هذا المقال جزء من ملفّ "على رصيف المستقبل"، بمناسبة عيد ميلاد رصيف22 العاشر.
تغيّرت، خلال العقد المنصرم، نوعية الصراعات في المنطقة العربية. بدلاً من الصراعات وتبادل الحساسيات بين الدول، افتتحت العقد الماضي موجة واسعة من حركات الاحتجاج في عدد من الدول العربية، تبعتها بعد بضع سنوات، حركات احتجاج في دول أخرى لم تشملها الموجة الأولى.
في هذه الاحتجاجات، برزت إلى السطح إرادة شعبية مضادة للأنظمة السياسية التي كان قد استقرّ لها الأمر طويلاً حتى بات التوريث على جدول أعمال "الجمهوريات" جميعها. الصراعات الداخلية التي سيطرت خلال العقد المنصرم، تقدّمت على الصراعات الخارجية بين الدول.
شهدنا لأول مرة كيف اقتحمت الإرادة الشعبية، التي كانت كأنها في عداد الموتى، المجال السياسي، وفرضت نفسها على العالم، قبل أن تتفكّك هذه الموجة وتتعثر الثورات وتتحوّل إلى ساحات حروب محلية تتغذى على الفشل السياسي وعلى الإرادات والمصالح الخارجية.
الملاحظة الأهم على الصراعات العسكرية التي تلت الثورات المذكورة وغطت الجزء الأكبر من العقد المنصرم، هي أنها صراعات استنزاف لا تمتلك أطرافها إمكانية الحسم، بعد أن اندرجت صراعاتها في شبكة الصراعات الدولية بصورة شبه مباشرة. هذا النموذج من الصراعات واضح في اليمن وفي ليبيا وفي سوريا، وأُضيفت إليه اليوم السودان، بعد أن كان هذا البلد، بفضل تطور النضال المدني فيه، الأكثر قرباً إلى تأسيس نظام حكم ديموقراطي.
سوف تجد مثقفين علمانيين سوريين يرون في وقوف نظام الأسد ضد الإسلاميين مسوّغاً كافياً للقبول به، فما بالك بجمهور واسع من الأديان والمذاهب المغايرة للمذهب السني؟
في توقع حال هذه البلدان في العقد القادم، تنبغي الموازنة بين العناصر التي تدفع باتجاه الخروج من صراع الاستنزاف الحالي، وبناء دولة بوصفها مؤسسة عمومية وليس موضوع مُلكية تتصارع الأحزاب والفرق للفوز به، وبين العناصر التي تعيق هذا الخروج وتجعل البلد غارقاً في صراعات الاستنزاف التي لا معنى لها، لأنها صراعات تدور بين سلطات متشابهة، سواء في علاقتها مع الجمهور أو في تبعيتها للخارج، أو في كون برنامجها السياسي الوحيد هو البقاء وكيفية الاحتفاظ بالسلطة فوق كل اعتبار.
في الحالة السورية نلاحظ أن القوّة الأساسية، وربما الوحيدة، التي يمكن أن تغذّي الميل إلى وحدة سوريا في ظل حدود معقولة من العدالة السياسية والاجتماعية، هي إرادة الشعب السوري. لا أحد له مصلحة في خروج سوريا سليمة من هذا الهول سوى الطبقات الشعبية التي تعاني اليوم من غياب التمثيل السياسي. وما يزيد في الأمر سوءاً هو الانقسام السياسي القائم.
نجد في الوضع السوري اليوم، أن إرادة الشعب باتت مشتتة في ظل سلطات الأمر الواقع التي تتقاسم سوريا. يعيش السوريون في ظل كل سلطة قائمة اليوم صراعات مركبة. على سبيل المثال، القسم من الشعب السوري الذي يخضع لسلطة دمشق، يعاني من شتى صنوف الاختناق، من الضيق المعاشي إلى التضييق الأمني إلى الإذلال الوطني، ومن الطبيعي أن يولّد هذا موقفاً رافضاً لنظام الأسد، ولكن هذا القسم لا يجد في سلطة الإسلاميين في شمال غرب سوريا، مثالاً يرتجى، ولا كذلك في سلطة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، لا من حيث علاقة كل سلطة منهما بمحكوميها، ولا من حيث المنظور السياسي الغالب في كل منهما.
يوجد جزء مهم من المحكومين لنظام الأسد يكنّون العداء للسلطات الأخرى التي نشأت واستقر لها الحال في مناطق مختلفة من سوريا، الأمر الذي يشكّل، في ذهن هؤلاء، نوعاً من تسويغ القبول بنظام الأسد، بوصفه ممثل "الدولة" والمدافع عن "الوطن" في وجه سلطات "انتهازية" طارئة. حتى أن الخطاب العدائي الذي يصدر عن نظام الأسد ضد هذه السلطات، الإسلامية والكردية بشكل خاص، يشكل مصدر رضا لقطاع من القوميين العرب الذين يشاركون النظام موقفه من الكرد، والحال كذلك فيما يخص العلمانيين في تقاطعهم مع موقف النظام من الإسلاميين.
بعض المعارضين السياسيين الأشداء لنظام الأسد من القوميين العرب، يطربهم تشدّد النظام مع الكرد وإنكاره لحقوقهم، فما بالنا بقوميين عرب غير منخرطين في معارضة النظام. كذا الحال في وقع معاداة النظام المعلنة للفصائل الإسلامية على مسامع العلمانيين السوريين.
لكل سلطة قائمة في سوريا ارتباط خارجي مختلف ومهيمن، وهذا يزيد من عمق الانقسام الذي من الراجح أن يستمر على هذه الحال خلال العقد القادم، مع ذلك يبقى هناك أمل في أن التبلور المتزايد لهذه السلطات قد ينتهي، إذا توفرت الشروط، في توحيد سورية بصياغة توحيدية جديدة أكثر مرونة
سوف تجد مثقفين علمانيين سوريين يرون في وقوف نظام الأسد ضد الإسلاميين مسوّغاً كافياً للقبول به، فما بالك بجمهور واسع من الأديان والمذاهب المغايرة للمذهب السني؟ هؤلاء يرون في الإسلاميين تهديداً لهم ولنمط حياتهم، يجعلهم راضين بنظام يذيقهم المرار ولكن يبدو لهم قوة الحماية الوحيدة ضد خطر إسلامي يتجسّد الآن في سلطة على بقعة من سوريا. المنطق نفسه يمكن سحبه، مع التعديلات المناسبة، على المحكومين للسلطات المستجدة، فتجد مثلاً، أن السبب الأهم لقبول الفصائل الإسلامية التابعة لتركيا أو لهيئة تحرير الشام يكمن في عدائها لنظام الأسد.
لم تتبدّد هذه القناعات في سياق العقد المنصرم، ولا يبدو أنها ستتبدّد قريباً. يشهد العقد المنصرم على فشل أي جهة سياسية سورية في كسب ثقة السوريين على أساس وطني يتجاوز الحساسيات القومية والمذهبية. هذا ليس لأنه لم تتوفّر جهة وطنية سورية، بل لأنه لم تنجح أي منها في النمو والوصول إلى الجمهور وكسب النفوذ. أي لم تنجح أي جهة سياسية في حشد السوريين بوصفهم جماعة وطنية، ولا غرابة في ذلك، إذا علمنا أن العنف يسيطر، وأن الأرض ممسوكة من أطراف لا تحوز على ما يبني الثقة المتبادلة بين السوريين، بل تبني سيطرتها على ما يبدّد الثقة وفق خطوط انقسام قومية ومذهبية. والنتيجة أن الانقسام السياسي الحاصل في سوريا، استجرّ انقساماً شعبياً يبدّد إرادة الشعب السوري التي هي، كما قلنا، الجسر الأهم، وربما الوحيد، نحو استعادة وحدة سوريا بدولة ذات مضمون حديث.
على ما سبق، يبدو أن هناك حقيقة تتضح أكثر فأكثر مع الزمن في سوريا، كنموذج عن البلدان العربية التي تحوّلت إلى ساحة حروب داخلية استنزافية، هي المزيد من تبلور الانقسام السياسي الحاصل، وتراجع العناصر الداخلية التوحيدية (غياب الإرادة الشعبية الواحدة، وتكرّس سلطات ذات مصلحة بالانقسام الحاصل). لكل سلطة قائمة في سوريا ارتباط خارجي مختلف ومهيمن، وهذا يزيد من عمق الانقسام الذي من الراجح أن يستمر على هذه الحال غير الرسمية خلال العقد القادم، مع ذلك يبقى هناك أمل في أن التبلور المتزايد لهذه السلطات قد ينتهي، إذا توفرت الشروط، في توحيد سوريا بصياغة توحيدية جديدة أكثر مرونة.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ 5 أيامSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ 4 اسابيعحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.