شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أستاذ القانون معلَّقاً في الفلكة بتهمة الانقلاب ضد عبد الناصر… قضية عبد المنعم الشرقاوي

أستاذ القانون معلَّقاً في الفلكة بتهمة الانقلاب ضد عبد الناصر… قضية عبد المنعم الشرقاوي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

السبت 19 أغسطس 202312:25 م

في حزيران/يونيو عام 1966 عاد الدكتور عبدالمنعم الشرقاوي، أستاذ القانون السابق في جامعة القاهرة، من الكويت، حيث بات يعمل هناك، ليزور أسرته بالقاهرة. لم تمضِ أيامٌ قليلة على وجوده في مصر حتى فوجئ برجال الأمن يقبضون عليه ويتّهمونه بالمشاركة في إعداد انقلاب ضد الرئيس عبد الناصر. ما أن رفض الرجل الاعتراف بأي دور له في هذا الانقلاب المزعوم حتى تعرّض لتعذيب مضنٍ تحوّل لاحقاً إلى تهديدات بأن الأمر سيمتد إلى أسرته فرداً فرداً.

يقول الصحافي جلال الحمامصي في كتابه "حوار وراء الأسوار": "لم يكن التهديد كلاماً يُقال، بل كادت الجريمة أن تُرتكب أمام عينيه، ولم يحتمل الرجل فأعلن استعداده لأن يوقّع لهم على بياض".

محاكمة عسكرية

قال القاضي سمير فاضل في مذكراته "كنت قاضياً لحادث المنصة"، إن الدكتور الشرقاوي كان أستاذاً للمرافعات، وتتملذ على يديه في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1950، مؤكداً أنه فوجئ بالدكتور الشرقاوي متهماً أمام القضاء العسكري، وعلّق على هذا الأمر قائلاً: "قدره هو الذي ساقه إلى هذه المحنة التي نرجو ألا يتعرض لمثلها مَن كان في مكانته العلمية الرفيعة".

عقب القبض عليه، وقّع الشرقاوي مذكرةً من 20 صفحة تناولت اعترافاته حول القيام بأنشطة ضارة بالأمن القومي للجمهورية العربية المتحدة

خلال وجوده في جامعة القاهرة أظهر الدكتور الشرقاوي رفضاً لسياسات الثورة؛ رفضٌ بلغ الضباط الأحرار عبر عدة تقارير أمنية، فأمروا بإزاحته من منصبه خلال إحدى حملات التطهير الإدارية التي تمت في سنوات الثورة الأولى. بعدها قرّر السفر إلى الكويت.

عقب القبض عليه، وقّع الشرقاوي مذكرةً من 20 صفحة تناولت اعترافاته حول القيام بأنشطة ضارة بالأمن القومي للجمهورية العربية المتحدة. وتضمّنت المذكرة اعترافاً على بعض المحامين الآخرين.

يروي رجاء النقاش في كتابه "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، أن أحد المحامين الذين اعترف عليهم الشرقاوي، قُبض عليه وتعرّض هو الآخر للتعذيب، فاعترف بأشياء لم يتركبها، وظلَّ سجيناً لعدة سنوات. وعقب خروجهما من السجن التقى هذا المحامي بالشرقاوي وتصافيا وصفح عنه بالرغم من أنه كان سبباً في سجنه.

لم يحدّد النقاش من هو المحامي الذي اعتذر له عبد المنعم، لكن أوراق القضية كشفت أن الشرقاوي أُجبر على الاعتراف على 4 أفراد، هم: الدكتور زهير جرانة، والدكتور نور الدين رجائي، والأستاذ حمادة الناحل، والأستاذ علي عبد العظيم.

خبر عن قضية عبد المنعم الشرقاوي في صحيفة الأهرام

وحسبما ذكر الكاتب نبيل زكي في كتابه "صحافة... وصحفيون"، فإن الدكتور الشرقاوي ظلَّ مسجوناً 18 شهراً، منها 8 أشهر في مبنى المخابرات العامة، وخلال هذه الفترة صدر قرار بفرض الحراسة على مكتب المحاماة الخاص به.

بعد كل هذه المعاناة، حُدّد أخيراً موعد نظر القضية. فوجئ المقدم عبد الفتاح الدماطي رئيس المحكمة العسكرية، التي ستنظر القضية بالمخابرات، بالاعتراف الذي تقدّم له من الشرقاوي موقّعاً بخط يده، وفور بدء إجراءات المحاكمة أكد أستاذ القانون أنه وقّع على الاعتراف تحت ضغط التعذيب الرهيب الذي تعرّض له.

خلال حديث الشرقاوي فوجئ ببعض جنود الشرطة العسكرية يدخلون القاعة، فأشار إلى أحدهم صارخاً بأن هذا الجندي حضر عملية تعذيبه كاملة؛ أمرٌ تفاعل معه القاضي بإيجابية نادرة، وأمر باستدعاء الجندي الذي أقرّ فعلاً بأنه شاهد أستاذ القانون معلقاً في الفلكة!

يقول سمير فاضل: "بناءً على شهادة الجندي أهدرت المحكمة اعترافات المتهم التي وردت بالتحقيقات تحت ضغط التعذيب، وحكمت ببراءته من التهم المنسوبة إليه، وأفرج عنه فوراً".

كيف تفجّرت القضية؟

تلقّى الصحافي محمد حسنين هيكل زيارةً من الصحافي الشهير عبد الرحمن الشرقاوي، شقيق الدكتور عبد المنعم، وشرح له الظروف الصعبة التي وُضع فيها شقيقه. تعاطف هيكل مع أستاذ القانون، وسمح لصحافيي الأهرام بتسليط الضوء على القضية.

في 8 كانون الثاني/يناير 1968 نشرت الأهرام تحقيقاً ساخناً –بلا توقيع- بعنوان "الكشف عن وقائع تعذيب الدكتور الشرقاوي... لماذا ينحرف جهاز المخابرات؟"، كان هذا المانشيت تمهيداً للجملة التي شاعت لاحقاً وهي التحقيق في انحرافات المخابرات.

في اليوم التالي مباشرة نشرت الأهرام خبراً جاء فيه: "تقرّر وقف العمل بقانون الأحكام العسكرية حتى يتم تعديله بعد أن كشفت بعض الظروف الأخيرة -وبينها قضية الدكتور عبد المنعم الشرقاوي- عن أوضاعٍ خطيرة ترتب على هذا القانون". وفي ذات اليوم كتب جمال العطيفي، المستشار القانوني للأهرام، مقالاً عنيفاً تعرّض للقضية وإلى ما هو أخطر، بعدما انتقد قانون الأحكام العسكرية بأكمله.

قال العطيفي: "لا أجد وصفاً لما كشف عنه التحقيق الصحفي الذي نشرته الأهرام أمس من وقائع تعذيب تعرّض لها الدكتور عبد المنعم الشرقاوي حينما كانت تحقق معه المخابرات العامة في تهمة برّأته منها المحكمة العسكرية، إلا أن أقول إنها محنة قاسية، يحسُّ بها كل مواطن مخلص لقضية الثورة".

بعدها أسهبت الأقلام في تسليط الضوء على الأمر، وبلغ من شيوع هذه الحادثة أن تعرّض لها توفيق الحكيم في كتابه الشهير "عودة الوعي"، والذي انتقد فيه النظام الناصري بشدة.

قال الحكيم: "نحن كهول الثورة ما عذرنا؟ ما الذي خدّر عقولنا؟ إنني لا أنسى تعذيب أستاذ جامعي فاضل هو الدكتور عبد المنعم الشرقاوي، الذي تعرّض لتعذيب بشع حتى أنكر شكلَه أهلُه ومعارفُه".

خبر عن قضية عبد المنعم الشرقاوي في صحيفة الأهرام في كانون الثاني/يناير 1968

علم الحكيم بالقضية من عبد الرحمن، فكتب عنها قائلاً: "إنها لطخة سوداء في جبين الثورة لا يمكن الدفاع عنها أمام التاريخ"، وأضاف الحكيم: "العجيب هو أن يحدث لأستاذ جامعي هذا التعذيب ولا تتحرّك الجامعة ولا يحتجُّ زملاؤه الأساتذة ولا تلاميذه، ولو بالوقوف دقيقة عن الدروس!".

وتابع الحكيم: "لقد وقعنا في شرك الأوهام، فالحقائق محجوبة والرؤية الصحيحة للأشياء ممنوعة. لم يبقَ أمامنا إلا طريق واحد ترسمه سُلطات الثورة. لقد سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمنٍ بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنّا الوعي".

في كتابه "أحاديث في العاصفة" استشهد هيكل بكتاباته عن هذه القضية للدلالة على اتخاذه صف المعارضة! قال هيكل: "كتبت عمّا حدث واستنكرته بشدة وقلبنا الدنيا في ذلك الوقت. قلت وكتبت في حياة عبد الناصر مش بعد وفاته. أنا سمحت بنشر روايات توفيق الحكيم ونجيب محفوظ التي كانت تنتقد المخابرات والاتحاد الاشتراكي".

ومع الشُكر الواجب لهيكل لتبنيه القضيةَ وتسليط الضوء عليها إلا أنه هنا يجب التشديد على أن هذه المقالات أتت بعد النكسة في ظِلّ أجواء أطيح فيها بجميع رجال عامر من المشهد، واستُبدلوا بآخرين أُجبروا على اتباع سياساتٍ أمنية مهادنة، فأرخوا قبضتهم إلى أدنى حدٍّ ممكن.

في هذه الأجواء بات من الممكن طرح القضية في الأهرام، جريدة الدولة الأولى، وأن تهتمَّ المخابراتُ بما نشرته الأهرام وتجري تحقيقات فيه، وبلا ريب أن هذا الموقف كان سيتغيّر تماماً لو أن النكسة لم تقع، فبالتأكيد عندها كان سيظلُّ حق الدكتور عبد المنعم مدفوناً في أقبية سجون المخابرات.

هنا يعلّق الدكتور سعيد إسماعيل في كتابه "التعليم في ظلال ثورة يوليو"، بأن هيكل سبق وأن تغاضَى عن عشرات الوقائع المماثلة التي رفض الحديث عنها، لكن هذه المرة كانت إثارة مثل هذه المواضيع يأتي في سياق صراع القوى القائمة، فقرّر هيكل تعريتها امام الرأي العام ليسمح لصديقه ناصر بالإجهاز عليها بعدها.

وزير العدل، المُفجّر الحقيقي للقضية

في كتابه "23 يوليو... وعبدالناصر"، أكد عصام حسونة وزير العدل في تلك الفترة، أنه تلقى زيارة أيضاً من عبد الرحمن الشرقاوي في 23 كانون الأول/ديسمبر 1967 حكى له فيها أن شقيقه تعرّض لتعذيب "لا يحتمله بشر" في جهاز المخابرات، وأنه كتب مذكرة في هذا الشأن يتمنى تقديمها لعبد الناصر رأساً، ثم يمنحنا حسونة إضافةً مهمة على لسان عبد الرحمن، وهي أنه "لجأ إلى الأستاذ هيكل منذ أكثر من شهر ليثير الموضوع لدى الرئيس، فلما لم يجد منه رداً، جاء ليضع الأمر بين يدي وزير العدل".

تحقيق في صحيفة الأهرام بعنوان "الكشف عن وقائع تعذيب الدكتور الشرقاوي... لماذا ينحرف جهاز المخابرات؟"

روى حسونة أنه أرسل المذكرة إلى عبد الناصر، فأتاه رد سريع في 6 كانون الثاني/يناير عن طريق سامي شرف جاء فيه: "إيماءً إلى كتاب سيادتكم الوارد بتاريخ 26\12\ 1967 المرفق به مذكرة السيد عبد الرحمن الشرقاوي بشأن دفاع شقيقه عبدالمنعم الشرقاوي الذي قُدّم من أجله للمحاكمة أمام القضاء العسكري، أمر الرئيس بالآتي: تحوَّل القضية إلى محكمة الثورة ويُبلَغ السيد أمين هويدي".

بعدها استُدعي حسونة للقاء عبد الناصر الذي أخبره أن محتويات المذكرة أزعجته بشدة وأمر بالتحقيق فيها. بعد خروج حسونة من عند الرئيس أخبر أسرة الشرقاوي بنبأ التحقيق في القضية، الأمر الذي أثار إعجاب عبد الرحمن الشرقاوي، فمنحه نسخة من مسرحيته "الفتى مهران"، وكتب عليها "إلى الأستاذ الكبير عصام الدين حسونة، إكباراً لمواقفه الشريفة دفاعاً عن الحق وكرامة الإنسان وهيبة القانون. مع مودتي وأطيب تمنياتي".

إذاً وفقاً لهذه الرواية فإن هيكل أبقى الموضوع مُجمداً ما يزيد عن الشهر ولم يقرّر نشر وقائعه إلا بعدما أمر الرئيس بالتحقيق في الأمر.

أمين هويدي الذي تولّى قيادة المخابرات بعد الإطاحة بصلاح نصر، كتب في مذكراته: "فوجئنا بأن جريدة الأهرام تثير قضية الدكتور الشرقاوي بتركيز شديد وبعناوين ضخمة، وكان الاهتمام كبيراً لدرجة أن محمد حسنين هيكل نفسه علّق عليها تعليقاً مثيراً".

بعدها أضاف هويدي أنه تلقّى أمراً من عبدالناصر بإحالة الموضوع إلى النيابة العامة رغم اعتراض هويدي على هذا الأمر بدعوى أنه سيحدُّ من جهوده لإعادة بناء الجهاز وتحسين سُمعته أمام الناس.

يقول الصحافي عبد الله إمام في كتابه "حياتي في الصحافة" إن السادات أبدى تعاطفاً كبيراً مع الدكتور عبد المنعم، وهو الجميل الذي حفظه له أخوه عبد الرحمن، وخلال رئاسته مجلس إدارة "روز اليوسف" أبدى تأييداً شديداً للسادات، خاصة خلال أزمة أيار/مايو، فكتب ضد "لصوص الخزائن" و"عصابة الإرهاب" قاصداً بهم جماعة علي صبري، الذين أطاح بهم السادات من مناصبهم وأدخلهم السجن.

البراءة للجميع

أجرت النيابة العامة تحقيقات سريعة وأحالت 4 من قيادات المخابرات إلى محكمة الشعب التي ترأّسها حسين الشافعي، على رأسهم حسين عليش وكيل جهاز المخابرات السابق. لكن المحكمة لم تصلها أدلة كافية عن تعرّض الدكتور الشرقاوي للتعذيب، فحكمت ببراءة المتهمين جميعاً.

كتب الشرقاوي: "لقد اعترفت بالمؤامرة المزعومة بعد التعذيب. لقد فضّلت الإعدام على التعذيب، وعند المحاكمة أُسقطت عنّي تُهم قلب نظام الحكم، واقتصرت على معارضة الاشتراكية وفرض الحراسات وحرب اليمن"!

بهذا الحُكم انطوت صفحة القضية رقم 3 لعام 1967 بعدم نجاح الدكتور الشرقاوي في انتزاع حقّه، لكنّه أصرّ على خوض جولاتٍ أخرى ضد رجال مخابرات ناصر، فعمل في المحاماة، وترافع في قضايا شهيرة منها قضية هيكل ضد الصحافي أحمد أبو الفتح، والصحافي مصطفى أمين ضد صلاح نصر رئيس المخابرات السابق، واتهام النائب رشاد عثمان بالفساد، وكذلك اتهام أحمد حمروش عضو الضباط الأحرار بالإضرار بسُمعة البلاد.

وحينما اختصم سامي شرف، سكرتير عبد الناصر الأسبق، جمال حماد، المؤرخ العسكري وأحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، لم يجد حماد خيراً من الدكتور الشرقاوي للدفاع عنه؛ اختيارٌ برّره حمّاد في كتابه "الحكومة الخفية" قائلاً: "لقد كان الدكتور الشرقاوي ذاته أحد ضحايا هذه العصبة التي حكمت شعب بوحشية تتضاءل أمامها؛ وحشية محاكم التفتيش خلال العصور الوسطى"، وفي النهاية انتصر القضاء لصالح حماد والدكتور الشرقاوي.

بالرغم من مرور سنواتٍ طويلة على محنته ظلَّ الشرقاوي متمسكاً بروايته، فكتب في مجلة "روز اليوسف" عام 1977 مقالاً أكد فيه تعرّضه للتعذيب خلال نظر القضية، قائلاً: "لقد اعترفت بالمؤامرة المزعومة بعد التعذيب. لقد فضّلت الإعدام على التعذيب، وعند المحاكمة أُسقطت عنّي تُهم قلب نظام الحكم واقتصرت على معارضة الاشتراكية وفرض الحراسات وحرب اليمن"!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image