تعيش الأجناس الأدبية عبر التاريخ فتراتِ تأسيس وتكريس، ثم يأتي النقاد ليضعوا لها القواعد ويجترحوا لها المفاهيم، فيعود المبدعون إليها بالعمل على الخروج على تلك القواعد عبر نصوص يسميها النقاد بالنصوص التجريبية والتحديثية لذلك الجنس الذي وُضعتْ له القواعد، فيراجع بعضهم نظرياته، كما فعل الإنشائي الفرنسي فيليب لوجون. ويتمسك غيرهم بقواعده ولا يرى في أي خروج عنها إلا ضرباً من ضروب التشويه.
وهذا ما حدث مع السيرة الذاتية منذ بدايتها مع سانت أوغسطين إلى اليوم، مروراً بـجان جاك روسو ورولان بارت وشتاو بريون وطه حسين وميخائيل نعيمة ومحمد شكري وخوزي ساراماغو وجورج أمادو وإدوارد سعيد، فانفتحت الوقائع في السيرة على التخييل لينفتح الجنس على فنون أخرى وإمكانات أخرى للقول. فنتج عن ذلك ظهور اشكال جديدة من الكتابة عن الذات او السيرة غير التقليدية.
وفي مقابل عزوف البعض من الكتّاب عن كتابة سيرهم الذاتية الصريحة مثل نجيب محفوظ، الذي لا يرى قيمة ولا جدوى في كتابة سيرته الذاتية، وارتأى أنه غير معني إلا بتدوين سيرته الأدبية، انشغل عدد من الكتاب في العالم بالحفر في ذواتهم وتمركزت جل أعمالهم حول حياتهم، ولنا في أعمال هنري ميللر ومحمد شكري أمثلة دالة على ذلك، فهُم لم يكتبوا شيئاً من خارج الذات.
مقابل عزوف البعض من الكتّاب عن كتابة سيرهم الذاتية الصريحة مثل نجيب محفوظ، انشغل عدد من الكتاب في العالم بالحفر في ذواتهم وتمركزت جلُّ أعمالهم حول حياتهم
ولعل أكثر الكتّاب الذين تمحور إنتاجه النقدي والأدبي حول ذاته وعلاقتها بالكتب وفن القراءة هو الأرجنتيني الكندي ألبرتو مانغويل الملقب بـ"جنتلمان المكتبات"؛ فبرغم أنه لم يخل كتاب له من حضور ذاته، لأن منطلقات إنتاجه كلها ذاتية، فإنه أقدم سنة 2020 على إنجاز كتاب سيرذاتي سماه "حياة متخيّلة" ترجم مؤخراً إلى العربية ونشر عن دار الساقي.
فأي معنى للتخييل في السيرة الذاتية؟ وأي علاقة لفن السيرة الذاتية بالحوار الصحفي؟ وما الذي قاله من جديد ألبرتو مانغويل لم يسبق أن ذكره؟ وما أهمية هذا الكتاب ضمن منجزه في الكتابة؟
السيرة الذاتية الحوارية: في بنية الكتاب وشكله
لئن عرّف فيليب لوجون السيرة الذاتية بأنها "حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته، بصفة خاصة"، فإن مواطنه الفرنسي جورج ماي عمل في كتابه "السيرة الذاتية" على التقرّب من مفهوم السيرة الذاتية بتبيان الفوارق التي تفصلها عن الأجناس الأدبية الحافلة بها، كالرواية والمذكرات واليوميات. وتمحور الحديث عند النقاد في الغالب حول موقع المتكلم وهويته، ولم تنشغل كثيراً بدور الحوار الأدبي والصحافي في تطوير هذا النوع من الكتابة الذي كابد من أجل انتزاع صفة الجنس الأدبي.
أنتج تاريخ الصحافة في علاقتها بالأدب أعمالاً سيرذاتية خالدة، بعض هذه الأعمال أدارها شخص واحد، وبعض آخر أدارها أكثر من شخص، وهي كتب سيرذاتية يتموقع فيها الصحافي كمحفّز لذاكرة الأديب لكي يتحدث عن نفسه، وكأن بالأديب يبحث عن ذرائع ما لقول الذات أو استعراضها. ويمكننا هنا التذكير ببعض النماذج الغربية والعربية؛ أولها كتاب الكاتب الأمريكي هنري ميللر " اعترافات هنري ميللر في الثمانين" والذي أعدته معه الناشرة كريستيان دي بارتيا، ونقله إلى العربية التونسي خالد النجار، والذي صار يمثل واحداً من أهم مؤلفات هنري ميللر ومدخلاً هاماً لفهم كتاباته.
لعل أكثر الكتّاب الذين تمحور انتاجه النقدي والأدبي حول ذاته وعلاقتها بالكتب وفن القراءة هو الأرجنتيني الكندي ألبرتو مانغويل الملقب بـ"جنتلمان المكتبات".
أما عربياً فيعتبر كتاب "حوار" لمحمد شكري الذي أعده كلٌّ من الزبير بن بوشتي ويحيى بن الوليد، والذي نشر على حلقات في جريدة "القدس العربي" قبل أن ينشر في كتاب، كتاباً مهماً في هذا النوع. وقد سبق أن أطلقتُ سلسلة من هذه الكتب الحوارية السيرية نشر منها "هكذا تحدث فيليب لوجون" و"هكذا تحدث واسيني الأعرج" و"نصر حامد أبو زيد: التفكير في وجه التكفير". وكلها تنضوي تحت ما يسمى بالحوار السيري، وهو حوار نهري يحاول أن يتوغل في حياة الضيف ومنجزه، انطلاقاً من دراسة مسار حياته وكتبه، وهذا ما أقدمتْ عليه سيغلنده غايزل مع ألبرتو مانغويل.
ولعل انتشار هذا النوع من الكتابة السيرية عبر السؤال التحفيزي يأتي من قناعة الكتاب والفنانين بما أورده الناقد الفرنسي جورج ماي في كتابه السيرة الذاتية "الذاكرة مترجرجة خؤون"، ومن ثمة فإن استعادة الحياة الشخصية بشكل فردي وذاتي مشوبة دائماً بأمرين: غلبة البياض بسبب النسيان والتعرض للتوقف بسبب الملل وعدم الالتزام.
سيرة ذاتية متخيّلة؟
يبدو الحديث عن التخيّل في حديثنا عن السيرة الذاتية أمراً غريباً؛ فلماذا نطلق عليها سيرة إذا كانت متخيلة؟ ولماذا لم يلجأ الكاتب إلى أنواع أخرى واضحة كوصف كتابه بالرواية أو القصة أو حتى "التخيّل الذاتي"؟
لم يعد الحديث عن السيرة الذاتية بصفتها وثيقة واقعية أمراً دقيقاً منذ سبعينيات القرن الماضي وانتشار الكتابات النقدية حول الكتابة عن الذات التي ضربت قاعدة "الصدق" باعتباره رديف الحقيقة. ولعل جورج ماي كان أكثر النقاد وضوحاً في هذا الشأن عندما كتب "قضية الحقيقة في السيرة الذاتية هي على الأرجح قضية زائفة، إذ أن السيرة الذاتية، من حيث هي سيرة ذاتية، مجافية للحقيقة. وأول أسباب ذلك أن كاتب السيرة الذاتية لا يستطيع مهما فعل أن يتخلص من الحاضر الذي يكتب فيه ليلتحم بالماضي الذي يرويه".
وحوّر في مفهوم الصدق باعتباره حقيقةً إلى معنى مجازي: الصدق الفني، معتمداً على أبحاث المنظر جان سترابونسكي في سيرة جان جاك روسو، حيث كتب: "إن روسو إذ يروي لنا قصة حياته، إنما يريد أن يرسم صورةً لروحه، ولكن ما يستقطب اهتمامه ليس الحقيقة التاريخية، إنما هو انفعال نفس تدعو الماضي ينبجس فيها. ولئن كانت الصورة كاذبة فإن الانفعال الراهن على الأقل غير كاذب.... الأثر الأدبي لم يعد همه أن يدفع بالقارئ إلى التصديق بحقيقة قائمة… بل إن الكاتب يكشف عن نفسه بواسطة أثره ويدعو القارئ إلى التصديق بحقيقة تجربته الذاتية".
هذا الموقف ذاته ما نجده عند المغربي محمد شكري في آخر جزء من سيرته الذاتية الممهورة بـ"وجوه"، عندما صدم قرّاءه، وخاصة المتحمسين، لجزئها الأول "الخبز الحافي"، والنقاد الذين حاكموه من أجلها أخلاقياً، حتى منعت يوماً ما من التدريس في الجامعة الأمريكية في القاهرة وتعرض للتهديد بالقتل مرات في الثمانينيات.
يسجل محمد شكري في "وجوه": "إذا كنت اليوم أعتز بأن أكون شاهداً على طفولتي وطفولة أمثالي، فلأنني أحاول، في معظم كتاباتي، أن أستجلي الملبّد فيها؛ إذ كل حياة إنسان لها غيومها، وبعضها ينقشع وبعضها يبقى في السديم. كذلك هي الطفولة. إن قرية طفولتي لم يعد لها وجود حتى في ذاكرتي: شاشة مشوشة، تتشبّح عليها صورتي وصور الآخرين والأشكال التي لا شكل لها. تلك الطفولة التي دمرتها الهجرة. لا أؤمن بمن يدّعي أنه يعرف كل طفولته... لا يمكن معرفة كل شيء عما يمكن أن تؤثر به طفولة الكاتب على كتاباته. فهو يكتب طفولته من خلال رجولته ونضجه. إنه يحوّم حولها؛ لأن كل طفولة هي رهينة برجولتها. والطفل 'الطفل' لا يفهمه إلا الطفل".
من هذا المنظر نفهم عنوان كتاب ألبرتو مانغويل باعتباره مشروعاً تخيّلياً للبحث عن الذات عبر التذكّر المدفوع بأسئلة الآخر الذي تمثله سيغلنده غايزل، التي كانت تحاوره عن بعد عبر ما تتيحه التكنولوجيا في ظل فترات الغلق التي فرضتها جائحة كورونا، فلم تجلس الصحافية أمام الكاتب مباشرة، لذلك تكتب في مقدمتها: "كان من المفترض أن ألتقي بألبرتو مانغويل في زوريخ في مايو 2020 من أجل حوارات هذا الكتاب، لكن وفاء 'كوفيد' ألغى الرحلة المقررة، ما اضطرنا إلى إجراء الحوارات عبر شاشة الكومبيوتر بدءاً من أبريل 2020 ، كان ألبرتو جالساً إلى مكتبه في نيويورك في الساعة التاسعة صباحاً، وكنت أنا في برلين في الساعة الثالثة بعد الظهر".
هذه الإشارة لاختلاف الوقت على قدر كبير من الأهمية في مقاربة كتاب في السيرة الذاتية؛ فلا شيء حقيقي وصادق كلّ الصدق حتى الواقع، فكيف بالكتابة عنه؟ فالكاتب ومحاورته في ذات اللحظة في زمنين مختلفين، ولذلك وفقاً لهذه المفارقة علينا أن نتلقى هذه السيرة وأن نفهم كلمة "متخيّلة".
يقول ألبرتو منغويل في هذا الصدد: "لا أستطيع أن أكتب عن ألبرتو مانغويل في الساعة السابعة من هذا الصباح لأنني لست ألبرتو مانغويل في الساعة السابعة صباحاً، بل ألبرتو مانغويل وهو يتحدث في الساعة 9:17 إلى سيغلنده، وسوف يكون عليّ الالتزام بحدود تلك التجربة، لأن أي تجربة أخرى مررت بها، بما في ذلك التجربة الشخصية، تتشكل عبر الخيال في ذاكرتي. فليس لدي أي دليل على أن تصوري عن نفسي في السابعة صباحاً صحيح إلا في خيالي".
ويعود ألبرتو مانغويل في آخر الكتاب ليضرب مفهوم الواقع باعتباره مجرد حكاية عن الواقع وليس هو الواقع؛ فيجيب المحاورة التي تذكره بقولة جوان ديديون: "نحن بحاجة إلى القصص لكي نعيش": "نحن نعطي للعالم معنى من خلال القصص، لكننا نفبرك هذه القصص. فما نسميه بالواقع أو الأحداث التاريخية لا يتعدى كونه السردَ الذي نقدمه عن ذلك الواقع وتلك الأحداث التاريخية".
ومن غرائب هذه السيرة التي وصفت بالمتخيلة أن صورة الغلاف التي تظهر ألبرتو مانغويل تحت الثلج هي نفسها ملتبسة، فالناشر العربي يضع ملاحظة مثيرة في الصفحة التقنية للكتاب يقول فيها: "حاولنا جاهدين البحث عن المصور صاحب حقوق صورة الغلاف، لكن دون جدوى. نرجو ممن يعرفه إفادتنا بأي طريقة للتواصل معه".
قراءة هذه العبارة التي قد تكون مجرد عبارة واقعية يبرر فيها الناشر وضع صورة للكاتب دون الإشارة إلى صاحبها، في ضوء متن الكتاب نفسها، تجعلنا أمام فرضية لعبية؛ أي أن هذه العبارة جزء من متن النص نفسه باعتباره أن الهوية تبقى ملتبسة والحقيقة ضائعة، فالذكاء الاصطناعي اليوم في إمكانه أن ينتج مثل هذه الصور التي لا أصل واقعي لها.
من هو ألبرتو مانغويل في سيرته المتخيلة؟
يمكننا بعد أن ننتهي من قراءة هذه الكتاب أن نستخرج محورين؛ ألبرتو مانغويل الإنسان، وألبرتو وأفكاره وآراءه. وفي البحث عن الإنسان يمكننا أن نلتقط تفصيلاً صغيراً لنقرأ به كل سيرته: إنه رجل يعيش معنا اليوم ولم يمتلك هاتفاً نقّالاً.
عندما ذكّرته الصحافية أنه لا يملتك هاتفاً نقّالاً، أجاب مانغويل إجابة بسيطة وتبدو مقنعة: "ولماذا أحتاج إلى هاتف نقال؟ لو أنني طبيب جرّاح يضطر الناس للاتصال به في الثالثة صباحاً لإجراء عملية عاجلة، لحملت هاتفاً نقالاً. لو أنني أمتلك سيارة لكان الهاتف مفيداً في حال تعطلت السيارة في مكان ناء. لكنني لا أمتلك سيارة. وحتى لو أن أحداً مات، فما الفرق بين أن أتلقى النبأ عبر الإيميل أو عبر الهاتف النقال؟".
"نحن نعطي للعالم معنى من خلال القصص، لكننا نفبرك هذه القصص. فما نسميه بالواقع أو الأحداث التاريخية لا يتعدى كونه السردَ الذي نقدمه عن ذلك الواقع وتلك الأحداث التاريخية".
هذه هي الإجابة التي تلقتها الصحافية عن استغرابها، لكن الإجابة الحقيقية التي تلقيتها كقارئ قائمة في ذلك التفصيل الذي ذكره أثناء الحوار بأنه غادر بيت العائلة في التاسعة عشرة ولا أحد كان يسأل عنه. يقول: "لا يمكن أن أفهم كيف يتجاهل الآباء أبناءهم ولا يشعرون بالقلق عليهم. ولكن عندما كنت في التاسعة عشرة وخرجت إلى العالم وحيداً، لم يكن أهلي يعرفون بمكان وجودي. ولو أنني قتلت في مكان ما، ما كان لهما أن يعرفا إلا بعد بضعة أشهر".
هذه القراءة المتخلصة من خطيئة بث المعلومات عبر أسئلة التوجيه تحررنا من سلطة إدارة الحوار والبحث عن إجابات جديدة لأسئلة طرحت وردّ عليها في غير محل الإجابة بطريقة لا واعية.
يتوقف الكتاب طويلاً في البداية وفي النهاية عند غياب العائلة والوالدين تحديداً، فألبرتو مانغويل مذ كان رضيعاً تربّى على يد المربية التشيكية ـ الألمانية إيلين، وهي فتاة يهودية من عائلة فارة من جحيم النازية إلى الأرجنتين، انتحر والدها وتوفيت أمها واختارها والده لتكون مربيته بعد أن تقدمت لإعلان كان نشره.
في ذلك الوقت يقول ألبرتو مانغويل: "كان عمري ثلاثة أشهر وكنت أعاني من الربو، وعندما جاءت إيلين لتقدم نفسها لم أتوقف عن الصراخ. ثم قالت: لا أريد هذه الوظيفة. لكن أبي كان قد أخذ جواز سفرها وقال لها: لن أعطيك جواز السفر إلا إذا أتيت معنا إلى إسرائيل. قام باختطافها تقريباً، وهكذا أصبحت إيلين مربيتي" .
لقد تربى مانغويل على يد مربية وصفها بالمخطوفة من والده الذي عُيّن سفيراً في إسرائيل. لم تكن إيلين تتحدث الإسبانية، لذلك لم تعلمه إلا الإنكليزية والألمانية، وكانت تقرأ له بهاتين اللغتين، وهذا ما أحدث فجوة بينه وبين والدين غير مهتمين به أصلاً، كانا يتكلمان الإسبانية التي لا يتقنها.
وكأنّ تخلص ألبرتو مانغويل من الهاتف الجوال هو تخلص من العائلة أو انتقام منها، وشكل من أشكال قتل الأب؛ الرقيب الذي يطارد أبناءه عادة بالاتصال. وهذا العقوق والخروج عن العائلة يمكن تفسيره أيضاً بالنصوص التي قرأها منذ طفولته وتعلق بها إلى الآن من "ذات الرداء الأحمر" إلى دون كيخوته، فمانغويل كان في حاجة لإثبات ذاته بعيداً عن عائلة لم يخترها ولم تختره ولم تهتم به.
يقول متحدّثاً عن "ذات الرداء الأحمر": "نعم تماهيت بشكل كبير مع ذات الرداء الأحمر. شعرت أن عصيانها يأتي من رغبتها في أن تعيش حياتها الخاصة. ومن دون ذلك العصيان ليس هناك قصة؛ فلو أنها ذهبت مباشرة إلى منزل جدتها وأعطتها الكعكة، فإن القصة ستنتهي بعد جملة واحدة" .
هذا النزوع نحو الخروج عن المؤسسة والمغامرة سار عليه بقية حياته، فلا يكاد مانغويل يستقر ببلد حتى يغادره حاملاً على كتفه مكتبة من أكبر مكتبات العالم؛ أكثر من أربعين ألف كتاب جابت الأرجنتين وكندا وأمريكا قبل أن تستقر اليوم في البرتغال.
يتحدث مانغويل عن حياة التشرّد التي عاشها في باريس دون أي تظاهر بالألم، فنجل الدبلوماسي الكبير كان يعش في مخازن للكتب، ويبقى لأيام بلا أكل ولا شرب، وتعطف عليه أحياناً بائعات الهوى لتدعونه لمشاركتهن طعامهن. يتحدث عن سفره الأول إلى فرنسا بعد أن ترك الجامعة ودار النشر التي عمل بها بالأرجنتين ليصل إلى باريس، حيث اشتغل محرراً في إحدى دور النشر: "كنت أتلقى أجراً شهرياً متواضعاً أعيش عليه. أسكن في غرفة صغيرة في الطابق الأخير من أحد الفنادق في سان جارمان. كان الطابق عبارة عن عليّة تسكنها العاهرات. كنّ في غاية اللطف معي، ويشاركنني طعامهنّ في بعض الأحيان".
لكنه عاد إلى الأرجنتين للعمل في صحيفة سرعان ما غادرها بعد استفحال الديكتاتورية العسكرية ليعود إلى باريس مفلساً. هناك تعرف على صاحب مخزن لبيع الكتب متخصص في الفن الآسيوي والإفريقي، فشغله في مخزن الكتب.
يبدو الحديث عن التخيّل في حديثنا عن السيرة الذاتية أمراً غريباً. لماذا نطلق عليها سيرة إذا كانت متخيلة؟ ولماذا لم يلجأ الكاتب إلى أنواع أخرى واضحة كوصف كتابه بالرواية أو القصة أو حتى "التخيّل الذاتي"؟
يروي مانغويل قصة تلك التجربة قائلاً: "في مؤخرة المخزن كانت هناك خزانة وُضعت بالقرب منها فرشة أنام عليها. وهكذا كان لدي مكان أنام فيه. أتذكر فرحتي في ذلك الصباح الأول عندما تلقيت الأجر الأسبوعي وتمكنت من تناول إفطار عامر في أحد المقاهي. شعرت بمتعة لا توصف. عندما يكون لديك راتب عادي ومنزل عادي فإن وجبات الإفطار كلها تكون متشابهة. لكن إن لم تأكل لعدة أيام فإن الأمر يكون غاية الروعة ويبدو العالم عندئذ بهياً".
لم يكن هذا الشاب الجائع والمتشرد في باريس والذي تمرّد على التعليم الجامعي والمؤسسة التعليمية وغادرها مبكراً سوى ألبرتو مانغويل، ابن أول سفير للأرجنتين في إسرائيل. هذا الرجل اليهودي بالصدفة والذي لم يختن من دون إخوته والذي لم يعلم بأنه ينتمي إلى عائلة يهودية إلا في سن الثامنة، يعشق الثقافة العربية ويقول في سيرته أنه تمنى أن يكون عربياً.
حول هذا الشغف بالثقافة العربية وعالم القراءة وسحرها وحول الحب والخيانة والدين والالتزام والديكتاتور والهوية المركّبة للرجل المكتبة وطقوسه يدور القسم المقبل من مراجعة "حياة متخيلة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع