كان "التريند" في القاهرة هذه الأيام يتحدّث عن "معجزة شفاء عادل فايز"، وهو رجل قال إنه قد شفي تماماً وفجأة، من إصابة سنوات طويلة بالشلل الرباعي، وذلك حين رأى السيدة العذراء متمثلة في نور خفيف أخذ يشتدّ، فنهض سليماً من كرسيه المتحرك و"مهرولا باتجاه النور". يُظهر مقطع فيديو تم تداوله بكثافة الرجل المذكور وهو ينهض مهرولاً وسعيداً، ومحتضناً أحد رجال الدين المسيحي، وسط احتفالات الحضور في إحدى الكنائس بمنطقة عزبة النخل الشعبية، شمال القاهرة.
كنت أفكر إذن في كتابة متابعة عن "المعجزة" بما أنها حديث الناس في هذا الأسبوع، بما يتطلّبه ذلك من حذر واجب، لا يسقطني في مشكلة التناقض، تلك التي أتذكر أن زميلاً في العمل وقع فيها ذات يوم، في أحد "ظهورات العذراء" التي تشغل الرأي العام المصري من حين لآخر، يومها أخذ ذلك الزميل المسلم يوجّه انتقادات شديدة إلى زميلة مسيحية، مقرّعاً إياها على تصديق "الخرافات" الشعبية، وفي مواجهة انتقاداته أصرّت الزميلة على إعلان إيمانها بالمعجزات، ولم أستطع أن أجزم إن كان إيمانها ذاك صادقاً أم رد فعل دفاعي على هجوم الزميل المتواصل.
ربما كانت المعجزة في الزمن القديم وسيلة لتصديق الرسل والأنبياء، أو لطمأنة القلوب حول الإيمان، أما اليوم، في مجتمعاتنا التي لا تزال تبحث عن الخلاص، فالمعجزة صارت أملاً يعكس قناعة بأن ما نحن فيه صار أكبر من أن تخلصنا منه شروط الواقع العادي
ولأني أعرف أن ذلك الزميل مسلم مؤمن، فقد استفزتني انتقاداته التي ترتدي ثوب العقلانية أكثر مما يحتمل إيمانه، فسألته عن عدة "معجزات" في الإيمان الإسلامي، وعما إذا كان عقلانياً بدوره إزائها كما هو تجاه زميلتنا القبطية. وصحيح، أن مفهوم "المعجزة" لا يحتل في الإسلام نفس المساحة الجوهرية التي يحتلها في الإيمان المسيحي، إلا أن الإيمان الشعبي لا تختلف طبائعه، وهو معتاد على اجتراح معجزاته الخاصة، إن لم يجدها في الكتب خلقها في كرامات الأولياء والرؤى والقوى الخفية.
كنت – إذن – أفكر في ذلك حين رأيت ملف رصيف 22 عن المستقبل، وفكرت في أن المعجزة، سواء معجزة عادل فايز مع السيدة العذراء، أو المعجزة في مجال تفكيرنا العام، ترتبط ارتباطاً شديداً بمفهوم المستقبل. ربما كانت المعجزة في الزمن القديم وسيلة لتصديق الرسل والأنبياء، أو لطمأنة القلوب حول الإيمان، أما اليوم، في مجتمعاتنا التي لا تزال تبحث عن الخلاص، فالمعجزة صارت أملاً يعكس قناعة بأن ما نحن فيه صار أكبر من أن تخلصنا منه شروط الواقع العادي. بمعنى آخر، لم تعد المعجزة تعكس الإيمان في مواجهة الكفر، وإنما صارت تعكس الأمل في مواجهة اليأس، أو يمكن القول إنهما – أي الأمل واليأس – هما إيمان وكفر الزمن الحديث.
في معجمه "الجامع المانع"، يعرّف الزمخشري "المستقبل" بأنه "الآتي من الزمان". لكن درجت العادة، في لغتنا الحديثة على الأقل، أن ننزع إلى المعنى الإيجابي حين نتحدث عن المستقبل، ننزع عن الكلمة حيادها التي تصف الزمان الآتي من دون أن تتوقع طبيعة أحداثه، ونضمّن فيها أملاً بأن ذلك المستقبل هو بالضرورة أفضل من الحاضر، أن تصف شخصاً بأنه "ليس لديه مستقبل" فإنك لا تعني أنه سوف يموت، بل تعني أن مستقبله لن يكون على ما يرام.
إذن، حين يقول صلاح عبد الصبور " في بلد لا يحكم فيه القانون/ يمضي فيه الناس إلى السجن بمحض الصدفة/ لا يوجد مستقبل". فإنه يقصد بأن المستقبل بائس مهما امتد في الزمن. مات عبد الصبور منذ ما يقارب نصف قرن ولم يأت ذلك المستقبل بعد، وليس معروفا متى يجيء، ولكن الأهم والأخطر أننا لا نعرف إن كان سوف يجيء أبداً.
في ديواني الأول "هدايا الوحدة"، قصيدة "الكسل"، كتبت: "سأكون آخر المغادرين دون أدنى شعور بالقلق/ فالمستقبل يعرف كيف يعتني بنفسه". لا أتذكر الآن إن كنت، كعبد الصبور، أتكلم عن المستقبل بمعنى "المستقبل الجميل"، أم أنني كنت أفكر فيه بحياد، لكني الآن، صرت بلا شك، أشك في مجيئه إلينا بالمعنيين، أو بكل معنى ممكن.
يمكن بسهولة ملاحظة حنين الكثير من المصريين اليوم، في ظرفهم الاقتصادي والسياسي الصعب، إلى زمن مبارك الذي أطاحوه هم أنفسهم بثورة شعبية، بل يمكن قراءة تغريدات لسودانيين، وهم يعيشون حربهم المؤلمة، تتحسّر على أيام عمر البشير
لقد درج الكثيرون على التفكير في مستقبل أوطانهم بطريقة يمكن أن نتخيلها على النحو التالي؛ حيث تقف المجتمعات في طابور طويل، يسبق البعض فيه البعض الآخر، درجنا على القول بأن هذا البلد يسبقنا بخمسين أو مئة عام، وكان في هذا معنى ضمنياً، (كتضمين الأمل في كلمة مستقبل) يفترض أننا بعد خمسين أو مئة عام، سنكون مثل هذا البلد أو المجتمع الذي يسبقنا اليوم، حتى لو صار يسبقنا مجدداً آنذاك بمئة عام إضافية.
حسناً، لنقل إن هذا التصور، هذا الطابور المتخيّل، لم يعد قائماً على هذا النحو، لقد تبعثر الطابور وتراجع بعض من فيه أكثر، أو طردوا خارجه.
يمكن بسهولة ملاحظة حنين الكثير من المصريين اليوم، في ظرفهم الاقتصادي والسياسي الصعب إلى زمن مبارك الذي أطاحوه هم أنفسهم بثورة شعبية، بل يمكن قراءة تغريدات لسودانيين، وهم يعيشون حربهم المؤلمة، تتحسّر على أيام عمر البشير، بعضهم (يبالغ؟) بالقول: على الأقل كنا غير مشردين أو نازحين. هذه، في مصر والسودان، مجرد نماذج تتعدّد على امتداد كثير من مناطق العالم العربي، حتى صار يمكن القول إننا نعيش مستقبلاً مقلوباً، يختلف عن الحنين الكلاسيكي إلى "زمن الأمجاد"، بل هو نكوص إلى زمن قريب لم تُنس آلامه بعد، إنه الغرق التام في لحظة الحاضر المفكّكة، التي لا يبدو في أفقها القريب أو البعيد أي "مستقبل"، فلا مفر من أن يزداد، يوماً بعد آخر، التوق إلى معجزة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...