امرأة تُشبه الأمل، كالجبل لا يقهرها شيء. أعرفها منذ نعومة أظافري، وكلما تقدّم العمر كلما أحببتها وانبهرت بها أكثر، وتمنيت أن أكون في نصف قوتها وصمودها.
شاهدت كل تطورات حياتها، من فتاة في بداية حياتها العملية، تملأ البيت ضحكاً وصخباً هي وأخواتها، ثم زوجة لرجل طيب، ثم أم لطفل شقي.
ثم أتت المحطة التي بدأ عندها كل شيء حقاً: عندما ولدت طفلتها الأولى واكتشفت بعد فترة أنها تُعاني من ضعف شديد في الإبصار. صارت حياتها زيارات لانهائية للأطباء هي وزوجها لمعرفة السبب ومحاولة إيجاد علاج، ومئات من السفريات من مدينتها النائية إلى العاصمة، حيث أفضل الأطباء، بعد أن شعرا بأن أطباء المدينة قليلو الحيلة.
تحمل ابنتها على كتفها وتنطلق في القطار قاطعة ما يقرب من ألف كيلومتراً لزيارة الأطباء، وتعود في اليوم التالي نفس المشوار، لتُباشر وظيفتها كمدرّسة وترعى بيتها وابنها الآخر. أخبرها الأطباء أن ضعف الإبصار الشديد هذا عيب جيني كأحد نتائج زواج الأقارب، وأنه لا أمل في الشفاء. لكنها لم تفقد الأمل قط، وظلت تحاول لسنوات، لكن الجينات كانت أقوى من إصرارها، وأخذ بصر الفتاة يتلاشى تدريجياً حتى فقدته تماماً وهي لم تُكمل خمس سنوات.
أخبرها الأطباء أن ضعف الإبصار الشديد هذا عيب جيني كأحد نتائج زواج الأقارب، وأنه لا أمل في الشفاء. لكنها لم تفقد الأمل قط، وظلت تحاول لسنوات، لكن الجينات كانت أقوى من إصرارها، وأخذ بصر الفتاة يتلاشى تدريجياً حتى فقدته تماماً وهي لم تُكمل خمس سنوات
ثم أتت الطفلة الثانية (المولود الثالث) بنفس المشكلة تقريباً وإن ليس بنفس السوء، وشعرت حينها أن عالمها كله قد انهار: ثلاثة أطفال، منهما بنتان كفيفتان، وزوج نجّاه الله من حادث كبير، خرج منه معطوب الظهر، لا يقدر على حمل الأوزان أو الوقوف لمدد طويلة.
عندها رأيتها كما لم أرها من قبل، رأيتها تتأمّل في أنقاض عالمها القديم الذي انهار، تبكي وتصرخ وهي منهارة على ركبتيها، ثم تقوم وتُجفّف دمعها وتُعيد تشكيل عالم جديد تعيش فيه هي وأسرتها. لم يعد هناك أمل في العلاج، سيبقى الوضع كما هو، ابن معافى وبنت كفيفة وبنت ضعيفة البصر بشدة. هذا هو ما يجب أن تتعامل معه.
بدأت في تهيئة نفسها وزوجها على حياتهما الجديدة، تدرّباً نفسياً على الحياة تحت هذه الظروف، طلبت نقلها إلى مدرسة ضعاف البصر في نفس المدينة لتكون بجوار بناتها ولا تترك مسألة رعايتهما لأحد آخر، لكنها لم تجعلهما اعتماديتين، بل ساهمت بشكل كبير في جعلهما تعتمدان على نفسيهما في تسيير أمور حياتيهما، بحسب ما تسمح به الظروف، فأجادت الفتاتان الطبخ بدرجة كبيرة، والتحرّك داخل البيت وفي كل الأماكن المألوفة بيسر، وكل هذا في سن مبكر جداً.
إصرارها الشديد على عيش ابنتيها لحياة عادية وألا تشعرا بالحرمان أو الإعاقة كلفها الكثير من الطاقة والأموال، فاضطرّ زوجها إلى السفر لإحدى دول الخليج للعمل، وبقيت هي بيتاً آمناً لبناتها. سنوات مرّت، وتقدّمت الفتاتان في حياتيهما تحت ظل أمهما، تدرسان وتلعبان وتعيشان "بالطول والعرض".
ولم تكتف بالدراسة الرسمية، بل لم تدّخر جهداً في أن تنالا كل الحظوظ في التعليم. بل لم تدخر جهداً أو مالاً في استثمار أوقات الإجازات في "كورسات" لابنتيها، لا يهم إن كانت داخل المدينة البائسة أم في العاصمة. وبعد أن تخرّجت الأولى من كلية الآداب ونشطت مع منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية، صارت تسافر كل أسبوعين أو ثلاثة إلى العاصمة للاجتماعات أو الكورسات، وكانت أمها تسافر معها في كل مرّة. تترك الفتاة الأخرى لخالتها وتسافر بالأولى ليقضيا عدة أيام كل أسبوعين في دورات تدريبية واجتماعات تُساهم في صقل شخصية تلك الفتاة الجميلة.
أما الجميلة الأخرى فقد تخرّجت من كلية الألسن، والتي لم تكن في نفس مدينتها، لكن ذلك لم يمنع الأم من الموافقة على التحاقها بها، بل وسكنها في المدينة الجامعية، رغم أن ذلك كان يؤرق لياليها طوال الأربع سنوات، في البداية كانت تذهب إليها كل يوم أو يومين لتطمئن عليها وتتعرّف على زملائها في الكلية والسكن، وتحاول اصطفاء واحدة منهم لتكون رفيقة ابنتها، التي تعلمت طوال سنوات عمرها ألا تكون عبئاً على أحد، وبعد أن اطمأنت لإحدى الفتيات، ظلت تسافر إلى ابنتها أيضاً لكن فترات أبعد.
لم تكن التجربة سهلة على الفتاة وعلى أمها وأبيها، لكنهم كانوا يعرفون أنها تجربة مهمة يجب أن تخوضها، فلا أحد يدوم لأحد. وخلال إجازة الصيف كانت الأم تصطحب فتاتها الصغرى إلى العاصمة كل أسبوع لتدرس اللغة التي تخصّصت فيها في دورات تدريب إضافية لتطور من نفسها.
طلبت خالتي نقلها إلى مدرسة ضعاف البصر في نفس المدينة لتكون بجوار بناتها ولا تترك مسألة رعايتهما لأحد آخر، لكنها لم تجعلهما اعتماديتين، بل ساهمت بشكل كبير في جعلهما تعتمدان على نفسيهما في تسيير أمور حياتيهما
كنت ولازلت شاهداً على تلك القصة العظيمة التي لم تنته بعد، ورغم كل حبي واحترامي لخالتي وتقديري لها، لم أفهم ما الذي تفعله تحديداً، بل وكنت في بعض الأوقات أنتقد "تقل قلبها" في التعامل فيما يتعلق بالفتاتين، لكن بعد كثير من الوقت، تحديداً حين رأيت النتائج، فهمت ما كانت تقوم به، فهمت عندما رأيت الفتاتين لا تشكلان عبئاً على أحد، لا على الأهل ولا على الأصدقاء، كل من يعرفهما يحبهما بشدّة ويحب وجودهما معه، يعرف الجميع جيداً أنهما لن تطلبها المساعدة إلا إن احتاجا إليها فعلاً، وأمام ذلك فهما شخصيتان جميلتا المعشر.
سعت خالتي طوال سنوات لبناء شخصيتين فريدتين تُدركان حالتهما جيداً، لا يتعاملان كأنهما سليمتان مائة في المائة، لكن النقص الذي ابتليتا به لم يؤثر عليهما نفسياً بشكل سلبي، بل أدركتا أين تقفا تحديداً، وكيف يمكن الاستفادة من مكان وقفوهما بأفضل شكل ممكن، وكيف يمكن أن تُفيدا من حولهما وتتركا أثراً طيباً لا يمحوه الزمن.
فتشاركا مع الجمعيات الخيرية لتقديم المساعدة كما تقدران عليها، وأقنعت الفتاة الصغرى الكثير من مطاعم وكافيهات مدينتها بأن تُترجم لهما قوائم الطعام والشراب بطريقة برايل دون أجر، لمجرّد أن تترك الفرصة لمن هم مثلها في التعامل بنفسهما دون احتياج لأحد يتلو الطعام والشراب على مسامعهم ليختاروا.
وأعرف جيداً أن خالتي العظيمة تعيش قلقاً بدأ منذ ولادة الفتاة الأولى ولن ينتهي، قلقاً من القادم والمجهول، من وقت تكون الفتاتان فيه وحدهما وتكون هي وقتها في عالم آخر، هي تعرف جيداً أن الحياة بالقسوة الكافية لتدمير أي شخص ما إن تسنح لها الفرصة، وأنها حاولت تشكيل الفتاتين لتصمدا، لكن دائماً ما أرى في عينيها شعوراً بتقصير غير حقيقي، ينمحي أحياناً حين تسمع آراء صديقات بناتها فيهما، وكيف أنهم خفيفتا الروح، لا تشكلان عبئاً على أحد، بل تقدران على التعامل في أغلب الشؤون وحدهما، حينها فقط أرى في عينيها إدراكاً لحظياً بأنها أدت مهمتها ويمكنها أن تستريح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...