في روايته الأولى "كُحل وحبّهان" يستحضرُ الكاتب المصري عمر طاهر أكلاتِ الجدّة التي استقرّت في الروح مرةً واحدة "لحقتُ أيامَها الأخيرة قبل اعتزالها الملاعب، عندها توقفَ سحرُ المطبخ" يقول إن الجدة اعتزلت لأنها لم تعد تعثر على المذاق المحفور في ذاكرتها، فالأشياءُ تغيرت والحالُ أيضاً.
طعام الجدات خيطٌ يعقِد الأكلَ بالمحبة، على موائدهن العامرة بالحكايا والوفرة والنكهات التي ستعلق في الوجدان لتشرّع أبواب الذاكرة كلَّ حين على تراثٍ وثقافة موثَّقة من خلال تلك الوجبات التي كلما تناولتَها شعرتَ وكأن جدتك تجلس بجوارك، تعانقك وتقصُّ لك الحكايا وتحثّك على غَرْف المزيد.
هذا التأثير لطعام الجدات -المقصود به موائد العائلة بطقوسها وتفاصيلها- لا يتوقف عند الحنين الذي يغذّي الذاكرة كلَّ حين، بل أثبتت الدراسات أنه يطال الصحةَ الجسدية والنفسية ويساهم في تشكيل وعينا العاطفي ليصبحَ طعامُ الجدات جزءاً من الإحساس بالذات في مراحلَ متقدمة.
بوابة الأصل وقاعدة الأمان
عام 2017 نُشِرت دراسةٌ من جامعة سويدية للباحثتين إليزابيث فون إيسن وفريدريكا مارتينسون، ربطتْ بين ذكريات الطعام الأولى ومرونة الإنسان في مراحل بلوغه. يعتقد الفريق السويدي أن الارتباطات الإيجابية بين الطعام والأسرة، تساعد في إنشاء قاعدة قوية لتشكيل مهارات التأقلم في الحياة المستقبلية.
اللافت في الدراسة أن خياراتِ الطعام والوجبات الغذائية في ظل العائلة تساعد على سرد الجزء الأكبر من قصة حياتنا وكيفية تطورها، وجانبٌ كبير من الإحساس بالذات يرتكز على العادات الغذائية التي تعلمناها في مطبخ الأم والجدة وتلك التجمعات العائلية، عبر المشاركة في حميميتها وطقوسها وإيقاعاتها المتكررة. كل ذلك سيكون له علاقة بأوقات الطعام التي سيقضيها الإنسان لاحقا مع الآخرين.
البحثُ أكد أن ذكريات الطعام والمواقف المُستمدة منها تُشكّل ما يسمونه "القاعدة الآمنة" التي تؤثر على الشعور بالأمان في العلاقات التي لا تتوقف فقط على التعامل مع الشريك. هذه القاعدة الآمنة التي تتشكل في مراحل مبكرة تساهم أيضاً في تشكيل قدرٍ من المرونة تجاه التحديات التي يواجهها المرء خلال مراحل البلوغ.
إضافة إلى أهميته في تشكيل وعينا العاطفي، يفتح طعام الجدات البابَ للإبحار نحو البدايات والأصل، وهو مايشفي الرغبة الملحة في الحفاظ على تسلسل الأحداث والصلة مع الماضي، تقول ناقدة الطعام السورية ريتا باريش مؤكدةً أن طعام الجدات يمثل على مر العصور "الحالة القياسية للطبق كأقدم نسخة نعرفه بها. حتى ليخيلَ لنا أن طعام جداتنا جاء من مصدر أصيل دون تغيير أو تحريف، فهو البدايات والحالة الخام التي بقيت عصيّةً على تقلبات الأزمنة، وهو ربما يمثل حالة حنين البشر الدائمة إلى المصدر الأول، هذا الحنين الذي دفع الأفراد منذ العصور الأولى للبشرية للبحث عن المصدر والأصل، وقادهم إلى ابتداع أساطير الخلق".
ريتا مؤسسةُ مجموعة "مطبخ غربة" على فيسبوك، تضم أكثر من 22 ألف شخص أغبلهم سوريون يقطنون خارج البلاد. أكثر التفاعلات في المجموعة تكون حول الأطعمة التقليدية التي صُنعت على موائد الأم والجدة.
تعلل ريتا ذلك بقولها "في مطبخ غربة يصبح الحنين وتراً مشدوداً تعزف عليه الرغبة في تذكر كل ما كان جميلاً في زمن سابق، تضخم حالة المنفى الاختياري أو القسري، والشوق إلى حياة سابقة يميل الناس إلى تذكرها بأبهى صورها. هذا ماتراه يشدنا جميعاً إلى طعام الوالدة والجدة، ومحاولة تقليده بهدف استحضار الحالة والحرص على عدم انقطاع سلسلة الموروث. الطعام هو أكثر الأشياء توفراً وأفضلها مفعولاً لتذكر الماضي والأوقات الجميلة، وسطوتُه لا تقلّ تأثيراً عن سماع أغنية مألوفة يبثها مذياع، أو استنشاق رائحة عزيزة. فيصبح للجدة والوطن البعيد نفسُ الأثر في التذكير بالأصل والماضي والمنشأ".
تتابع "توفيت جدتي منذ شهرين تقريباً، لم تسنح لي الفرصة لوداعها، وجدتُني أكتب قصةً عن "الكبيبات" التي كانت تعدُّها وحالة الاجتماع في عيد الأم على سفرة الجدة، ما زلتُ أعمل على كتابٍ يوثق قصصاً مختلفة مرتبطة بالطعام من جميع أنحاء سوريا التي عرفناها وما يزال الكتاب قيد الإنجاز لأن العمل عليه يتطلب جهداً عاطفياً استثنائياً في جمع القصص وتبويبها".
"يفتح طعام الجدات البابَ للإبحار نحو البدايات والأصل، وهو مايشفي الرغبةَ الملحة في الحفاظ على تسلسل الأحداث والصلة مع الماضي" تقول ناقدة الطعام ريتا باريش
ربطتْ دراسةٌ سويدية بين ذكريات الطعام الأولى ومرونة الإنسان في مراحل بلوغه. مؤكدةً أن الارتباطات الإيجابية بين الطعام والأسرة، تساعد في إنشاء قاعدة قوية لتشكيل مهارات التأقلم في الحياة المستقبلية.
"نعيش حرباً مع العدو الإسرائيلي طالت الأكلَ أيضاً، ووجباتُ الجدات تحمل رواياتٍ تثبتُ حقَّنا بالأرض" تقول الصحفية الفلسطينية عزيزة نوفل
الطهي للجميع والجدات هنَّ الأفضل
"كما يستمدُّ الفنان إلهامَه من حالة أو تجربة عايشها وبقيتْ في مخزون ذكرياته، كذلك الطاهي يستمد إلهامه في المقام الأول من أكل أمه وجدته" يقول الطاهي المصري حسن مهدي مؤكداً أن أغلب طهاة العالم تأثروا بدرجات متفاوتة من نشأتهم على طعام الأم والجدة والخالة والعمة، أو ما يمكن تسميته "الطعام البيتي".
يضيف "كل طاهٍ استطاع بطهيه الاحترافي الوصولَ للأمذقة التي تربى عليها فذلك أرقى ما يمكن الوصول له، غير أن تحقيقه ليس بالأمر السهل، فهو يحتاج قدرةً كبيرة على الإحساس والمعرفة بالمنتجات الأولية وتكنيكها كما أُعدت على تلك الموائد العتيقة، إلى جانب ضرورة التوازن بين جوانب كثيرة مشتركة في عوالم فنون الطهي.
البيئة والحياة المحيطة بأي شعب ترسمان هويةَ مطبخه، تساهم في ذلك جوانبُ عدة لعل أهمها المناخ والجغرافية والمعتقدات وطبيعة عمل المجتمعات، ومقدار التدخل التكنولوجي في المطبخ. على سبيل المثال تركيبة الوجبات الصحراوية مختلفة عن الأخرى الساحلية أو في المناطق الزراعية أو المدنية، كل ذلك يولّد ثقافةَ طعامٍ تتماشى مع البيئة والحياة لدى الشعوب. وكل ذلك تُرجم داخل مطابخ الأمهات والجدات عبر الأزمنة".
يدرك الشيف المصري أهميةَ توثيق هذه الأطعمة التراثية "بوابة الضيافة في الفنادق والمطاعم، أفضلُ وسيلة وأسهلها لنشر وتوثيق هوية الأطعمة التراثية، بعضها يتطلب تطويراً لسهولة التقديم، لكنني أفضل الحفاظ عليها كما هي حتى في طريقة تقديمها، وعلينا ألا ننسى أن الطهي للجميع، لكن تبقى الجدات والأمهات أفضل من طهى".
حق الأرض
كما الطاهي المصري، تؤكد الصحفية الفلسطينية عزيزة نوفل، أهميةَ الحفاظ على طعام الجدات ووجباتهن العريقة، خاصة في بلد كفلسطين "يعيش حرباً مع العدو الإسرائيلي طالت الأكلَ أيضاً، فهذه الوجبات تحمل رواياتٍ تثبتُ حقّنا بالأرض".
عزيزة طاهية مميزة تشارك متابعيها على انستجرام وجباتِها الشهية والمستمد أغلبها من التراث الفلسطيني، ترفقها بحكايات تلك الأكلات وتفاصيلها، عن ذلك تحدثنا "طعام الجدات في فلسطين كما بلاد الشام، ينهل مكوناته من الطبيعة ومن مؤونة البيت، مع بعض الخصوصية لكل بيت، فجدتي لأبي كانت تركز في طعامها على البرغل والسميد والفريكة، تطبخها باللحوم كونها من عائلة ميسورة، في حين جدتي لأمي كانت تستعين بالخضروات التي تزرعها في حاكورتها، كل ذلك شكّل المطبخ الخاص لكل منهما، والذي تميّز بدوره عن طعام أمي".
"معجونة الطحين والسمن والسكر"، "شوربة العدس بالشعيرية والبندورة" وجبتان كانتا حاضرتين على موائد الجدات ولا تُعدَّان اليوم، تقول عزيزة مؤكدة أن نكهاتهما ماتزال عالقة في وجدانها وتحاول استعادتها لكنها أحياناً تعجز عن استحضار جوهر الطعم الذي يستجمع كل المشاعر المتراكمة حول هذه الأكلات و"في كل مرة أبحث عن نفس الطعم فيما أقوم بإعداده، لكن عبثاً، بينما لا يزال طعم "البرغل بالبندورة" و"صينية البامية" التي كانت تعدها جدتي في السابق غائباً منذ وفاتها عام 1998".
نادية سالم تعود بنا إلى 50 عاماً مضت عندما كانت جدتها تحضر "الكسكسي بشوربة الإوز" مؤكدةً أن تلك الأطعمة القديمة تحمل في جوهرها أسراراً نخفق في الوصول إليها مهما فعلنا "طعام أيام زمان كان عامراً بالمذاق الشهي والصحي، في حين تظلله الحميمية والألفة بين أفراد العائلة".
السيدة المصرية تدرك أهمية هذه الأكلات في تعزيز الروابط بين الأجيال والتشكيل العاطفي الذي يدفعنا دائما للعودة إلى الجذور، لذلك تواظب على جمع أولادها وأحفادها على سفرتها وحكاياتها لتُجسّد قول عمر طاهر في "كحل وحبّهان": "الجدةُ منجمُ حياةٍ، يتناسب حظُّ الواحد طردياً مع الفترة التي يسمح بها القدرُ للتوغل بعيداً داخل أعماق هذا المنجم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...