ربما لا يتخيّل أحد أن سيّد قطب، الإخواني العنيد الذي أعدم في 29 آب/ أغسطس 1966، في عهد جمال عبد الناصر، كان قبل هذا التاريخ بـ14 عاماً أحد ملهمي ثورة تموز/ يوليو 1952، يجتمع إليه الضباط الأحرار، ومنهم البكباشي عبد الناصر، في منزله الكائن في منطقة حلوان، جنوب القاهرة، ليستأنسوا بآرائه.
في مؤلفه "سيد قطب: الأديب الناقد والداعية المجاهد والمفكر المفسر الرائد"، يقول صلاح الخالدي: "كان سيّد قطب ساخطاً على الملكية والأوضاع السيئة في مصر... وأصدر أول كتاب إسلامي فكري إصلاحي له، هو ‘العدالة الاجتماعية في الإسلام’، عام 1949، وأعجب الناس بما فيه من أفكار إصلاحية جريئة".
ويؤكد محمد الصروي في كتابه "الإخوان المسلمون – الزلزال والصحوة"، أنه "كان لسيّد قطب دور في التمهيد للثورة، ولقد كان رجال الجيش يتدارسون كتبه ويتداولونها بينهم، ولعل أهمها ‘العدالة الاجتماعية في الإسلام’".
ونقلت مجلة الهلال في عدد تشرين الأول/ أكتوبر 1986، عن الطاهر أحمد مكي، قوله: "لقي كتاب ‘العدالة الاجتماعية في الإسلام’ إقبالاً وترحيباً.. ترك أثراً واضحاً في فكر الضباط الأحرار، وكان من أوائل الكتب التي قرؤوها قبل أن تقوم الثورة نفسها".
دعوة الإخوان للتعاون مع الضباط
عمل سيّد قطب على دعوة جميع القوى إلى التعاون على إنجاح الثورة، يقول الصروي: "ظل سيّد قطب يدعو كل مَن يعرفه من الإخوان والضباط للتعاون على نجاح الثورة".
ويقول الكاتب حلمي النمنم، في مؤلفه "سيّد قطب وثورة يوليو": "حين انقلب الضباط الأحرار على الملك فاروق ليلة 23 تموز/ يوليو 1952، كان نجم سيّد قطب في تألق وصعود... أخذ في الابتعاد عن الحياة الأدبية، وانصرف بمقالاته إلى انتقاد الأحوال الاجتماعية والسياسية بمصر".
وعن تعامل قطب مع جماعة الإخوان حينذاك، يقول صلاح الخالدي في مؤلفه "سيّد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد": "كان من بين ضباط الإخوان المسلمين مَن يكنّ احتراماً كبيراً لسيّد قطب، ومنهم محمود العزب من بورسعيد، الذي يقول: ‘إن رائدنا وأستاذنا سيّد قطب هو الذي رعى الثورة... وأمرنا أن نستعد لها... إن الجيش لا يمكن أن ينسى أن سيّد قطب هو ‘أبو الثورة’، وأبو الثوار".
ويتابع محمود العزب روايته التي نقلها الخالدي قائلاً: "قبيل الثورة بأيام تلقّينا من الأستاذ سيّد قطب أمراً بأن نكون على استعداد، وكنت على رأس تنظيم الإخوان في بورسعيد، ولما تلقيت الأمر حضرت إلى القاهرة، ومضيت إلى منزل الأستاذ سيّد، وكان ذلك في يوم 19 تموز/ يوليو 1952، وكان لديه بعض قادة الثورة، منهم البكباشي جمال عبد الناصر، وذكر لي الأستاذ سيّد أن أكون أنا ومَن معي على أهبة الاستعداد، وأن يكون الإخوان المسلمون المدنيون على استعداد أيضاً، فإذا سمعنا بقيام الثورة كنّا حماتها، وحفظة الأمن في بورسعيد، وحذّرنا من سفك الدماء".
كاتب ساخط
بالطبع، هذا الحدث كان قبل التحاق سيّد قطب بجماعة الإخوان المسلمين. واعترض بعض النقاد على أقوال العزب بأنه كيف لقطب أن يصدر أوامر لأعضاء الجماعة وهو لا تربطه بهم صلة؟
من هؤلاء المعترضين حلمي النمنم الذي عقّب على ذلك بقوله: "هي رواية تفتقد الحد الأدنى من المعقولية، لأن سيّد قطب آنذاك لم يكن عضواً بالجماعة، ولم يكن له أن يصدر أوامر وتكليفات إلى أعضائها، والرواية تفترض أنه كان يعلم مسبقاً بموعد قيام الثورة، وهذا أبعد عن المنطق، لأن معظم الضباط الأحرار لم يكونوا يعلمون بالموعد إلا قبل ساعات".
"كان ضباط الجيش الوطنيون الراغبون في الإصلاح والتغيير، في مقدمة المعجبين بمقالات سيّد قطب، وأصدرت قيادة التنظيم بزعامة عبد الناصر، أمراً سرياً لأعضائها بقراءة مقالاته"
ويتابع النمنم اعتراضه: "إن رواية سليمان فياض التي سمعها من سيّد قطب نفسه لا تحمل هذا المعنى، إنها تعني أن بعض الضباط الساخطين على الأوضاع كانوا يترددون على كاتب ساخط مثلهم".
وبحسب المؤلف، أعلن سليمان فياض سنة 1986، في مجلة الهلال، عدد أيلول/ سبتمبر، أن سيّد قطب، نقلاً عنه نفسه "كان على صلة بالضباط الأحرار قبل تموز/ يوليو 1952، وأن بعضهم كان يتردد على منزله بحلوان ويلتقون به ويجتمعون معه... وهذا ممكن ووارد، فلقد كان لعدد من هؤلاء الضباط اتصالات بعدد من الكتاب والصحافيين الذين انتقدوا سوء الأوضاع في مصر الملكية".
الضباط الأحرار في منزل قطب
وعن علاقة سيّد قطب بالضباط الأحرار، يقول الكاتب الصحافي عادل حمودة، في مؤلفه "سيّد قطب من القرية إلى المشنقة": "قبل أن تقوم الثورة بشهور تعرّف سيّد قطب على جمال عبد الناصر، وعدد من الضباط الأحرار، وليس من الصعب تخيّل ذلك".
وبحسب الخالدي، "كان ضباط الجيش الوطنيون الراغبون في الإصلاح والتغيير، في مقدمة المعجبين بمقالات سيّد قطب، وأصدرت قيادة التنظيم بزعامة عبد الناصر، أمراً سرياً لأعضائها بقراءة مقالاته... وكان كتابه ‘العدالة الاجتماعية في الإسلام’ من أوائل الكتب التي كان الضباط الأحرار يتدارسونها في لقاءاتهم السرية".
وفي ذلك يقول محمد الصروي: "كان رجال الثورة يجتمعون في بيته، أو يجلسون تحت شجرة في فيلته، وهناك صورة تذكارية لرجال الثورة معه في بيته جميعاً، ما عدا محمد نجيب".
وروى سليمان فياض، صديق سيّد قطب، في مؤلفه "كتاب النميمة"، تفاصيل زيارته للأخير في بيته في حلوان بعد قيام الثورة، قائلاً: "سألته عن رأيه في هذه الثورة؟ ابتسم وقال لي: ‘هنا تحت هذه الشجرة كان الضباط الأحرار يعقدون بعض اجتماعاتهم معي في فترة التمهيد للثورة’، ثم دخل سيّد البيت وعاد يحمل مظروفاً، أخرج منه صوراً، وأخد يريها لي واحدة واحدة، وكان هو في كل صورة وتحت هذه الشجرة، وكانت كلها صور ليلية أُخذت في ضوء الفلاش، وفي كل صورة كان هؤلاء الضباط الأحرار، وهو بينهم".
ويتحدث عادل حمودة عن ذلك، قائلاً: "كانت حوارات الحديقة في بيته في حلوان، ومشاعر الود، ولحظات التفاؤل والمرح التي كانت تنتهي أحياناً بضوء ‘فلاش’ يلمع وسط الظلام... في هذه الصور كان سيّد قطب وبعض الضباط الأحرار، بينهم جمال عبد الناصر".
وهنا يبدي النمنم اعتراضاً أيضاً، بقوله: "بالغ بعض الإخوان في الصلة بين سيّد قطب والضباط إلى حد الادّعاء أن منزله شهد زعماء الضباط يستشيرونه في الإعداد للثورة ويدرسون معه وسائل نجاحها"، لكنه تدارك: "الصحيح والثابت أن سيّد قطب كان من أشد الكتاب تحمساً في تأييد ضباط يوليو بعد تحركاتهم وخلع الملك فاروق".
مكتب في مقر قيادة الثورة
بحسب الصروي، كان سيّد قطب "المدني الوحيد بين العسكريين الذي يحضر جلسات مجلس الثورة، وله مكتب في مقر قيادة الثورة، يقيم هناك إقامة شبه دائمة".
ويؤكد عادل حمودة على هذا الطرح، بقوله: "الذين عاصروا تفاصيل الأيام والسنوات الأولى للثورة يؤكدون أن سيّد قطب كان له مكتب في مبنى مجلس قيادة الثورة، وكان يقيم هناك إقامة شبه دائمة".
"كان رجال الثورة يجتمعون في بيته، أو يجلسون تحت شجرة في فيلته، وهناك صورة تذكارية لرجال الثورة معه في بيته جميعاً، ما عدا محمد نجيب"
وفي العدد الثاني من مجلة "كلمة حق"، الصادر في أيار/ مايو 1967، كتب الأديب أحمد عطار، صديق سيّد قطب، يقول: "بلغ من احترام الثورة لسيّد قطب أن كل أعضاء مجلس القيادة كانوا ملتفين حوله، ويرجعون إليه في كثير من الأمور، حتى أنه كان المدني الوحيد الذي يحضر جلسات المجلس أحياناً، وكانوا يترددون على منزله بحلوان"، وفقاً لما نقله الخالدي عنه.
سيّد قطب بنفسه ذكر في مؤلفه "لماذا أعدموني؟"، أنه "كنت أعمل أكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً قريباً من رجال الثورة ومعهم".
ويشير حلمي النمنم إلى أن سيّد قطب كان من "أوائل الذين طرحوا اسم ‘ثورة’ على ما جرى وما يجري منذ فجر 23 يوليو"، مشدداً على أنه "كان يكتب ويفكر كأنه واحداً من ضباط مجلس القيادة".
الثورة تكرّم سيّد قطب
العلاقة الوثيقة بين سيّد قطب والضباط الأحرار جعلتهم ينظّمون حفل تكريم له، حضره برفقة صديقه أحمد عطار. يقول محمد الصروي: "بعد نجاح الثورة، دعا رجال الثورة سيّد قطب لإلقاء محاضرة عن ‘التحرر الفكري والروحي في الإسلام’، في آب/ أغسطس عام 1952 بنادي الضباط".
وذكر حمودة إلى هذا المؤتمر، بقوله: "عندما نظّم بعد شهر واحد من قيام الثورة مؤتمر ‘حرية الفكر في الإسلام’ كانت تهنئة جمال عبد الناصر ومحمد نجيب من نصيب سيّد قطب".
وعن تفاصيل اللقاء، يقول صلاح الخالدي: "ذهب سيّد قطب في الموعد المحدد برفقة أحمد عطار لإلقاء المحاضرة، قال الأخير: ‘حضرت معه وكان النادي مزدحماً بحدائقه... وحضرها جمع لا يحصى من الشعب... كان مقرراً حضور محمد نجيب، وتوليه تقديم سيّد قطب، إلا أن عذراً عارضاً اضطره للتخلف، وبعث برسالة تُليت على الحاضرين، من قبل أحد الضباط".
ويؤكد عطار أن موجز الرسالة أن "نجيب كان حريصاً على أن يحضر المحاضرة، ويفيد من علم سيّد قطب، ووصف الأخير بأنه ‘رائد الثورة ومعلمها وراعيها’، وبعث برسالته مع أنور السادات، وأناب عنه جمال عبد الناصر... وقال أحد كبار الضباط: ‘كان مقرراً أن يقدّم الرئيس محمد نجيب أستاذنا العظيم، ورائد ثورتنا المباركة، مفكر الإسلام في عصرنا، الأستاذ سيّد قطب’".
وألقى قطب كلمة مرتجلة، قال فيها: "لقد كنت في عهد الملكية، مهيئاً نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضاً، فأنا في هذا العهد، مهيئ نفسي للسجن، ولغير السجن، أكثر من ذي قبل"، بحسب عطار.
وهنا وقف جمال عبد الناصر، وقال بصوته الجهوري ما نصه: "أخي الكبير سيّد والله لن يصلوا إلا على أجسادنا، جثثاً هامدة، ونعاهدك باسم الله، بل نجدد عهدنا لك، أنا فداؤك حتى الموت".
ويشير محمد الصروي إلى أنه "بعد حفل التكريم علم جمال عبد الناصر أن احتواء سيّد قطب مستحيل، وفشلت خطته في ذلك"، موضحاً: "الكارثة التي أعدم قطب بسببها من وجهة نظري، أن كلاً منهما (أي قطب وعبد الناصر)، قد فهم الآخر جيداً".
بداية النهاية
استمر سيّد قطب مع رجال الثورة حتى شباط/ فبراير من عام 1953، ثم انصرف عنهم إلى الإخوان. يقول في مؤلفه "لماذا أعدموني": "ومرة أخرى استغرقت كذلك للعمل مع رجال الثورة حتى شباط/ فبراير سنة 1953 عندما بدأ تفكيري وتفكيرهم يفترق حول هيئة التحرير ومنهج تكوينها وحول مسائل أخرى جارية في ذلك الحين".
يوضح الخالدي: "أنشأ جمال عبد الناصر ‘هيئة التحرير’ في 23 كانون الثاني/ يناير 1953، وأسند إلى سيّد قطب رئاستها، وحاول الأخير أن تكون الهيئة إسلامية، لكن رجال الثورة لا يريدون ذلك ولم يستمر في عمله إلا حوالي شهر، حيث استقال منها في شباط/ فبراير 1953".
ويتحدث قطب عن الخلاف بين الإخوان والضباط، فيقول: "في ما يتعلق بالخلاف بين رجال الثورة والإخوان، وكنت في ذلك الوقت ألاحظ نموّه عن قرب... حاولت وقتها ما أمكن منع التصادم الذي كنت ألمح بوادره، لكني عجزت... وتغلب الاتجاه الآخر في النهاية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين