بيت هادئ على مساحة خضراء، كرسي مريح ومنضدة بجواره، مواجهين للزجاج الذي يطلّ على المساحة الخضراء تلك، أرفف من الكتب في الخلف وشاشة كبيرة لعرض الأفلام والمسلسلات وصفّ من النباتات أمام المنزل أرعاها صبيحة كل يوم... هكذا تخيّلت كيف سأمضي حياتي بعد تقاعدي، جامعاً كل ما أحب حولي، ممتلكاً كل الوقت اللازم للتمتع ، بعيداً عن مسيرات الجري وراء الرزق أو ضغوط العمل.
زد على ذلك خريطة صغيرة لبعض المدن حول العالم، أوشكت على طباعتها للاحتفاظ بها إلى حين حلول ذلك الموعد، من البندقية في إيطاليا إلى الجزيرة التي عاش فيها زوربا في اليونان، ومنها إلى حيث يودع الهندوس أمواتهم في المحيط بحثاً عن العبور للأبدية في ، ونهاية بجلسة تأمل طويلة أعلى جبال التبت رفقة بوذي ما.
للتقاعد ثمن... هل نستطيع تحمله؟
لكن ما حدث أنني في رحلة عادية إلى العمل استعنت بتوك توك لإيصالي حيث وجهتي، فلاحظت أن السائق رجل كبير في العمر، تقريباً هي نفس المرحلة التي يجب أن أكون فيها أتنزّه بمراكب البندقية، لذا اندهشت: لم هذا الرجل يقود توك توك بدلاً من الذهاب إلى البندقية؟ وهل من المعقول أنه وضع منذ زمن في خطة تقاعده قيادة مركبة لم تكن أصلاً قد وجدت في شبابه أغلب الظن؟
في رحلة عادية إلى العمل استعنت بتوك توك لإيصالي حيث وجهتي، فلاحظت أن السائق رجل كبير في العمر، تقريباً هي نفس المرحلة التي يجب أن أكون فيها أتنزّه بمراكب البندقية، لذا اندهشت: لم هذا الرجل يقود توك توك بدلاً من الذهاب إلى البندقية؟
سألته بعد تردّد عن عمله، ابتسم وكأنه اعتاد السؤال ومازحني قائلاً: "علشان رجل برة ورجل في القبر يعني؟"، ثم شرح لي أنه اضطرّ للعمل مجدداً بعد فترة تقاعد قصيرة لم تتخط السنة، بسبب التغيرات الاقتصادية التي حدثت مؤخراً في البلاد، وحكى لي كيف أصبح المعاش الذي يتقاضاه لا يكفي لأساسيات الحياة من مأكل فقط، وأنه، رغم امتلاكه لمسكن، لا يستطيع تحمل فواتيره الآن، خاصة بعد الزيادات التي حدثت، ما جعل التقاعد رفاهية لم يحظ بها، وأقتبس عنه قوله "كله بيزيد والعمر بينقص".
هنا أدركت أن التقاعد ليس أمراً مفروغاً منه، لكنه مثل كل شيء في العالم حالياً له ثمن، وأغلب الظن أني لن أستطع دفعه، فودّعت الكرسي والمنضدة والنباتات التي أردت أن أرعاها عند كبري، وبدأت أتساءل: ترى أي مشروع هو الأنسب لي بعد التقاعد؟
نمط متكرّر وأحلام ضائعة
منذ تلك اللحظة، بدأت في ملاحظة أن مشهد الرجل كبير السن الذي يبدو عليه أنه يمتهن مهنة حديث المعرفة بها، متكرّر للغاية من حولي، مثل ذلك الرجل الذي وقف خلف عربة صغيرة لبيع السجائر، وآخر أعلن عودته لتدريس طلبة الصفوف الأولى منزلياً، في نبرة تبدو احتفالية لكني رأيتها حزينة للغاية، فلا شك عندي أن سائق التوك توك وبائع السجائر لم يحلما أن ينتهي بهما الحال بالتقاعد على مقعد وخلف عربة، بدلاً من منزل مريح ومدفأة مثلاً، ببساطة تحوّلت الأحلام الوردية إلى أحلام مادية مرة أخرى.
الخطة ب
بدأت الآن في وضع خطة بديلة للتقاعد، إذ قمت باستبدال رحلات حول العالم بالأجازات الموسمية داخل البلاد – وأشك في قدرتي على فعل ذلك أيضاً – تقليلاً للنفقات وتوفيراً للوقت من أجل القيام بالعمل المجهول الذي ينتظرني، وقرّرت ألا أهجر متابعة سوق العمل والتطوّر الذي يحدث فيه أبداً، لأنه مع ضبابية مشهد السوق سيكون من الآمن ألا يفصل بيني وبينه غموض كبير يضطرني إلى البحث عن عمل عضلي أكثر، قد لا يسعفني جسدي حينها لإتمامه، ومن يدري، ربما أخضع لإتقان قواعد الذكاء الاصطناعي في مجال التسويق بعدما اتخذت موقفاً بعدم استخدامه أبداً، فكما للسوق أحكام للسن أيضاً أحكام.
شراء تك توك والعمل عليه، التنزّه على الأقدام بلا هدف، شرب أكواب لا تحصى من الشاي، التدخين ولعب الداما ومراقبة النساء... ما هي مخططاتك للتقاعد؟
لا أعرف هل تلك ظاهرة عالمية أم فقط في مصر، لم أذهب ولو لمرة خارج مصر لأعرف عن قرب، فكما قلت، جميع رحلاتي إلى خارجها كانت في الخطة المستقبلية المهدّدة بالإلغاء، لكني أشعر بحزن عندما أتخيل عالماً يعمل فيه الجميع بلا توقف كالماكينات حتى لحظاتهم الأخيرة، جبراً وبسبب أزمات اقتصادية.
نصف الكوب الممتلئ
أتذكر منذ سنوات أني كتبت مقالاً في نفس هذا المكان العزيز رصيف22، أشكو فيه من عدم توفير فرص عمل للكبار الذين يتخطون الستين عاماً، أو كما نقرأ كثيراً في إعلانات الوظائف أنه يجب ألا يتخطّى عمر المتقدم لشغل الوظيفة بضع وثلاثين عاماً على أقصى تقدير، لذا فمن ناحية أخرى قد يكون الحل هو اعتياد سوق العمل على توافد المغادرين منه إليه مجدّداً، فيصبح، بحكم العادة، توظيف كبار السن أمراً عادياً غير مستبعد، رغم أنه سيكون بالإجبار حينها.
وربما أيضاً أني أخشى ما أجهله فقط، وأن العمل في الكبر قد يكون حاجة وليس رفاهية، وأقصد بالحاجة هنا حاجة شخصية، تضع أهدافاً لأناس جردوا من أهدافهم بسبب بضع أرقام تصف أعمارهم. لا أدري، كل ما أعرفه أن السبيل إلى رحلاتي وراحاتي أصبح مشكوكاً في أمره بشكل كبير، وأنه لو صادفني حسن الحظ فسأحتفظ بكتبي وشاشة الأفلام فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 17 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت