ارتبطت الذاكرة الشعبية العربية منذ أمد بعيد بفن الحكواتي، لما يقوم به هذا الفن من تحقيق الإمتاع والتسلية من خلال صور ذهنية يخلقها الحكّاء وتعمل على مداعبة الخيال، فضلاً عن تمجيد الذات العربية عبر قصص البطولات والشخصيات المثالية التي يزخر بها التراث الشعبي والأدب الشفاهي. فالحكواتي، ببساطة، فنٌ يقوم على سرد المآثر القديمة بلغة قريبة إلى الناس وبأسلوب مشوّق جذّاب.
شخصية الحكواتي التي انقرضت منذ فترة طويلة، بعد أن كانت تفيض المقاهي الدمشقية بالحضور من أجل سماع حكاياته المثيرة؛ تسعى الحكواتية المغربية آمال المزوري إلى إحيائها من جديد، من خلال الأمسيات التي تروي فيها حكايات مثيرةً مرتديةً ثياباً خاصةً كما كان يفعل الحكواتي القديم.
استعادة تراث الحكواتي
على الرغم من صغر عمرها (25 عاماً)، إلا أن آمال المزوري دلفت إلى عالم الحكواتية واستطاعت أن تجعل لها بصمةً خاصةً في سرد القصص التراثية، وأصبحت تشارك في كثير من المهرجانات الثقافية ومهرجانات التراث في المدن المغربية والعربية، واستطاعت أن تعقد أمسيات حكي تستعيد فيها تراث الحكواتي الذي كان أحد أوجه الثقافة الشعبية البارزة.
تسعى الحكواتية المغربية آمال المزوري إحياء شخصية الحكواتي التي انقرضت منذ فترة طويلة، من خلال الأمسيات التي تروي فيها حكايات مثيرةً مرتديةً ثياباً خاصةً كما كان يفعل الحكواتي القديم
كانت جدّتها بالنسبة لها، كنز "الحواديت" الذي تنهل منه، فقد اعتادت في طفولتها أن تذهب إليها لتستمتع بحكاياتها، وقد شكل ذلك الحكي المكوّن الأول في شخصية الحكواتية التي آلت إليها، فضلاً عن اهتمامها الجارف بالقراءة في كتب التراث. كما أن سيطرة شخصية الحكواتي/الرجل على هذا الفن، وجعله حكراً عليه وحده، دفعها إلى استعادة هذا الفن الذي ابتدعته في الأصل المرأة، وكانت تؤديه الأمهات والجدّات عبر الزمن لتسلية الأبناء والأحفاد.
لذلك تُرجع المزوري الحكاية إلى أصولها الأولى، حين كانت المرأة هي أصل الحكاية، وكانت شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" الحكّاءة الأيقونة التي حملت على عاتقها مهمة الحكي من أجل النجاة بحياتها والعيش في سلام.
طنجة... مدينة الحكّائين التاريخيين
بدأت الحكواتية الصغيرة مسيرتها مع الحكي بسرد الحكايات المكتوبة من تأليفها بلغة أدبية رشيقة تعتمد فيها على الخيال والصور المدهشة وتحمل رسائل عن الألفة والمحبّة والتعايش، لا سيما في قصصها القصيرة المطبوعة والموجهة إلى الصغار. أما الاتجاه إلى فن الحكواتي فقد كان الخطوة الأهم في مشوارها الأدبي، فارتدت عباءته وحملت معها الحكايات لتلقيها على الجمهور في كل مكان.
الحكواتي، فنٌ يقوم على سرد المآثر القديمة بلغة قريبة إلى الناس وبأسلوب مشوّق جذّاب.
تروي المزوري قصصاً بعضها يعتمد اعتماداً كبيراً على تراث مدينتها التاريخية طنجة، التي خرج منها ابن بطوطة الرحالة العربي الشهير الذي جاب الدنيا وحكى واصفاً ما شاهده من عادات الشعوب وتقاليدها، ووصف الملابس والطعام والبيوت. كان ابن بطوطة أيضاً حكّاءً، لكنه اعتمد اللغة المكتوبة فقدّم واحداً من أهم الكتب في أدب الرحلة هو "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". وطنجة مدينة الحكّائين التاريخيين، إذ أنجبت الروائي محمد شكري صاحب "الخبز الحافي"، وعاش فيها أدباء عظام أمثال تينيسي ويليامز، وبول بولز، وجان جينيه، وألبرتو مورافيا، وإرنست همنغواي.
مَلَكة الحكي المشوّق
لا غرو أن تلد طنجة المزيد من الأدباء الحكّائين، سواء في الأدب المكتوب أو الأدب الشفاهي، وفضلاً عما ترويه المزوري من حكايات شعبية مستقاة من الأدب الطنجي، فهي تنهل أيضاً من التراث الشعبي العربي، وهناك حكايات أخرى بعضها تستلهمه من الواقع المعيش مع توظيف بعض الشخصيات التراثية، وتحرص على أن تصاحبها في أمسياتها فرقة موسيقية تراثية تعتمد على آلات عربية مثل العود، وذلك من أجل خلق مناخ مناسب لأحداث الحكاية وتكون للموسيقى فيها تأثيرات وجدانية على الجمهور.
ما ساعد المزوري على تحقيق النجاح والتألق أنها تجيد فن الحكي وتحمل ملَكة الحكي المشوّق التي كانت تتوفر لدى الحكّاء القديم، فالموهبة والشغف هما ما يحملانها إلى المدن والعواصم، وهما ما يجذبان الحضور في كل أمسية تقيمها سواء أكانت للكبار أم للصغار، لا سيما أنها تعتمد بشكل أساسي على التراث الشعبي الذي يفيض بالقصص المدهشة، ولذلك تُعدّ سفيرةً للتراث في جولاتها التي شملت العديد من المدن داخل المغرب وخارجه، وتسعى جاهدةً إلى إعادة إحياء فن الحكواتي، لما له من أهمية أدبية وثقافية كبيرة في بث الوعي بالقيم المثلى، كالتسامح والتعايش والبطولة والمروءة.
الحكواتي... ومسميات أخرى
الحكواتي من الفنون الأصيلة التي تُحدث تأثيراً نفسياً إيجابياً في الوجدان، ويعتمد على ثقافة وأسلوب الحكّاء الذي يضطلع بمهمة الحكي ومسامرة الناس، وقد عُرف أيضاً باسم المحدّث، والراوي، واشتهر في العراق، والشام، والمغرب، والقاهرة التي دار في أحيائها الشعبية حاملاً الربابة وعازفاً عليها مقاطع موسيقيةً وفواصل سريعةً بين فقرات الحكاية.
في دمشق اعتادت المقاهي وجود شخصية "الحكواتي"، منذ مطلع القرن التاسع عشر، وهو رجل يجلس في المساء على أريكة مخملية مرتفعة عن بقية رواد المقهى، تكون في الصدارة بما يتيح المتابعة لجميع الحضور، فيحكي قصصاً مشوّقةً عن أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة، والظاهر بيبرس، وغيرها من حكايات شعبية يندهش منها رواد المقهى.
عازف الربابة الحكّاء
لا ترتبط المزوري بمكان محدد كعازف الربابة الحكّاء في حواري القاهرة، ولا حكواتي الشام الشهير في مقاهي دمشق، ولا حكواتي ساحة جامع الفنا في مدينة مراكش المغربية، فهي تتنقل بين المدن العربية فتجدها في طنجة، وفي الشارقة، والقاهرة، ومسقط. تعقد الأمسيات وتطلق الحكايات محملةً بعبق التراث والثقافة الشعبية القديمة، متخذةً من الشخصيات التاريخية وبطولاتها أفقاً تنسج منه الحكايات.
اعتادت في جولاتها أن تلتقي شرائح وثقافات مختلفةً من الجمهور، لكنها في كل مرة كانت تلحظ الدهشة من الجميع، نظراً إلى أنها تسترعي الانتباه بحكاياتها الشيّقة وأسلوبها المميز. وفي سردها للصغار، سواء بالمحكيّة أو المكتوبة، استطاعت أن تبتدع قصصاً تحمل العبرة والتسامح والقيم المثلى، وغيرها من المعاني الإنسانية التي تقوم بتوجيهها إلى النشء من خلال رؤية إبداعية تنأى عن توجيه النُصح المباشر.
الحكي من أجل قيم التعايش
تحرص الحكواتية الصغيرة على التواصل المباشر مع الجمهور، وعلى الرغم من صِغر عمرها، إلا أنها تُعدّ من أبرز الحكواتيات في العالم العربي، وتسعى إلى إعادة إحياء التراث الشعبي الذي يزخر بالكثير من قصص البطولات والنوادر، وتعيد في الوقت نفسه إحياء فن الحكواتي الذي اندثر ولم يعد يجد الاهتمام لا سيما مع انتشار التلفزيون والسينما، ثم هيمنة مواقع التواصل وثورة الإنترنت.
يحضر الجمهور بكثرة ويلتف حولها في إحدى الساحات المغربية، فتحكي وهي في حالة من الحضور الذهني الخالص، فتشير بيدها وتصف بعينيها وتجعل الجمهور مركّزاً مع حركاتها وإشاراتها، وحينما تعتلي خشبة المسرح في إحدى المدن العربية، فإن الجمهور يظل مشدوهاً وفي حالة شديدة من التركيز مع الحكي المشوّق وهو يصيخ السمع لحكاياتها المدهشة التي تعبّر عن قيم اجتماعية تعمل على نشرها بين الناس.
الحكواتي من الفنون الأصيلة التي تُحدث تأثيراً نفسياً إيجابياً في الوجدان، ويعتمد على ثقافة وأسلوب الحكّاء الذي يضطلع بمهمة الحكي ومسامرة الناس، وقد عُرف أيضاً باسم المحدّث، والراوي
تمثّل هذه القيم فحوى الرسالة التي تحملها في جولاتها وتطمح من خلالها إلى تعزيز قيم السلام والتعايش بين المجتمعات الإنسانية من خلال الحكايات الشعبية. تشارك المزوري بهذه الحكايات في كثير من المهرجات المعنيّة بالتراث، مثل مهرجان "أيام الشارقة التراثية" الذي شاركت فيه من قبل وقدّمت فيه أمسيات حكي وشاركت في ندوة بعنوان "الحكاية الشعبية في التراث الثقافي العربي".
تنمية مهارات التعبير
لا تهمل المزوري الطفل العربي، وترى أن الحكي للأطفال من المهام التي يجب أن يضطلع بها الحكّاء ولا يتوقف عند الحكي للكبار فحسب، لأن مستقبل أي مجتمع يبدأ من الطفل، ولأن نشر القيم الإيجابية لا بدّ أن يبدأ من حلقات الحكي للأطفال، حتى تكون هناك أصداء أو ثمرات اجتماعية مستقبلية نتيجةً لذلك.
تقول المزوري إن "الحكاية الشعبية لا يقتصر دورها على إغناء أدب الطفل فقط، بل لها أهمية كبيرة في التربية والتعليم أيضاً، إذ يُعدّ الحكي والاستماع إلى القصص من أبرز الأنشطة التي تساهم في تطوير مهارات اللغة والتعبير لدى الأطفال، وفي تعزيز الخيال والإبداع، ويعمل على بناء الثقة بالنفس والرقي بالثقافة الشفهية".
نظراً إلى هذا الدور الذي تضطلع به في ساحة الثقافة الشعبية المغربية؛ نشرت دورية "الرائد" المغربية المعنية بثقافة المعنيين بالطفل في عدد آب/أغسطس 2023، مقالاً بعنوان "الحكواتية المغربية آمال المزوري... رحلة كفاح للنهوض بالحكاية الشعبية"، كما خصصت المجلة غلاف العدد نفسه لصورة الحكواتية الصغيرة.
ومما جاء في المقال الذي كتبه حسن أمحيل أن "الحكاية الشعبية جزء أساسي من أدب الطفل، فهي تقدّم عوالم خياليةً تساعد الأطفال على استكشاف العالم وفهم القيم والمبادئ بطريقة بسيطة وسلسة. إنها تراث يحمل في طياته الحكمة والدروس وكل ما يعزز التفكير الإبداعي، وتعمل على تنمية مهارات الاستماع والتعبير لدى الصغار. وبفضل جهود الحكواتية المبدعة آمال المزوري يتم تقديم هذا النوع من الأدب بأسلوب حديث وجذّاب يلائم تطلعات الأطفال واحتياجاتهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون