وقبل الإفاقة، قال الشاعر ناصر دويدار، في ندوة باتحاد الكتاب، كلاما يسييء لأم كلثوم، وأنها اسغفلت أحمد رامي، وصاحبت أحد عشر رجلاً. تجاوز حدود الرأي إلى القذف. وسبق أن أشار إدوارد سعيد، في مقاله عن تحية كاريوكا، إلى شيء من هذا القبيل عن أم كلثوم، ولم يُستنفر أحد.
هناك في اليمين الأوروبي المتطرف قوى تلعب على التهاب أعصاب المسلمين. تجاهُـل هذه الأصوات يطفئ نيران أحقادها. وهنا من أدركتهم الأضواء في خريف الأعمار يلعبون على هذا العصب العاري، ويستمرئون شهرة مقترنة بتصريحات شعبوية مهما يكن نصيبها من الحقيقة.
لا يليق بباحث أن يطلق كلاماً شوارعياً استمرأه يوسف زيدان. يحلو له تكرار أن صلاح الدين "واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ". لم يدّخر الصفة لبن جوريون. خطايا صلاح الدين لا شيء مقارنة ببضعة مجرمين أشعلوا حربين عالميتين زاد ضحاياها على 60 مليوناً. الحماسة لصلاح الدين من أسباب شروع البرلمان، عام 2017، في مناقشة مشروع قانون تجريم إهانة الرموز الدينية والتاريخية والسياسية.
الاستبداد متنوع، ومتدرج، ويبدأ بالاستبداد الأسري والوظيفي والديني، وينتهي بالسياسي
هذا القانون خطر، وكذلك القوانين العرفية المستندة إلى قاعدة شعبية أو ثقافية هالتها إهانة أم كلثوم التي غنّت يوماً "الخلاعة والدلاعة مذهبي من زمان أهوى صفاها والنبي"، إذا فتح الباب لا يغلق. الاتفاق البشري والفقهي مفهوم خيالي.
لا أحد يملك المعايير لمن يكون "الرمز". من استقر شهيداً لدى قطاع عقائدي مليوني، قد يكون مجرماً لدى قطاع آخر. ومن يستحق إقامة تمثال في ميدان، قد يتهم أخلاقياً. لا اتفاق على أحد من هولاء: صلاح الدين، محمد عبده، طه حسين، عبد الناصر، أم كلثوم، نجيب محفوظ. في عام 2015 رفض أهالي قرية في محافظة القليوبية إطلاق اسم فاتن حمامة على مجمع للمدارس.
هل الحل هو الاستعلاء على الانتقادات، وترك الآراء تتدافع ما لم تحض على كراهية وعدوان؟ ألا يكون لأحد أو مؤسسة قداسة؟ في مجلد "الإصلاح الفكري، والتربوي، والإلهيات" في الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده يقول "إن بقاء الأزهر متداعيا على حاله في هذا العصر محال. فهو إما أن يعمر، وإما أن يتم خرابه"، ويخشى على جهود الإصلاح من "العمائم"، ويضيف: "إذا كان لي حظ من العلم الصحيح... فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة!!". ولم يرتج الأزهر من هذا الانتقاد.
لا يجرؤ مسلم على كتابة عمل أدبي يتخيل عودة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لرؤية أحوال أمته. جرؤ ديفيد هربرت لورانس في روايته "الرجل الذي مات"، وتخيل بعثاً للسيد المسيح، لإشباع جانب حسي لم تتسع له حياته: "المعلم والمخلص فيّ قد ماتا ويمكنني الآن أن أفعل ما شئت وأن أعيش حياتي الخاصة". ويعرف كاهنة معبد إيزيس في سيناء، وتأخذه المغامرة إلى منتهاها، رغم مناشدة أتباعه البقاء على حالته الأولى. ويقول للمرأة: "لن أقبل أن يخونني أحد مرة ثانية". ويغادرها هاربا من مطاردة الرومان، ويعدها بالعودة: "لقد غرست بذرة حياتي وبعثي ووضعت لمستي إلى الأبد في أحلى امرأة في هذا الزمان".
الاتفاق البشري والفقهي مفهوم خيالي. لا أحد يملك المعايير لمن يكون "الرمز". من استقر شهيداً لدى قطاع عقائدي مليوني، قد يكون مجرماً لدى قطاع آخر
نشرت الرواية عام 1929. وفي مقدمة الطبعة العربية التي أصدرتها "روايات الهلال"، ذكر المترجم رمسيس عوض أن عنوانها كان "الديك الهارب"، وأنه لا يستهدف بنشرها إساءة إلى الدين المسيحي أو السيد المسيح، "فليس هناك ما هو أغلى منهما لدى مترجم هذه القصة. والذي أغراني بترجمتها والسعي إلى نشرها ما تتسم به من غرابة من ناحية ورغبتي في إلقاء الضوء على نمط من الفكر الغربي لم نألفه في الشرق". واقترحتُ على الدكتور رمسيس إعادة نشر الرواية، فقال إن الظرف العام لم يعد يحتمل: "بعدما عدّى نشرها على خير" عام 1997. ولم تسجل بسببها حالات ارتداد عن المسيحية في بريطانيا أو مصر.
مرّ نشر رواية لورانس بسلام. كما وعى المسيحيون بأن الدين متين؛ وأهملوا الفنان الأمريكي آندريه سيرانو ولوحته المسيئة "Piss Christ" عام 1987. لم تهزّ اللوحة ثقة مسيحي بعقيدته، ولا انطلقت دعوات من الكنائس بعد صلاة الأحد لقتل الرسام. وفي سورة الأنعام آية تدعو إلى الإعراض عن "الذين يخوضون في آياتنا"، إعراض لا استتابة، ولا سجن. وهذا درس ودليل على أن قوة الإيمان أكبر من البذاءات، وأعظم من الاهتزاز كلما أطلق شيطان ريحاً، خصوصاً من فمه. فلنترك الخائضين. ليس أمضى في القتل من التجاهل. فلنجرب ألا تتعرى أعصابنا، وسوف نرى كيف تخبو النيران ولا تخلّف جمراً يعاد إشعاله أو اشتعاله. فلنجرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.