شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
قصة المطبخ الفلسطيني... عن طعم الحياة قبل الاحتلال

قصة المطبخ الفلسطيني... عن طعم الحياة قبل الاحتلال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الخميس 24 أغسطس 202310:15 ص

كان صوت الشاعر محمود درويش يعلو في أرجاء بيتي وهو يغزل شوقه لخبز أمه وقهوتها، وكنتُ حريصةً في تلك اللحظة على أن أصنع جوًّا شاعرياً وأنا أجهز "القدرة الخليلية" لضيوفي، فاتَّبعتُ خطوات التحضير كما أخبرتني إياها أمي بالحرف الواحد. وجلستُ أنتظر اللحظة الحاسمة وأنا أتباهى بحلة القدرة حتى جاءني صوتُ صديقي الخليلي وهو يقول: "ولكن هذه ليست قدرة". 

جدلية القدرة خليلية 

ظننتُها مزحة إلى أن بدأ بعرض صور قدرة أمه المتوسدة في حلةٍ نحاسية كبيرة والخالية تماماً من الحمص والثوم. كنتُ أنتظرُ القول الفصل من صديقي الغزي، لكن بقيتْ هذه المسألة مُعلَّقة، فلم يكن الأمر مرتبطاً بحلة القدرة فحسب، بل طال النقاش إلى أصل الكثير من الأطباق التراثية. فما هو أساس المقلوبة؟ ومن أين جاءتْ فكرة السُّماقية؟ ولماذا يحرص أهل بربرة على طبخ حبات المفتول بحجم كبير؟ في حين أنَّ أهل المجدل يفضلون الحبات الصغيرة؟ كلُّ هذه التساؤلات فتحت مجالاً للبحث عن أصل الحكاية في تنوُّع المطبخ الفلسطيني.  

كنتُ حريصةً وأنا أجهز "القدرة" لضيوفي، فاتَّبعتُ خطوات تحضير أمي بالحرف الواحد. وجلستُ أنتظر اللحظة الحاسمة وأنا أتباهى بحلة القدرة حتى جاءني صوتُ صديقي الخليلي: "ولكن هذه ليست قدرة"

تقول الباحثة المختصة بعلوم وثقافة الطبخ فداء أبو حمدية في حديثها لرصيف22: "إن هذه الاختلافات لا ترتبط بكينونة الطبق نفسه، فالخصوصية التي يمتاز بها المطبخ الفلسطيني أدَّت إلى ولادة تنوّع ملحوظ في صنع الطبق الواحد بين منطقة وأخرى. فلكل وصفة حكاية تعود بأصلها إلى تاريخ فلسطين، وهذا ما جعل المطبخ الفلسطيني مرتبطاً بالهوية والتراث، وشكلاً من أشكال المقاومة. وهذا الأمر أوجد تشابهاً بين صمود الفلسطيني ودفاعه عن القضية وطبيعة الأطباق التراثية وتنوعها".

تتابع أبو حمدية: "الاختلاف في طريقة طبخ الطبق الواحد بين مدينة وأخرى يعود إلى أسباب جغرافية واجتماعية وسياسية أحياناً، فعلى سبيل المثال اشتهرتْ مدن الساحل مثل يافا وعكا بصنع المقلوبة من السمك الذي يصطادونه من خيرات البحر، في حين أنَّ سكَّان المناطق الجبلية مثل القدس والخليل اشتهروا بطبخ مقلوبة الدجاج أو اللحم لصعوبة الوصول إلى الأسماك الطازجة بشكلٍ مستمر".

وتشير إلى أن الأمر لا يتوقَّف التنوع الجغرافي، فقد أصبح لبعض المدن طابع مميز عن غيرها في نكهة الأكل الحار واستخدام الشطة بشكلٍ أساسي، وذلك لوجود مساحات شاسعة من مزارع الفلفل ومواسم مخصصة لقطف وكبس الفلفل وتخزينه على مدار العام. في حين أن بعض المدن اشتهرتْ بطبقٍ لا تجده في مدن أخرى كأكلة العكوب التي اقتصرت شهرتها على مدينة نابلس، وطبق السماقية الذي اشتهرت به مدينة غزة والذي يُطبخُ في مواسم الأفراح والأعياد. 

طبق الغني وطبق الفقير 

ومن جهةٍ أخرى فإن العامل الاجتماعي يبدو جلياً في هذا التنوع، فاستخدام اللحم في طبق الجريشة الفلسطينية لم يكن معروفاً إلَّا بين العائلات الغنية، وإضافة بعض الخضراوات أو المنكهات التي لا تتوفَّر إلا في مواسمَ معينة كالقرع الأحمر والثوم، كان أيضاً دليلاً على القدرة المادية للعائلة؛ مما أدى إلى تنوعٍ ملموس في صنع الطبق الواحد.

استخدام اللحم في الجريشة الفلسطينية لم يكن معروفاً إلَّا بين العائلات الغنية، وإضافة الخضراوات كالقرع الأحمر والثوم كان يدل على ثراء العائلة

وأمَّا عن العوامل السياسية فتتمثل بشكلٍ أساسي في وجود الاحتلال الإسرائيلي، بدايةً من أحداث النكبة الفلسطينية وما تبِعها من تشريد وهجرة أسفرتْ عن لجوء الفلسطيني إلى مناطقَ مختلفة داخل فلسطين وخارجها، فتأثَّرت بعض الأطباق بطبيعة المنطقة الجغرافية المُهاجَر إليها.

مثلاً عندما هاجر أهل يافا إلى مدينة غزة، لم يكن متاحاً أمامهم أن يطبخوا طبق الرُّمانية الشهير كما اعتادوا عليه، والذي يعتمد على استخدام الرَّمان الأصفر الصغير ذي الحموضة العالية. شروط كهذه لم تكن متوفرة إلَّا في مدينة يافا، فرفض عشَّاقه الاستسلام لظروف الهجرة، ولجأوا إلى استخدام الرُّمان الأحمر الكبير المتوفر في مدينة غزة، والذي امتاز بحلاوته أكثر من حموضته. إلى جانب إضافة بعض المُنكهات التي يمكن أن تضيف حموضةً قريبة من حموضة طبق الرُّمانية الأصيل. ليس هذا فحسب، بل إنَّ بعض العائلات أبدعتْ في إضافة مكوّناتٍ لم تكن موجودةً في طريقة الطبخ الأصلية، كاستخدام قرون الشطة والفلفل الأحمر المطحون، وعشبة عين الجرادة أو (الشَّبت) كما يسميها بعض أهل الساحل. 

تغير الزراعة  غيّر الوصفات 

يوضح المهندس الزراعي ناصر قادوس، بأنّ الإجراءات والقوانين التي يفرضها الاحتلال على القطاع الزراعي في فلسطين أدت إلى انحسار الرقعة الزراعية للكثير من المحاصيل بشكل واضح. بدءاً من سرقة الاحتلال لأراضي المُزارعين الفلسطينيين، ومُساندة المستوطنين في اقتحام وتخريب الأراضي الزراعية، كما يحدث في مدينة نابلس، حيث يعمد المستوطنون كل عام قبل موعد حصاد القمح إلى حرق الأراضي الزراعية حتَّى تصبح أرضاً خاوية. هذا بالإضافة لصعوبة وصول الفلاحين إلى المياه اللازمة لري المحاصيل، بسبب سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على كل مصادر المياه في فلسطين، الأمر الذي دفع الكثير من المزارعين إلى تغيير نوع المحصول والاعتماد على محاصيل لا تحتاج إلى الكثير من المياه كأشجار الزيتون، وبعض أنواع الحمضيات. 

اشتهرتْ مدن الساحل مثل يافا وعكا بمقلوبة السمك،  في حين اشتهر أهل الجبل مثل القدس والخليل بمقلوبة الدجاج واللحم لصعوبة الوصول إلى الأسماك الطازجة بشكل مستمر

ويتابع قادوس في حديثه لرصيف22: " لم يكتف الاحتلال بإجراءات التضييق، بل اتَّبع نهج مصادرة الأراضي الفلسطينية وتحوليها إلى مستوطنات إسرائيلية مثل التجمعات الاستيطانية في الأراضي الزراعية في محافطة قلقيلية والخليل والأغوار، مما يفسر التراجع الملحوظ في إنتاج محاصيل البندورة والزهرة والعنب بعض أنواع الحمضيات التي اشتهرت بها تلك المناطق."

وبالتالي فإن المحاصيل الفلسطينية التي تمثل أساس الأطباق التراثية لم تعد متوفرة، مما دفع السيدة الفلسطينية إلى محاولة الحفاظ على أصالة الطبق من خلال المكونات المتاحة وتعويض الناقص بمكون شبيه لا يؤثر على المذاق الأصلي، كاستبدال البندورة التي تستخدم في صنع المفتول الفلسطيني بـالصلصة الجاهزة. والاستغناء عن وجود الزهرة ضمن مكونات المقلوبة في كثيرٍ من الأحيان.

وأمَّا عن أشهر الأطباق التراثية التي تحرص العائلة الفلسطينية على وجودها في المناسبات السعيدة، فتقول الشيف علا الحاج لرصيف22: "يعتبر المطبخ الفلسطيني من أكثر المطابخ الغنية بالتنوع، وهذا ما جعل المائدة الفلسطينية أشبه بلوحة فنية أمام أي زائر. فلا بد أن تترصد المقلوبة كل الأطباق إذا أردنا أن نكرمَ ضيفًا يزورنا للمرة الأولى. وإذا صادف الحضور موسم قطف الزيتون فلا بد من إعداد أقراص الزعتر والسبانخ والمسخن". 

طعم الحياة قبل الاحتلال 

تستذكر الحاج بعض المواقف التي عاشتها نتيجة اختلاف طريقة طبخ بعض الأطباق، فتقول: "في أول مرة عرضتُ مكونات طبق البصارة على صفحتي في الانستغرام وصلتني بعض الرسائل من أصدقاء في الضفة الغربية يستغربون المكونات التي استخدمتُها، حيثُ أن أهل الساحل يعتمدون في طبخ هذا الطبق على الفول والملوخية "الناشفة" مع إضافة الثوم والفلفل الأخضر والشبت وعصير الليمون، في حين أنَّ أهل الضفة الغربية يستخدمون العدس بدلًا من الفول وبعضهم يستغني عن وجود الفلفل الأخضر من الأساس". 

للتفاؤل... كل يوم تظهر شابات فلسطينيات يخصصن مشروعاً لحماية المطبخ الفلسطيني من الاندثار أو السرقة، ويقدمن وصفات جداتهن على منصات التواصل 

وترى الحاج أنَّ بعض الأطباق التي عهدنا وجودها منذ الصغر بدأت بالاندثار، فقبل عقدٍ من الزمن لم يكن للشتاء معنى دون وجود أطباق الكشك والمسلوعة والحماصيص. أما الآن فأصبح وجود هذه الأطباق نادراً، خاصة أنّها أطباق نباتية، أي أنَّها تحتاج إلى جهدٍ في حصادها وتنظيفها من الشوائب وطبخها. وفي متابعة أسباب اختفاء بعض الأطباق التراثية، تقول: "لا يمكن أن ننسى أيضاً غزو الوجبات السريعة وتحوُّلها إلى ثقافة أمام بعض أفراد الجيل الجديد، مما أوجد اختلافاً في الأذواق والرغبات".

وفي البحث عن سبل حماية الأطباق الفلسطينية، والمحافظة على وجودها التراثي، لجأت الشيف علا الحاج إلى تسخير حسابها عبر الانستغرام لوصفات الطبخ الفلسطيني، بدءاً من الأطباق المخصصة لوجبة الفطور كأقراص الزعتر والحمص والفلافل، وصولاً إلى وجبة العشاء بأطباقها الخفيفة والدسمة. وخلال عرضها للوصفة تتعمد الحديث عن أصل الطبق وربطه بقصته الحقيقة التي ورثتها عن جدتها.

أما الباحثة فداء أبو حمدية فسخرت مهاراتها البحثية واللغوية للحفاظ على روح الهوية المرتبطة بالمطبخ الفلسطيني، فإلى جانب عملها في قطاع السياحة الغذائية، ألفت كتاباً باللغة الإيطالية يحمل عنوان (POP Palestine Cuisine) أي (مطبخ فلسطيني شعبي). الأمر الذي أدى إلى تعرُّف الكثير من الأجانب على أسرار المطبخ الفلسطيني، وربطه بحقيقة القضية، بل وساهمتْ هذه الجهود في الإقبال الملحوظ على شراء الأطباق التراثية التي تُقام في معارض الطبخ الدولية، كالكعك والمعمول الذي يُصنع في مناسبات الأعياد، وطبق المسخن الفلسطيني، والكنافة النابلسية. وما بين طبقٍ وآخر تشرح أبو حمدية عن تاريخِ المدينة التي وُلِد فيها كل طبق، وكيف تنوَّعُ المذاق بين مدينة وأخرى.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard