خلقت السينما الجزائرية طوال مسارها، مجموعة من الأسماء المهمة التي تركت بصمتها الخاصة والخالدة في زوايا هذا الفن، من مخرجين وممثلين ومركبين وكتاب سيناريو ومدراء تصوير وغيرهم من الذين يؤدون وظائف جوهرية في صناعة الفيلم.
ورغم أن الجزائريين كانوا منبوذين في العهد الاستعماري، لكن بعضهم استطاعوا الفكاك والتغلب على تلك المنظومة العنصرية التي تحرم الأهالي من حقهم الشرعي في التعليم والارتقاء وممارسة الفن مثل أي مواطن آخر، وبرزوا بشكل أو بآخر، وأصبحوا نجوماً في مجالهم،
وقد أسس بعضهم فرقاً مسرحية وآخرون فرقاً موسيقية، كما مارسوا الفنون التشكيلية وأثبتوا مواهبهم، وكلها فنون ألجموا بهما المستعمر، وأرغموه على الخضوع لها، وهذا ما فعله مثلاً السينمائي الطاهر حناش (1898-1972) الذي يعد رائد السينما الجزائرية، وأول جزائري يقوم بتأسيس شركة صناعة سينمائية في عهد الاستعمار وهي شركة (TA HA FILM)، اضافة إلى أنه أول من مارس مهنة الإخراج من الأهالي من خلال فيلم "على أبواب الصحراء" عام 1938، إضافة إلى فيلم "غطاسوا الصحراء" عام 1952، لكن بعد الاستقلال تم الاستغناء عن موهبته وريادته وأسبقيته في هذا المجال، وصار مجرد تقني في التلفزيون الوطني.
من شدّة أهميته باتوا يطلقون عليه لقلب "موريكوني الجزائر"، نسبة الى الملحن الإيطالي البارز إينو موريكوني (1928-2020) الذي ألف موسيقى مئات الأفلام... أحمد مالك، موسيقار السينما الجزائرية
كما أن هناك مواهب أخرى استطاعت بفضل همتها وحماستها أن تجتاز الجدار الذي رسمه الاستعمار الفرنسي حتى يبقى الأهالي في تخلفهم وجهلهم وأميتهم وجوعهم وعطشهم، على عكس الفرنسيين من أصول أوروبية. ولكن رغم هذا استطاع بعض الجزائريين تسلق ذلك الجدار، وهذا ما فعله الملحن والموسيقار الجزائري أحمد مالك الذي تتبع موهبته وحسه الفني رغم أن البيئة غير حاضنة ولا مشجعة، وذهب صوب ما يحب ويرضى، بعد أن مشى أميالاً على الشوك، ليتحول إلى رمز من رموز الموسيقى والسينما الجزائرية، ومن شدّة أهميته باتوا يطلقون عليه لقلب "موريكوني الجزائر"، نسبة الى الملحن الإيطالي البارز إينو موريكوني (1928-2020) الذي ألف موسيقى مئات الأفلام.
موهبة تحدّت الظروف وحطّمت الأغلال
ولد أحمد مالك يوم 6 آذار/مارس عام 1931 في منطقة برج الكيفان بالجزائر العاصمة، في أسرة متواضعة محدودة الدخل، وكان الأكبر بين ثلاثة إخوة وأخت. توفيت والدته التي كانت سنده ومصدر قوته وهو في سن الـ12، وقد أثّر عليه الأمر كثيراً. عاش طفولة صعبة، لكنه في المقابل كان يدرس بجدّ وحب، الى غاية انتهاء جميع المراحل الدراسية، ليختار بعدها الالتحاق بمعهد الموسيقى بداية من عام 1942، إرضاء لشغفه في الموسيقى وميولاته الفنية.
وقد تعلم كيفية التعامل مع الموسيقى كعِلمٍ لديه أدواته ومنطلقاته الأساسية، إضافة إلى كيفية التعامل مع الآلات، إذ بدأ في المراحل الأولى العزف على آلة الناي، ليصل بعدها إلى آلات أخرى، مثل الأكورديون والبيانو وغيرها من الآلات، وأصبح بعدها مستعداً لولوج عالم الموسيقى انطلاقاً من المرجعيات التي اكتسبها.
وقد انضمّ بعد تخرجه إلى أوركسترا الإذاعة والتلفزيون، تحت قيادة عازف البيانو الشهير مصطفى إسكندراني (1920-2005)، وهو المكان الذي كان يقوم أعضاؤه بعزفهم التمثيليات الاذاعية، وكانت هي من التجارب العملية الأولى لأحمد مالك، والتي أعطته دماء جديدة وأكسبته خبرة كبيرة، كما زادته ثقة في النفس وفتح المجال أكثر لموهبته كي تخرج من الإطار الضيق إلى الفضاء الفسيح.
كما انتقل إلى فرق موسيقية خاصة من خارج الإذاعة، وهو اعتراف صريح بما يقوم به، كما انضم بعدها للعديد من الفرق، بعدها اكتسب تجربة سمحت له بأن يؤسس لفرقته الخاصة.
منح مالك وقته وجهده وتركيزه للموسيقى التصويرية، وبدأ من خلالها المساهمة في بناء أمجاد السينما الجزائرية التي شقّت طريقها بداية من عام 1957 في قلب الثورة الجزائرية
وعندما استقلت الجزائر عام 19،62 وجد نفسه مستعداً لخدمة الجزائر الجديدة من الناحية الفنية، ولئن كان هناك العشرات من الفنانين الجزائريين يمتهنون الموسيقى آنذاك، ذهب أحمد مالك نحو فن جديد في تلك المرحلة، وهي الموسيقى التصويرية التي لم يكن أحد يمارسها في تلك الحقبة، أو لا يوجد من يتعامل معها كفنّ مستقل مثله.
منح مالك كل وقته وجهده وتركيزه لهذا النوع من الموسيقى، وبدأ من خلالها المساهمة في بناء أمجاد السينما الجزائرية التي شقّت طريقها بداية من عام 1957 في قلب الثورة الجزائرية، لتجد نفسها بعد الاستقلال مستعدة لتقديم تجربة مغايرة ومختلفة.
مسافرٌ زادُه الموسيقى والشعف
من الأشياء التي تقاطعت فيها الكثير من الآراء حول أحمد مالك هو جديته وتعامله بإحساس بالغ من خلال مقاطع الموسيقى التصويرية التي قام بتأليفها، وقد عكس في كل مقطع بصمتَه الخاصة، انطلاقاً من الثقافة الموسيقية العميقة ومعرفته الشاملة بنمط حياة العديد من الشعوب والدول الكثيرة التي زارها، فقد كان كثير التجوال في القارات الخمس، مدفوعاً بشغف وحب الاكتشاف، حتى أنه عاش حوالى ستة أشهر في اليابان.
لهذا اكتسب ثقافة واسعة انعكست بشكل واضح في مدونة موسيقاه الخاصة التي تشعر كل من يسمعونها بأنها مختلفة وجديدة ومنفتحة، تلفت الانتباه، لأنها تعكس بشكل كبير الحالة التي تمرّ بها شخصية الفيلم وأجواؤه والأحداث التي يعيشها، لتصبح الموسيقى التصويرية منطلقاً أساسياً في صناعة الفيلم، تتحكم في المشاعر وتوجهها.
هذا كله يجعل موسيقى مالك راسخة في ذهن كل من يسمعها، حتى أنه من السهل جداً، عنده أن ينتقل من مشهد حزين للغاية إلى آخر يشع بالفرح دون أن يحس المشاهدين بهذا التنقل، لأنه يتعامل بحذر مع المعطيات، ويعرف جيداً الجمهور الذي يتعامل معه، لأن ما يقدمه مرتبط بالأساس بالثقافة المحلية وفي نفس الوقت لا ينسى البعد العالمي الذي يوفر الغطاء الإنساني لأعماله.
لهذا نجدها مليئة بالشغف والحب والعزف المنفرد للآلات، وحتى روح الموسيقى العالمية، ليسمع الجمهور نبض وخاصية كلِّ آلة على حدة، وكأنه بهذه الطريقة يقدم درساً في الثقافة الموسيقية للمشاهدين، وفي نفس الوقت يصفي مشاعرهم المشوشة ويوجهها انطلاقاً من تيمة الفيلم وغايته.
من هذا المنطلق يكون أحمد مالك قد فهم العلاقة التي تربط الموسيقى بالفيلم، كفن يكمل الآخر، ومواجهة نديّة ذات غاية واحدة، وهي إسعاد الجمهور بقدر المستطاع، والأخذ بيده للمتعة السمعية البصرية.
بصمة موسيقية واضحة في مدونة السينما الجزائرية
تعاون أحمد مالك طوال مساره الفني مع العشرات من المخرجين الجزائريين والأجانب، وقد ترك بصمة واضحة ومميزة من خلال الموسيقى التصويرية التي زرعها في أفلامهم، لتكون علامة فارقة فيها، حتى أن هناك فئة واسعة من الجمهور لا تزال تتذكر تلك الأفلام انطلاقاً من تلك الموسيقى، وهذا ما حدث مثلاً في فيلم "عمر قتلاتو" (1976) لمرزاق علواش، وقبلها مع الفيلم الكوميدي الشهير "عطلة المفتش الطاهر" (1972) لموسى حداد، ، و"ليلى وأخواتها" (1977) لسيد علي مازيف، و"المنطقة المحرمة" (1972) لمحمد لعلام، و"الفحّام" (1972) لمحمد بوعماري، و"بلا جذور" (1976) للمين مرباح، و"حواجز" (1977) لأحمد لعلام، و"تشريح مؤامرة" (1977) لمحمد سليم رياض.
كما تعاون أيضا مع المخرج علواش في تجارب أخرى مثل "مغامرات بطل" (1978)، و"الرجل الذي ينظر من النوافذ" (1986)، وألف موسيقى فيلم المخرج رابح لعراجي "سقف وعائلة" (1982)، وفيلم مفتي الطيب "زواج موسى" (1982)، إضافة إلى تعاونه مع المخرج التونسي عبد اللطيف بن عمار في فيلم "عزيزة" (1981)، والعشرات من الأفلام والتمثيليات الإاذاعية والتلفزيونية الأخرى التي لا يمكن حصرها وعدها بسهولة.
وبالرغم من أنه ألف موسيقى عشرات الأفلام المهمة، إلا أن هذا الفن لم يرد له الجميل، خاصة من جانب المخرجين الذين تعاون معهم، والدليل هو أن الكثير من تلك الأفلام يتم تذكرها بموسيقاه، لكن هؤلاء لم ينجزوا ولو فيلماً قصيراً عن حياته ومساره ولإبراز دور الموسيقى التصورية في الأفلام.
تعاون أحمد مالك طوال مساره الفني مع العشرات من المخرجين الجزائريين والأجانب،ترك بصمة واضحة ومميزة من خلال الموسيقى التصويرية التي زرعها في أفلامهم، لتكون علامة فارقة فيها
لذلك، بات اليوم من الصعب أن نجد وثيقة سمعية بصرية تظهر أحمد مالك، هناك فقط بعض الصور المتفرقة التي لا تزال تحتفظ عائلته بجزء هام منها. كما قامت المخرجة الفرنسية بالوما كولمب في عام 2019 بإخراج فيلم وثائقي قصير عنه من 20 دقيقة بعنوان: "كوكب مالك"، خلال احتفالية تم تنظيمها بالجزائر العاصمة حول مساره، وقد تناول الفيلم العلاقة بين أحمد مالك وأسرته وفنه، خاصة من خلال العلاقة القوية التي تجمعه بابنته هانية، التي سمى أحد المقاطع الموسيقية باسمها.
حصل أحمد مالك في حياته على العديد من الجوائز والتكريمات المهمة، من بينهما الجائزة الأولى في الفنون والآداب عام 1972، والميدالية الذهبية في مهرجان "بانافريكان" عام 1976، كما نال جائزة الاستحقاق الوطني للتأليف الموسيقى عام 1987 من رئاسة الجمهورية، وتم تكريمه من قبل التلفزيون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي