لا تُحسد السينما الجزائرية على أحوالها الراهنة، وإن لم تتراجع أشواطاً عما كانت عليه. وإن كان الالتزام بقضايا وموضوعات تتوجه نحو مهرجانات عالمية كبرى استراتيجيةَ المخرجين الجزائريين منذ عقود في غياب ورقة طريق واضحة المعالم لسينما شعبية وتجارية داخل البلد، فإن ثيمة الصحراء وحضورها في الأفلام لطالما ظلّا حبيسَي نظرة استشراقية إلى مساحة كبيرة ومتنوعة إثنياً وأنثروبولوجياً وتاريخياً.
تُعدّ سلسلة أفلام "المفتش الطاهر"، من أكثر الأفلام شعبيةً في الجزائر. أفلام كوميدية خفيفة، أُنجزت جميعها في عقد السبعينيات من القرن الماضي. في مقدمة أحدها "عطلة المفتش الطاهر" من إنتاج سنة 1973 وإخراج موسى حداد، يوجّه المفتش المعتدّ بنفسه فوجاً من السيّاح الذين يبحثون عن مكان لتناول وجبة طعام جيدة إلى بوسعادة، بوابة الصحراء الجزائرية، وأقرب الواحات إلى العاصمة، وتقع على مسافة أكثر من 200 كلم عنها، لأكل طبق المشوي المميز للمنطقة. لم تطبع المشهد عنصريةٌ ما، ولكنه كرّس ارتباط الصحراء الجزائرية بفلكلور يحمله الجزائري الشمالي عن جنوب بلاده، بطريقة لا اختلاف فيها أحياناً عن طريقة السائح الأجنبي.
تبرر المخرجة الجزائرية صوفيا جاما، عدم اهتمام السينما الجزائرية بالصحراء كثيمة، بالمركزية التي تميّز التسيير في الدولة الجزائرية، ما يجعل الصناعة السينماتوغرافية -حسب قولها- مركزةً في الشمال الجزائري
قبل سنوات قليلة، صدر فيلم "أبو ليلا" للجزائري أمين سيدي بومدين (1982-)، والذي يتناول فيه رحلة شرطي جزائري زمن الحرب الأهلية خلف الإرهابي "أبو ليلا"، ذي السجل الإجرامي، حتى الصحراء الجزائرية، موقناً أن هذا الإرهابي لن يجد مأوى إلا في الصحراء، لكبر مساحتها ربما، فالفيلم لا يذهب أبعد في التعاطي مع المسألة عموماً، ومع الصحراء كفضاء اجتماعي، برغم جعله إياها مادةً أساسيةً في العمل، هو الذي يلعب على الرمزيات كثيراً.
قبل أشهر، تصدّر خبر إنشاء مدينة للإنتاج السينمائي في "تيميمون" (1216 كلم جنوب غرب الجزائر العاصمة)، الأنباءَ وشغلَ الرأيَ العام، تحديداً لأن المنطقة تتميز بخصائص جغرافية وأثرية مميزة.
وتابع الجزائريون أول سلسلة تلفزيونية صحراوية جزائرية إنتاجاً وتمثيلاً وتصويراً، خلال شهر رمضان الماضي (2023)، برغم أن الجزائر حضرت في السينما العالمية مبكراً بفيلم "الشيخ"، المقتبس عن رواية تحمل العنوان ذاته، للبريطانية إديث مود هل، التي أنجزت روايتها انطلاقاً من قصص أصدقائها الذين كانت صحراء بسكرة (400 كلم جنوب شرق الجزائر العاصمة)، بواحاتها تمثّل لهم لوحات حيةً من ألف ليلة وليلة، لخصتها في قصص حرب وحب، قبل أن تزور المدينة بعدها وتنجز كتباً أخرى عنها. صدر فيلم "الشيخ" سنة 1921، وهو فيلم صامت أدى الدور الرئيسي فيه الممثل الهوليودي الشهير رودولف فالنتينو (1895-1926)، وأخرجه جورج ملفورد (1877-1961) في ديكورات داخلية.
تُعدّ المخرجة الجزائرية صوفيا جاما (1979-)، كما الممثل طارق بوعرعارة، من بين قلة من الجنوبيين الجزائريين الأصيلين المشتغلين بالسينما الجزائرية، وقد تمكّنا من فرض نفسيهما بموهبتيهما وجديتهما وتميّز الأعمال التي يقدمانها.
في حوارهما مع رصيف22، يجمعان على خصوصية التعاطي مع الصحراء في السينما الجزائرية. وفي الوقت الذي يؤكد فيه بوعرعارة، وجود عنصرية وصعوبات مضاعفة على أبناء الجنوب لولوج المجال السينمائي (برغم مولدهم ونشأتهم في العاصمة)، تتوقف جاما عند تجربتها الشخصية التي جعلتها ابنةً للجزائر بزواياها الأربعة، هي التي وُلدت في وهران (432 كلم عن الجزائر العاصمة)، لأم بوسعادية وأب من الجنوب الغربي، وسرعان ما تم تبنيها من طرف عائلة من مدينة بجاية (220 كلم شرق العاصمة)، دون أن تقطع صلاتها بعائلتها البيولوجية، ما ساعدها مبكراً على التخلص من عبء هوية وحيدة جامدة، ضيقة وثقيلة في آن. "امتلكت فضولاً في اكتشاف العالم منذ صغري، وأحزنتني الحدود التي سنّها البشر برغم حاجتهم الأساسية إلى الحركة الدائمة"، تقول جاما لرصيف22.
تبرر صوفيا جاما، عدم اهتمام السينما الجزائرية بالصحراء كثيمة، بالمركزية التي تميّز التسيير في الدولة الجزائرية، ما يجعل الصناعة السينماتوغرافية -حسب قولها- مركزةً في الشمال الجزائري، ما يشجع على ظهور سينمائيين من الشمال متأثرين بجغرافيتهم.
"أعتقد أن كل البلدان التي تتميز بمركزية النشاط الاقتصادي، السياسي، الثقافي، قد أنتجت عواصم ملتفّةً حول ذاتها وأنانيةً في إنتاجها الاقتصادي، كما في باقي المجالات، لا يمكنها التعاطي مع العالم والمخيال الذي يتيحه بعيداً عن مفهومها الجغرافي المحدود في النهاية. كما أن هذه المركزية ذاتها هي التي جعلت حضور ممثلين من الجنوب الجزائري أمراً نادراً، وهذه الأنانية هي ما يجعلها المرجعية الأساسية في المواضيع المطروقة. كما بالفكرة التي نصنعها عن ماهية الشمال، بمعنى أشخاص ذوي بشرة بيضاء، وشعر أملس، مقابل جنوب خاص بجماعات متخيلة مجهولة أو غير معروفة بما يكفي، على الرغم من وجود جزائريين أصيلين من الشمال وببشرات ملونة. علينا أن نعترف بأن قيمنا الجمالية تجعل من البشرة البيضاء والشعر الأملس مرجعاً، وكلها بقايا تفكير عنصري عميق وغير معترف به برغم تجذره فينا. نجهل الجزء الإفريقي منا، والذي كثيراً ما نختزله في الفلكلور أو في المواعيد السياسية"، تقول جاما.
"يكفي أن نسائل بلاتوه سميرة تي في، الذي قدّم ذا البشرة السمراء الوحيد واختُزل في تقديم الشاي لنسوة بيضاوات يرتدين كراكو ويتحدثن بكثير من الحنين عن القيم القديمة؛ مشهد خارج من لوحة استشراقية مباشرة، لم يجد كثرٌ غرابةً في الأمر، بل على العكس من ذلك، وتحديداً ما يعبّر عن حالة العوز الفكري، الأخلاقي والخطر الذي نواجهه نحن من ذوي البشرة السمراء أو الهجينة"، تؤكد جاما.
أما طارق بوعرعارة، فيُرجع قلة حضور الممثلين الجنوبيين الأصيلين في السينما الجزائرية إلى العنصرية التي يعترف بوجودها، كما الشللية التي تميّز المجال.
لا تستثني جاما نفسها النظرةَ الإكزوتيكية التي يحملها الجزائريون عن صحراء بلدهم، فتقول: "عن نفسي سيكون من الجيد أن أصور حفلات رأس السنة التي نقضيها كأبناء العاصمة في تيميمون لأشهد عما أقول. في المرات القليلة التي قضيتها هناك أعدنا إنتاج سهراتنا العاصمية بإضافة كثبان رملية إليها... ولكن أؤكد أنني لم أفكر يوماً في خلق علاقات مع أناس من المنطقة. في النهاية أقضي عطلاتي هناك كما البقية، وأذهب دون أن أهتم فعلاً بالمنطقة، إذ ما الذي يمكنني أن أحكيه عن المنطقة كسينمائية؟".
لكن سرعان ما تتدارك جاما، وتؤكد: "الانتماء إلى منطقة، لا يضمن بالضرورة إنجاز فيلم من دون كليشيهات، ونظرة إكزوتيكية. فضولنا والتزامنا الفكريان كسينمائيين هما ما يدفعاننا لمعالجة الصور دون الوقوع في الكليشيهات وإعادة إنتاج الخطاب السائد وليست شرعيتنا الجغرافية والهوياتية. نجح طارق تقيا (1966)، في تصوير الصحراء الجزائرية في "إنلاند" و"ثورة الزنج"، وأنطونيني (1912-2007) في "مهنة ريبورتر"، والمخرج علواش (1944-) تمكن من رصد الداخل الجزائري في "التائب"، وتساكي (1946-2021) أبدع في تصوير جمال الفراغ في قاعدة حياة في فيلم "قصة لقاء". لم أتمكن من تمييز بلعباس عن قاعدة الحياة في الصحراء. كذلك فعل أمين سيدي بومدين في "أبو ليلا" برغم أن نهايته تدفعني إلى طرح استفهام حول كل هؤلاء المخرجين الذين ليسوا من الجنوب الجزائري.
تتجاوز أزمات السينما الجزائرية غياب الاستراتيجيات، وضعف التمويل، والتحولات العميقة التي تضرب المجال بأكمله عالمياً، إلى مكانة الثقافة والفنون عموماً ضمن سلم أولويات البلد
أما بالنسبة إلى تأثيرات خلق مدينة سينمائية جنوب الجزائر، على تحسين المخيال الجزائري عن جنوب البلاد، فيجد طارق بوعرعارة الأمرَ جيداً، بل مفيداً، للسينما الجزائرية وللاقتصاد الوطني مستذكراً مدينة ورزازات السينمائية في المغرب، حيث تنشط الكثير من الاستوديوهات الهوليودية.
أما صوفيا جاما، فلا تجد سوءاً في الأمر إذ تقول: "على الأقل لن تكون للأمر نتائج سلبية. في أحسن الأحوال ستحظى المنطقة بمدارس في التكوين، والتقنيات، والتفكير السينمائي، وسيتمكنون من قص حكاياتهم مستفيدين من هذا القطب الذي سيكوّنهم ويخلق لهم فرصاً وظيفيةً. في أسوأ الأحوال سيتمكنون من مشاهدة تصوير أفلام ولو من بعيد، ما قد يخلق لدى بعضهم اهتماماً بالمجال، قد يتمكنون ربما من الولوج إلى أماكن التصوير، في انتظار المرحلة التي يخبرون فيها العالم بأن منطقتهم ليست مجرد ديكور".
في الوقت ذاته تنتفض جاما ضد فكرة حصر إنجاز أفلام عن منطقة في ساكنتها، لأن الأمر قد لا يؤدي أهدافه: "يمكننا أن نحكي خصوصياتنا من خلال ما يجمع الإنسان عموماً. الحزن وفراق المحبوب واحد بين تيميمون، والبيض، وقسنطينة، ونيويورك، وباريس. وحدها الديكورات تتغير".
قد تتجاوز أزمات السينما الجزائرية غياب الاستراتيجيات، ضعف التمويل، والتحولات العميقة التي تضرب المجال بأكمله عالمياً، إلى مكانة الثقافة والفنون عموماً ضمن سلم أولويات البلد، وفي سياساته العامة، وفي وعي المواطن البسيط، والتنشئة الفنية التي تكاد تغيب. وفي انتظار دوران الكاميرا جنوباً، يمكن الانطلاق بطبع ما يكفي من صور إيجابية في وعي (ولا وعي) ساكنة البلاد على شسوع مساحتها، عنها وعن بعضهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...