وصل الروائي الفرنسي الواقعي غوستاف فلوبير إلى بيروت رفقةَ الصحافي والمصوّر ماكسيم دو كان (يُنقل اسم شهرته إلى العربية "دي كامب")، قادماً من الإسكندريّة في عام 1850. وقد نزلا في فندق على مرفأ بيروت شيّده حديثاً الإيطالي باتيستا ليستقبل سيّاحاً تعاظمت أعدادهم، ولم تعد النُزُل القديمة قادرة على استيعابهم.
سبقهما للزيارة الشاعر الرومنطيقي ألفونس دو لامارتين، وقد اشتُهرت عنه مدوّنة مذكّراته في الرحلة إلى الشرق (1835)، كما رسّخ حضورَه في معالم ما زالت تحمل اسمه لمروره في روعة الأمكنة، على غرار "وادي لامارتين" في قضاء "بعبدا" في الجبل اللبناني، و"أرزة لامارتين" في "محميّة أرز الشوف" الطبيعيّة، وأخرى في "أرز بشرّي" في لبنان الشمالي. وهو نفسه من أطلق تسمية "سويسرا الشرق" آنذاك على بيروت.
"من الأمكنة ما يوقظ المشاعر"
يوثّق سمير قصير في كتابه "تاريخ بيروت"، إجابة البريطاني إيريك أمبلير (1909-1998)، وهو صاحب روايات التجسّس، عن سؤال معرفته بلبنان، فيقول: "عندما يأتي المساء... كل شيء من حولك ساكن، دافئ وعذب. كل شيء يوحي بالجوّ الذي مهّد للأساطير العظيمة. وتبدو لك الصّور التي تشاهدها بعيون الرّوح حقيقيّة أكثر من الكرسي الذي تجلس عليه... لا يسعني أن أتكلّم، كما ترى، إلّا بطريقة شاعريّة" (عن "القضيّة دلتشف")، ليخمّن قصير أنّ غنى الألوان التي تسم موقع بيروت وعذوبة الظلال، ومطالعة الأخضر والأزرق بكلّ فوارقهما، مضافاً إليهما الأبيض شتاءً على الجبل القريب من المدينة، تلك جميعاً، أوحت للشاعر لامارتين (1790-1869) بإطلاق وصفه الشهير "سويسرا الشرق".
يقول البريطاني إيريك أمبلير رداً عن سؤال معرفته بلبنان: "عندما يأتي المساء... كل شيء من حولك ساكن، دافئ وعذب. كل شيء يوحي بالجوّ الذي مهّد للأساطير العظيمة"
وبالعودة إلى فلوبير (1821-1880) ودو كان (1822-1894)، فقد أصغيا إلى نصائح المستشرق بيير أميدي جوبير (1779-1848)، الذي شارك في حملة نابليون إلى مصر ورئس "الجمعية الآسيوية الفرنسية"، حيث يقول إنّ "الاشتغال على الشرقيات دون معرفة بالشرق يماثل صنعك حساءَ الأرنب بغير حيازتك أرنباً... ربما تكون خيبة الأمل بانتظار الرحّالة، غير أنّ عليك - مع ذلك- الذهاب إلى الشرق... اذهبوا واجتازوا المتوسّط، وحلّوا أنّى شئتم في مصر وسوريا وآسيا الصغرى، لا يهمّ سوى أن تتابعوا الرحيل".
لم تعد تلك المدينة على الساحل الشرقي للمتوسّط صورة يحلم بها الناظر إلى رسومات قديمة، بل تجسّدت حقيقة تفوق الخيال، حين عبَر الصحافي والشاعر جيرار دو نرفال (1808-1855) البحرَ لملاقاة بيروت في عام 1843، فيعبّر بالقول: "أيّتها الطبيعة، أيّها الجمال، يا سحراً فائق الوصف لحواضر الشرق القائمة على شواطئ البحار... يا مسرحاً لأجمل أعراق البشر وللملابس والمراكب... كيف لنا أن نصف ما تثيرين من انطباع في نفوس الحالمين؟ قد قرأنا ذلك في الكتب وأعجبنا به في تلك اللوحات الإيطاليّة القديمة... إلا أنّ ما يفاجئنا اليوم أن نراه كما تصوّرناه، شديد اللصوق بتلك الصّور".
الشرق من التصوّر الفنّي إلى الاستكشاف الرِّحَلي
ما فتئ الشرق، بمناخاته وجغرافيّته وناسه، يلهم غير أديب أوروبي رسمَ شخصيّات أعمالهم وابتكار موضوعاتهم الشعريّة والسرديّة منذ ما ينوف عن القرن ونصفه. فتراوحت كتاباتهم بين حقائق موضوعيّة وانطباعات مَن أدهشه مكان جديد ومختلف، من غير إقصاء ما تسرّب من أخبار الأساطير عن سحر الشرق وقداسته؛ فالجغرافي إليزيه ريكلو (1830-1905) يصف ساحل جبيل (بيبلوس) بأنّه الشاطئ البهيج الذي تمرّغت الشهوة المقدّسة عند قدميه.
إزاء هذه الصور الانفعاليّة الجميلة، لا تخلو مدوّنة الرحّالة من ملاحظات جديرة بالانتباه حول مدن مرّوا بها أو عاشوا فيها، مثل وصف الصحافي والرحّالة غبرييل شارم (1850-1886) محاكاةَ بيروت لأوروبا أو "تَفَرنُجها"، قائلاً: "إنّ بيروت بذلت ما في وسعها لتكون صورة عن أوروبا التي لم تعاينها بالعين المجرّدة فقد كوّنت عنها صورة خياليّة". وهي ظاهرة واكبت تطوّر المدينة في تلك الحقبة.
قبل سنوات (أي في 1843) يعبّر دو نرفال عن نفوره من البيوت البيروتيّة العالية الشبيهة بالحصون، وقبله بعقد يقول التاجر الفرنسي إدوار بلونديل: "بالرغم من المظهر البهيج الذي تتجلى فيه بيروت من البحر، يجب ألّا نتوقّع، كما أوحى معظم الرّحالة الذين يزورون الشرق للمرّة الأولى، بأن يضارع جمال المدينة من الدّاخل ما أوحته لنا رؤيتها من الخارج... تتّسع الشوارع المتاخمة للبحر... لكن، كلّما توغّلنا في الداخل، صارت الشوارع أضيق وأكثر التواء ومظلّلة بعدد لا يحصى من القناطر المنخفضة المظلمة". غير أنّ ما سجّله أكثر من رحّالة هو أنّ بيروت امتازت عن مدن عربية أخرى في تلك المرحلة، بميلها إلى بناء البيوت المرتفعة (من طبقتين أو ثلاث طبقات)".
الانفعال بالمكان، بغير مجانبة الواقعيّة، دفع بماكسيم دو كان ليكتب قائلاً: "بيروت مدينة لا تضاهى، ليس المدينة نفسها فهي فقيرة ولا شيء فيها يثير الفضول، ولكن الريف الذي يحيط بها وغابة الصنوبر والطرقات المزروعة بأشجار الصبّار... لا بل قل منظر المتوسّط وقمم لبنان التي تغطيها الأشجار... إنها الملاذ المرجو للمتأمّلين والخائبين".
كرم الضيافة العربيّة، وغياب الأسرّة والكراسي والطاولات العالية
سهّل تطوّر ماكنة البخار ظروف السفر البحري. ومهما يكن من أمر الاختلاف البيئي والاجتماعي والأنثروبولوجي بين المناطق التي زارها الرحّالة الأوروبيون، فقد أجمعوا على أمرين: النور (بدلالتيه الروحيّة والفيزيقيّة) وكرم العرب. لم يكن دو كان يؤمن "إلا بالشمس وقوافل الجمال ومشاهد الطبيعة الخلّابة". أما لامارتين فقد رأى في الشرق أرض التوراة والضياء، وكان يفكّر به ليحيي ذكريات شبابه المسيحيّة، وليلمس آثار الله المرسومة. وفي تلك البقعة المقدّسة التي وصلها من مرسيليا، يصف ضيافة عائلة فلسطينيّة واستقبالها الحميمي له.
ينقل الباحث بيير غوردا (1898-1969) عنه القول: "كان الشيخ بانتظارنا لدى مقدّمة منزله، بينما كان ولده الأصغر يمسك بيده المجمرة الفضيّة، ويحرق باليد الأخرى أمام جيادنا بالبخور، وكان إخوته يلقون على ثيابنا بروائح العطور، وكانت بانتظارنا وليمة عظيمة في الصالة المجاورة حيث أشجار بأكملها تتوهّج في باحة المنزل". وهذا ما يؤكده جيرار دو نرفال بأنّ الكرم سمة لدى العرب متأصّلة في طباعهم، قائلاً: "إنهم يمنحون الضيافة لكل الناس".
مهما يكن من أمر الاختلاف البيئي والاجتماعي والأنثروبولوجي بين المناطق التي زارها الرحّالة الأوروبيون، فقد أجمعوا على أمرين: النور (بدلالتيه الروحيّة والفيزيقيّة) وكرم العرب.
كان دو نرفال ولامارتين يتذوّق كلّ منهما دفء البساطة الأبويّة للعادات في التحيّة والاستقبال والعيش، حيث يحيا الناس في الجبال البِكر وجوداً قروسطيّاً، ويعجبان بالقرى والضياع التي لها شكل أعشاش النسور، حيث يقطنها الدروز، وقد رأيا في الدروز مجتمعاً يكتنفه الغموض. وكانا يبتهجان لضجّة البازارات في بيروت ودمشق ابتهاجَهما لأبّهة الاستقبال. في قصر بيت الدين (جبل لبنان)، يستقبل الأمير بشير الشهابي لامارتين، فيصف الأديب اللقاء قائلاً: "حييناه على طريقة أهل البلد، وذلك بحمل اليد على الجبين ومن ثم على القلب".
كانت منازل بيروت –كما يوضّح قصير- حتى السبعينيّات من القرن التاسع عشر لا تخصّص غرفاً للنوم. حيث إنّ الغرف نفسها تُستخدم للنوم والاستقبال، وتُطوى الأفرشة كل صباح لتخلي المكان للأنشطة اليوميّة، ولم يكن غياب الأسرّة علامة فقر. عادة النوم على فراش يُبسط ليلاً ويُطوى عند الصباح أثارت استغراب إدوار بلونديل الذي انتبه إلى وجود أسرّة في قصر بيت الدين مصنوعة من خشب الجوز. والحال مماثلة في منزل لامارتين الذي استأجره على تلّة الأشرفية (بيروت)، فقد خلا من الأسرّة رغم فخامته.
غير أنّ مظاهر الوَفرة تبرز في نوعية الأقمشة والستائر، وفي التوشية والتطريز للشراشف. أمّا الأطعمة فكانت تقدّم على طاولات منخفضة أو على الحصير الذي يغطي الأرض. وقد يرَون بعض الجدران تكسوها البُسط مثلها كمثل الأرض، مع توزّع الدواوين والأفرشة والوسائد على جوانب الحيطان.
الشرق مصدر إلهام أدبي
بعد لامارتين وفلوبير ونرفال ودو كان بعقود، وفي عهد الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا، يكتب بيير بنوا (1886-1962) روايته "سيدة القصر اللبناني" (1924)، متّخذاً من شخصية مرجعيّة (جاسوسة) محوراً للسرد بتسمية بطلة روايته "الليدي أثلستان أورلوف". وعلى الرغم من تردّده على بيروت وعلى دارة ليندا سرسق، إلا أنّه أقام في معهد اللعازاريين في عينطورة ليكتب روايته.
يقول بنوا: "لقد تعاملت روايتي من خلال شخصيّة 'سيّدة القصر اللبناني' فقط من الجانب الذي يتناول الصراع الذي قام بين أجهزة المخابرات الفرنسية وأجهزة المخابرات البريطانيّة في ذلك الجزء من العالم. فالإنجليز بقدر ما تبدّوا حلفاء موثوقين لنا خلال الحربين العالميّتين بقدر ما كانوا خصوماً بين الحربين في تلك المنطقة".
كتب ماكسيم دو كان: "بيروت مدينة لا تضاهى، ليس المدينة نفسها فهي فقيرة ولا شيء فيها يثير الفضول، ولكن الريف الذي يحيط بها وغابة الصنوبر والطرقات المزروعة بأشجار الصبّار... لا بل قل منظر المتوسّط وقمم لبنان التي تغطيها الأشجار"
اقتُبس عن الرواية ثلاثة أفلام، أشهرها فيلم المخرج الفرنسي ريشار بوتييه "كونتيسة لبنان"(1956، تعريب محمد سويد). يعقّب محمد سويد (في مقاله "راقصة في الرمال") على الفيلم بأنه يرينا أنّ لبنان ليس بلداً وإنّما بلاد؛ فجغرافيا الحوادث واحدة في البقاع (بعلبك) وبيروت والشوف (قصر بيت الدين). وأنّ المخرج لم يبتعد عن تأثيرات الأفلام الغربية المحمّلة بانطباعات الرحّالة والإرساليين الأوائل.
تبرز إذاً، الرؤية الخياليّة للرحّالة الأدباء الرومنطيقيين منهم على وجه الخصوص؛ فهي لا تخلو من المبالغة. وقد اتّخذت رحلاتهم طابعاً مزدوج المعنى للاكتشاف والتخييل. إنّما تمثّل هذه الرحلات، على الرغم من الانطباعيّة والشطح الرومنسي، حداً فاصلاً بين "شرق فنّي" تغذّت عليه الذاكرة الغربيّة من عوالم "ألف ليلة وليلة" الغرائبيّة، وجغرافية الأراضي المقدّسة التوراتيّة. فميّزت إذ ذاك بين التصوّر والواقع في فحصها لهذا المخزون لما أُثر من أوهام عن الشرق في مخيّلة الغربيّ، لا سيّما بعد صدور كتاب شاتوبريان "الطريق من باريس إلى أورشليم". وقد أطلق بيير غوردا على هؤلاء تسمية "المبرّأين من السحر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...