يعكس الفن بأشكاله المختلفة صورة المجتمعات في لحظة إنتاجه، ولأنه عملية إبداعية جوهرها الخلق، فهو قادر على إحداث التغيير في المجتمع من خلال ما يطرحه من أفكار ومن خلال قدرته على التأثير في العقل والوجدان.
يصف عبد العزيز البشري في كتابه "المختار" - صدر 1959- هذا التأثير المتبادل بين الأغاني والمجتمع، فيقول "الأغاني كما هي عَرَض من أعراض الأمة، وترجمان صادق الأداء عن حالها وعقليتها، ومبعث مواجعها وآلامها، ومتناجى آمالها في الحياة وأحلامها، فإن لها كذلك أثراً بعيداً في بناء النشء وتربيتهم، وفي تسوية الأذواق العامة".
في السنوات الأخيرة ظهر نمط من الأغاني يعبر عن النزعة الفردية المتنامية في المجتمع المصري، ويعكس هشاشة العلاقات الإنسانية التي صارت سمة لحياتنا السائلة كما يصفها عالم الاجتماع "زيغمونت باومان"، كما يساهم في تغذيتها وتزايدها.
في السنوات الأخيرة ظهر نمط من الأغاني يعبر عن النزعة الفردية المتنامية في المجتمع المصري، ويعكس هشاشة العلاقات الإنسانية، إذ صارت تلك الهشاشة سمة لحياتنا السائلة كما يصفها عالم الاجتماع "زيغمونت باومان"
النزعة الفردية وحياتنا السائلة
لم يكن الفرد في الثقافة الغربية قبل قيام الدولة الحديثة يحظى باهتمام أو يتمتع بمكانة في المجتمع، حيث كانت الجماعة هي محور الاهتمام، وكانت وحدة المجتمع واستقراره هي الأهداف الرئيسية، وفيما بعد كان للجهود التي قدمها فلاسفة عصر التنوير دور في ترسيخ عدد من الأفكار التي كانت سبباً في تهيئة المجتمع للتغيير وقيام الدولة الحديثة، ومن أهم تلك الأفكار ما يتعلق بحقوق الفرد ومكانته في المجتمع.
ومع تفكك المجتمع التقليدي وقيام مجتمع حديث له طبيعة مختلفة تزايدت النزعة الفردية، وكان من بين أسباب ذلك انحسار دور الدين في المجتمع وتراجع مكانته كمرجعية ونظام متعالٍ له تأثيره على تصورات الأفراد وخياراتهم، ومن ثم أصبح الفرد هو محور الحياة وأصبح التمركز يدور حول الذات، وأصبحت المنفعة والإرادة الذاتية هي المحددة لخيارات الأفراد، ومن بين الأسباب أيضاً تعاظم دور الدولة وتدخلها في حياة الفرد ومن ثم تهميش دور الأسرة وتحول المجتمع من مجموع متماسك إلى تجمع بشري مكون من أفراد.
لم تعد هناك رغبة لدى الأفراد في إقامة علاقات اجتماعية طويلة أو مستمرة، وأصبح هناك خوف من التبعات والضغوط الناتجة عنها، وأصبح النمط المفضل هو العلاقات الهشة والعابرة التي بإمكان الفرد أن ينسحب منها أو ينهيها بسهولة وفي أي وقت
وتتضمن الفردية عدداً من المعاني، منها أن كل فرد يملك سمات وقدرات تجعله متميزاً عن غيره، وأنه مستقل ويتمتع بخصوصية تجاه الآخرين، وأن لديه القدرة على تحقيق ذاته بما يمتلك من إمكانات وقدرات، والفردانية مذهب فلسفي يرى أن غاية المجتمع هي رعاية مصلحة الفرد والسماح له بتدبير شؤونه، وعلى الرغم من الجانب الإيجابي في الفردية؛ فإن لها أيضاً جانب سلبي يتمثل في العزلة الاجتماعية نتيجة شعور الفرد بعدم الحاجة إلى الآخرين والرغبة في الاستقلال، ومن ثم ضعف الروابط الاجتماعية التي تؤدي إلى تفكك المجتمع.
وهذه النزعة الفردية كظاهرة ساهم في تناميها نمط الحداثة الذي نعيشه اليوم والذي يطلق عليه عالم الاجتماع زيغمونت باومان "الحداثة السائلة"، حيث يرى أن الدولة الحديثة ونظامها الرأسمالي في الغرب كان يهدف في البداية إلى التحديث من أجل الوصول إلى حالة نهائية من الكمال من خلال التخلص من البنى القديمة التي كان يقوم عليها المجتمع التقليدي وإنشاء مجتمع جديد يقوم على أسس جديدة يكون الاعتماد فيه على العلم وتسود فيه قيم الحرية والمساواة والعدل، لكن عملية التحديث هذه مع الوقت تحولت إلى عملية مستمرة ليس لها سقف أو نهاية، وصار التغيير المستمر هو الهدف، وصارت عملية التحديث أو الحداثة تتسم بالمرونة أو السيولة وهي سمة تعكس حالة من التمييع والإذابة والصهر المستمر لكل شيء، وتحولت عملية التخلص من البنى القديمة من عملية تخلص وإذابة للمواد الصلبة الرديئة إلى عملية إذابة للمواد الصلبة جميعها، فلم يعد هناك شيء ثابت أو متماسك، فالأشياء والأماكن والأزمنة والروابط والأفكار والمعاني والقيم والهوية كلها صارت في حالة سيولة وتغير مستمر، وصارت النزعة الاستهلاكية هي السمة السائدة، وتعني أن الاستهلاك أصبح هدفاً في حد ذاته لا مجرد وسيلة، فلم تعد هناك رغبة في الاحتفاظ بالأشياء ولكن الاستمتاع بها لمدة بسيطة وتغييرها بشكل مستمر.
في السنوات الأخيرة بات من الممكن ملاحظة تنامي النزعة الفردية في المجتمع، من خلال العديد من الظواهر، فالعزوف عن الزواج وارتفاع نسب الطلاق والحديث عن المساكنة كبديل للزواج وظاهرة "اللاإنجابيون" وغيرها من الظواهر من الممكن تفسيرها في إطار نظرية السيولة والنزعة الفردية
والأمر كذلك في العلاقات الإنسانية، حيث لم تعد هناك رغبة لدى الأفراد في إقامة علاقات اجتماعية طويلة أو مستمرة، وأصبح هناك خوف من التبعات والضغوط الناتجة عنها، وأصبح النمط المفضل هو العلاقات الهشة والعابرة التي بإمكان الفرد أن ينسحب منها أو ينهيها بسهولة وفي أي وقت، ويذكر "باومان" في كتابه نموذجاً لذلك الشاب الذي يرى أن العلاقات الإلكترونية تتمتع بميزة فارقة عن العلاقات التقليدية وهي أن الفرد دائماً يمكنه أن يضغط على كلمة "احذف"!
الأغنية المصرية كتعبير عن الفردية
في السنوات الأخيرة بات من الممكن ملاحظة تنامي النزعة الفردية في المجتمع، من خلال العديد من الظواهر، فالعزوف عن الزواج وارتفاع نسب الطلاق والحديث عن المساكنة كبديل للزواج وظاهرة "اللاإنجابيون" وغيرها من الظواهر من الممكن تفسيرها في إطار نظرية السيولة والنزعة الفردية.
والذي يتأمل عدداً لا بأس به من الأغاني المنتشرة في السنوات الأخيرة والتي تحصل على ملايين المشاهدات على مواقع التواصل الاجتماعي، يلاحظ أنها تتضمن المعاني المعبرة عن النزعة الفردية وطبيعة الحياة السائلة، فهي تعكس تناميها في المجتمع وتعمل على تغذيتها وترسيخها في العقل والوجدان في الوقت ذاته، فلو استمعنا إلى كلمات تلك الأغاني دون الموسيقى المصاحبة لها ربما التفتنا إلى ما تتضمنه من معانِ سلبية، بينما الموسيقى تساعد على تسلل المعاني داخل النفس واستقرارها في اللاشعور لتنعكس آثارها فيما بعد ومع تكرار الاستماع على طريقة التفكير والسلوك.
ومن نماذج الأغاني التي تتضمن معاني النزعة الفردية في صورتها السلبية، مثل فكرة تعظيم النفس واحتقار الآخرين، والاستعداد للاستغناء عنهم، نرى على سبيل المثال أغنية "الملوك" والتي يشترك فيها أحمد سعد وعنبة ودبل زوكش، ويبلغ عدد مشاهداتها على موقع يوتيوب 90 مليون، ومن بين كلماتها "أنا مش شايف فيكم حد.. عمري في يوم ما احتجت لحد"، "محتجتش حد أنا ساند نفسي Alone"، وأغنية أخرى وهي "خطوة إجباري" يغنيها عطار ونور النبوي وحاصلة على 41 مليون مشاهدة ومن كلماتها "عامل نفسي مش داري.. واخد خطوة إجباري.. كله باع مفيش شاري"، "انتو شمال وأنا يمين.. أنا حلو وانتو وحشين.. أنا حر نفسي مش شايف حد"، "أنا مش شاغلني لا أبالي.. هكمل فيها مع حالي.. أنا أسد وانتو أشبالي، وأغنية أخرى شهيرة لأحمد سعد وهي "وسع وسع" حاصلة على 199 مليون مشاهدة، وهي نموذج لفكرة تعظيم الذات وتحقير الآخر ومن كلماتها "شوف انت عامل ايه وأنا عامل ايه.. شوف انت أصلك ايه وأنا أصلي ايه.. شوف انت تبقى مين وأنا أبقى مين.. شوف انت أد ايه وأنا أد ايه"، أغنية أخرى وهي "دولة" للمغني عنبة شاهدها 32 مليوناً ومن كلماتها "العبد لله ملوش كبير واخدها عافية"، "أنا جامد أنا أسد أنا عامل ليكو قلق" "أنا مش شايفكو يالا خالص"، وأغنية أخرى لعمرو مصطفى وهي "إلا أنا" ومن كلماتها "إلا أنا، أنا واجهة غلاف السنة"، "أنا بعدي الكلام اتفنى"، "في أول صف أنا وبعدي ييجي ناس، وسابق كله أنا علشان أنا الأساس"، وأغنية أخرى عنوانها "متغاظ" حاصلة على 58 مليون مشاهدة، ومن كلماتها "متغاظ عارفك يالا مننا متغاظ، مخك فاضي مخي أنا ألماظ"، "أنا عظمة أنا ثابت أنا جامد أنا هضبة"، "سابقين سابقين انتو هوا لا مش باينيين".
وهناك بعض الأغاني تعكس فكرة الحياة السائلة التي تحدث عنها زيغمونت باومان وتتضمن العديد من المعاني الدالة عليها وهي هشاشة العلاقات والرغبة في انهاء العلاقات وسهولة قطعها والاكتفاء بالذات حتى في الأمور التي يحتاج فيها الفرد لغيره كالاستماع له والوقوف بجانبه عند الأزمات، وتعد أغنية تامر حسني "هدلعني" والتي بلغت نسبة المشاهدات لها 109 ملايين نموذج واضح على هذه الفكرة، ومن كلماتها "لو سمحتو ثانية، احنا في دنيا فانية، وفي زمن لو احتجت فيه تدفي إيدك، ابقى امسك ايدك التانية"، "من النهاردة هدلعني، هخرج معايا وامتعني، وإن طلبت إني أتكلم، هتكلم وأنا هسمعني"، "هقوم ارقصلي وأغنيلي وهسقفلي واسمعني، وهزغزغني وأضحكني"، "مش عايزكو عندي غيركم، حتى غيركو عندي غيرهم"، وأغنية أخرى لعمرو دياب وهي "اللي يمشي يمشي" وهي تعكس فكرة هشاشة الروابط أيضاً، ومن كلماتها" اللي يمشي يمشي زي بعضه، يبقى فضى سكة للي بعده"، "حب مين دا كله منفعة، كله بقى عنده أقنعة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوماوجدتي أدلة كثيرة للدفاع عن الشر وتبيانه على انه الوجه الاخر للخير لكن أين الأدلة انه فطري؟ في المثل الاخير الذي أوردته مثلا تم اختزال الشخصيات ببضع معايير اجتماعية تربط عادة بالخير أو بالشر من دون الولوج في الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والمستوى التعليمي والثقافي والخبرات الحياتية والأحداث المهمة المؤسسة للشخصيات المذكورة لذلك الحكم من خلال تلك المعايير سطحي ولا يبرهن النقطة الأساسية في المقال.
وبالنسبة ليهوذا هناك تناقض في الطرح. اذا كان شخصية في قصة خيالية فلماذا نأخذ تفصيل انتحاره كحقيقة. ربما كان ضحية وربما كان شريرا حتى العظم ولم ينتحر إنما جاء انتحاره لحثنا على نبذ الخيانة. لا ندري...
الفكرة المفضلة عندي من هذا المقال هي تعريف الخير كرفض للشر حتى لو تسنى للشخص فعل الشر من دون عقاب وسأزيد على ذلك، حتى لو كان فعل الشر هذا يصب في مصلحته.
Mazen Marraj -
منذ يوممبدعة رهام ❤️بالتوفيق دائماً ?
Emad Abu Esamen -
منذ يومينلقد أبدعت يا رؤى فقد قرأت للتو نصاً يمثل حالة ابداع وصفي وتحليل موضوعي عميق , يلامس القلب برفق ممزوج بسلاسة في الطرح , و ربما يراه اخرون كل من زاويته و ربما كان احساسي بالنص مرتبط بكوني عشت تجربة زواج فاشل , برغم وجود حب يصعب وصفه كماً ونوعاً, بإختصار ...... ابدعت يا رؤى حد إذهالي
تامر شاهين -
منذ 3 أيامهذا الابحار الحذر في الذاكرة عميق وأكثر من نستالجيا خفيفة؟
هذه المشاهد غزيرة لكن لا تروي ولا تغلق الباب . ممتع وممتنع هذا النص لكن احتاج كقارئ ان اعرف من أنت واين أنت وهل هذه المشاهد مجاز فعلا؟ ام حصلت؟ او مختلطة؟
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممن المعيب نشر هذه الماده التي استطاعت فيها زيزي تزوير عدد كبير من اقتباسات الكتاب والسخرية من الشرف ،
كان عيسى يذهب إلى أي عمل "شريف"،
"أن عيسى الذي حصل على ليسانس الحقوق بمساعدة أخيه"
وبذلك قلبت معلومات وردت واضحة بالكتاب ان الشقيق الاصغر هو الذي تكفل بمساعدة اهله ومساعدة اخيه الذي اسكنه معه في غرفه مستأجره في دمشق وتكفل بمساعد ته .
.يدل ذلك ان زيزي لم تقرأ الكتاب وجاءتها المقاله جاهزه لترسلها لكم
غباءا منها أو جهات دفعتها لذلك
واذا افترضنا انها قرأت الكتاب فعدم فهمها ال لا محدود جعلها تنساق وراء تأويلات اغرقتها في مستنقع الثقافة التي تربت عليها ثقافة التهم والتوقيع على الاعترافات المنزوعه بالقوة والتعذيب
وهذه بالتأكيد مسؤولية الناشر موقع (رصيف 22) الذي عودنا على مهنية مشهودة
Kinan Ali -
منذ 3 أيامجميل جدا... كمية التفاصيل مرعبة...